تلك اللحظة التي ربما تصادف فيها فتاة تراها لأول مرة، في المترو أو الأتوبيس، لحظة تلتقي فيها العيون، وتخطر على بالك فكرة: هل هي التي انتظرتها؟ هل سيأتي الحب العظيم وتتفجّر براكين المشاعر الملتهبة؟ هل هي من سألقي بكافة أحمالي في حجرها، فتبتسم وتخفيها بحركة بارعة من يدها؟ تتحوّل الرحلة العادية إلى خيال رومانسي سريع ودافئ، لكن للأسف سرعان ما تأتي المحطة التالية وتتبخّر معها كل الاحتمالات، وينتهي "الحب المفاجئ" في زحام الخطوط والمحطات وصراخ الأطفال ورائحة بول القطط.
ألم يخطر ببالك يوماً، ماذا لو كُتبت النهايات السعيدة لكل قصة حب عابرة في المواصلات؟ ماذا لو كل "لمحة إعجاب" تحقّقت، ووجد كل عاشق "محطته" الأخيرة، في خط سكّة حديد، أو طريق مزدحم؟ عندها سنكون قد امتلكنا روايات حب متتالية، كتبت أولى صفحاتها في ميكروباص أو على مقعد مترو، واستمرّت حتى المحطة الأخيرة في فاصل من اللحظات السعيدة التي قد تتكرّر أو لا تتكرّر أبداً، قصص حب فريدة، تستمرّ ثواني أو دقيقة على أقصى حد. هذا هو الحب الوحيد الذي لن يخيب ولن يكذب فيه أحد على أحد، أو يخيب فيه أحد ظن أحد. حب صرف كالحبر الأزرق في الأقلام.
أعترف أنني من روّاد المترو بحكم قُربه من الموقع الصحفي الذي أعمل به، وفي كل يوم أرى آلاف الوجوه وبينهم وجه قد لا تنساه ذاكرتي. ربما اعتدت على الزحمة ولكن ما يُخيفني هو أن "يدوس" أحدهم على "الكوتشي الأبيض" المضطهد ممن يرتدون الأحذية السوداء ذات الورنيش اللامع، ولا يرفعون أقدامهم عنه حتى يتحول لونه للبني. كان المترو مزدحماً كعادته. فُتح الباب، فوجدت عدداً لا بأس به من المصريين السعيدين بوصول المترو في استقبالي. تخيلت أن من بينهم خمسة أشخاص على أقل تقدير سوف يدوسون على "الكوتشي الأبيض" وهم يغنون أغنية المطرب الشعبي أحمد عدوية "ما بلاش اللون ده معانا راح تتعب أوي ويانا".
نسيت موضوع "الكوتشي" وأحمد عدوية كاملاً بمجرد أن وقعت عيني عليها.
يحدثني قلبي بأنها أحبتني في محطة "ثكنات المعادي"، كان يمكن أن تكون تلك الفتاة بداية شيء عظيم لو لم يفرّق بيننا "جمال عبد الناصر". أقصد المحطة التي تحمل الاسم... مجاز
كانت جميلة للغاية، تشبه في ملامحها الفنانة مديحة كامل، أجمل وجه مرّ على شاشة السينما، تتصفح رواية بهدوء بين ضجيج الناس وصوت الإعلان عن المحطة القادمة. كنت أختلس النظرات لها بين الحين والآخر، وهي منهمكة في القراءة حتى لاحظت. ابتسمت ابتسامة خفيفة كادت أن توقف قلبي والمترو نفسه قبل أن يصل إلى محطته. يحدثني قلبي بأنها أحبتني في محطة "ثكنات المعادي"، بينما عقلي يقول على طريقة محمود درويش: "هي لا تحبك أنت. هي تحب بطل روايتها، وهذا كل ما في الأمر". وجدت نفسي في حيرة: لماذا لا تتكرّر اللحظات الرائعة؟ كان يمكن أن تكون تلك الفتاة بداية شيء عظيم لو لم يفرّق بيننا "جمال عبد الناصر". أقصد المحطة التي تحمل الاسم.
*****
قصص حب صغيرة دائماً تضيع بين تذاكر العودة وجدول المحطات، لكن ماذا لو لم تكن هذه مجرد صدفة أو ضربة حظ؟ ولما هذا الحظ لا يستمر حتى المحطة الأخيرة؟
الحب أحياناً يضيع على حافة الطريق وفي المواصلات، بين نظرات عابرة في المترو أو صمت مهيب بينك وبين فتاة في الميكروباص، تبدأ فصول القصة في ثانية وتنتهي في الثانية التالية. الحب على باب الأتوبيس، على خطوط الدفع في المولات التجارية، في الحفلات العائلية، في المظاهرات المليونية، في الصدف المفاجئة، وبينما ينتظر الجميع بفارغ الصبر وصول دورهم ليدفعوا أو يندفعوا باتجاه هدفهم، فجأة تلمحها في الصف الآخر تقف في الزاوية، تبتسم للهاتف في يدها. ربما صادفها "بوست" ساخر أو صورة مضحكة وهي تتصفح فيسبوك أو تراقب حسابات من تتابعهم على تيكتوك، وتشعر بشيء غريب بداخلك وكأنك تعرفها من قبل. بعد دقائق يأتي الأتوبيس الخاص بها، أو تصرخ المحاسبة: "اللي بعده"، أو يزداد الحشد، ويأخذها بعيداً عنك، وفي طريق غير طريقك، وتتركك مع سؤالك: "هل كان يمكن أن تكون هي؟".
قصة حب من شباك القطار تلك اللحظة حين تنظر من شباك قطار على رصيف المحطة، وتجد فتاة واقفة تنتظر قطاراً آخر، تلتقي العيون للحظة، تنقلك إلى عوالم قديمة من الرومانسية، تتخيل أن تقفز من الشباك لتعترف بحبك فجأة، أو أن تكتب رقم تلفونها على بخار زجاج النافذة مع قلب مدمّى، لكن القطار يتحرك، واللحظة تنتهي مع صرير العجلات على القضبان.
أو ربما قصة حب وثّقتها شجرة، شاء حظها العاثر أن تزرع في حديقة عامة، ووجدت عليها قلوباً وأسماء محفورة، مثل "أحمد وحنان" بينهما سهم في المنتصف يُوحي بأنهما أرادا أن يظل حبهما خالداً في أذهان رواد الحديقة، فهم ليسوا أقل من "روميو وجولييت"، وعلى التاريخ أن يذكر قصتهما حتى ولو كانت محفورة فوق جذع شجرة، لكن القصة خلف هذا السهم مجهولة، لا أحد يعرف هل تزوجا؟ أم انتهت قصة الحب كما انتهت أوراق الشجرة في الخريف؟
الحب يقف في الساحات المفتوحة، في الأنفاس الملوّثة التي نتبادلها، في الفضاءات العارمة، يتجوّل بلا هدف، ليمنح تلك اللحظات المثالية، ويختفي بعدها إلى الأبد... مجاز
هناك أغرب "التواريخ العاطفية"، تلك الأسماء التي تجدها محفورة على باب حمام محطة قطار، على جدار تصف مهدم في صعيد، على كتاب مدرسي عتيق، مرمي في الشارع أو عند بائع الكتب المستعملة، تجعلك تتساءل: لماذا كتب "كريم" اسمه بجانب "منة" هناك؟ هل كان تحدياً لإثبات أن مشاعره صامدة حتى في أصعب الأماكن؟ أم أن كريم أراد أن يخلد لحظة لن تعود؟
قد تجد نفسك في نهاية يوم طويل، واقفاً في محطة ما، وفي لحظة تشبه المعجزة قد تلتقي بعينين متعبتين لكن مبتسمتين في الوقت نفسه، تنشأ لحظة غريبة عندها، وشعور غامض بأنكما مشتركان في التعب نفسه، وكأن صمتكما لغة لا تحتاج إلى ترجمة، لكن الرحلة تنتهي فجأة، وأقدامكما تقود إلى طريقين مختلفين، حتى يصل كل منكما إلى منزله، ويستلقي على سريره ينظر للسقف ويفكر في الآخر الذي لا يعرفه وقابله صدفة.
كل هذه القصص تظل أحداثاً منسية، وكأن المواصلات صنعت لنقل الناس بعيداً عن بعضهم البعض، أكثر من تقريبهم، بينما الحب يسافر من محطة لأخرى، وفي كل محطة نقابل من نحبهم أو نعيش معهم وهماً جميلاً لثوان قليلة، وربما لو سمح الوقت لظهر بينهم من ينتظرنا كما ننتظره، ولكن الدنيا لا تمنح لنا فرصة معرفة هؤلاء الغرباء.
ربما لو قابلت أنا فتاة المترو أو قابل أحدكم الفتاة في نفس القطار، أو صادفت تلك الفتاة التي كانت تنتظر الأتوبيس مرة ثانية، لربما كانت بداية قصة حب سنخلدها على شجرة في حديقة ما، ونكتب أسماءنا جميعاً في الأسفل "أحمد وحنان"، ونضع في المنتصف سهم وبجواره قلب.
الحب يقف في الساحات المفتوحة، في الأنفاس الملوّثة التي نتبادلها، في الفضاءات العارمة، يتجوّل بلا هدف، ليمنح تلك اللحظات المثالية، ويختفي بعدها إلى الأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه