عندما بدأت ترى أحلاماً عن الشتاء والضباب ظنت بأنها قد شُفِيت. كانت قد سمعت كلاماً عن قوة الفصول التطهيرية وحضرت دروس يوغا على الإنترنت وعرفت ما عرفته: إنها صدمات الطفولة. أحياناً ما كانت تبكي بعد حصة تأمل أو ركض، وتعرف بأنها تلك الصدمات الملعونة أيضا، وبأنها لا زالت عالقة في الطفولة وذلك بالضبط ما يفسد حياتها.
ولكننا كنا نتحدّث عن الأحلام. في الحلم كانت ترى سماء ضبابية وقطرات مطر تتجمّع على نافذة مِنْ زمن سابق، وتشمّ رائحة مزبلة حَيِّهِم المألوفة، وتنادي أمها، غَيْرَ أن أمها لا تأتي. قال لها الرجل الذي أحبته: "أنت تحتاجين إلى قَدْرٍ من الحب لا أملكه".
لقد كان محقاً طبعاً؛ تأتي إليك امرأة في الثلاثين وتطلب منك أن تعوّضها عن ماضيها وكل شيء، ولكن ذلك أمر متعب. تتواصل نداءاتها لأمها ثم تتخيّل أن هناك من سيدخل غرفتها، وتسمع حركة في مقبض الباب وعندها تستيقظ. في الحلم كما في الحياة، كانت الأمور تتعقد في لحظات غير مبرّرة، ولذلك لم تحبّهما معاً، واهتمت بالأفلام فقط.
والآن ما الذي كانت تبحث عنه في كل تلك الساعات المحمومة من الغياب والتحديق البعيد؟ يمكنها أن تضحك لهذا السؤال تقريباً. بدأت طفولتها بالمسلسلات والأفلام المغربية والمصرية، ثم انتقلت إلى كل شيء، وجاء زمن المراهقة فأحبت ممثلين من على الشاشة أيضاً. كان زمنها زمن رومانسية عميقة ومضحكة. يقول الممثل التركي جملة عاطفية عامرة بالغيرة والغضب وتكرّرها مع صديقاتها، وفي الليل تحلم بأنه يقولها لها هي بالضبط، ويرتعش قلبها من قوّة التوق والحب.
إن هذا من أكبر ما نخسره مع تقدمنا في العمر، هذا الصبر والحماس لإنجاز فيلم ذهني كامل، وقد قال لها واحد من "رجالها" فيما بعد، بأنها تعيش في ذهنها فقط، وكان يظن بأن ذلك شيء يخصّه. لقد كان الأمر عندها إذن، ساعة بدأت الأفلام تفسد حياتها أو تتطفّل عليها متسلّلة إليها من ثقب.
كان زمنها زمن رومانسية عميقة ومضحكة. يقول الممثل التركي جملة عاطفية عامرة بالغيرة والغضب وتكرّرها مع صديقاتها، وفي الليل تحلم بأنه يقولها لها هي بالضبط، ويرتعش قلبها من قوّة التوق والحب... مجاز
كانت قد بدأت بالعمل مُدَرِّسة للتاريخ في مدرسة ثانوية منذ أن صارت في السادسة والعشرين، وعندها فقط تمكنت من مغادرة منزل والديها، مع أنهم في الأفلام يُحَلّقون فرادى في أعمار أبكر. جرت خلافات أبويها أمام عينيها دائماً قبل رحيلها، وباتت المصالحات تتم بسببها، فقد كبرت وصارت تستطيع التدخّل: "اعتذر منها يا أبي". "لا تبالغي يا أمي. قد يكون حشّاشاً لحد ما ولكنه زوجك".
يغرق والدها في سحابات من الحشيش منذ أن رأت هي العالم، ولكن الأم لا تنسى أن تلومه كل مرة، وأن تُطْلِقَ بعض الصراخ. يخرج شقيقها الأصغر من المنزل عندها وهو يصفق الباب، أما هي فكانت تشاهد المسلسلات بسمّاعات أذن، ثم اضطرّت ذات مرة أن مرّة تتدخّل بينهما، وباتت لا تضعها أبداً خوفاً مما قد يحدث.
قال لها الرجل الذي أحبّته: "أنت تحتاجين إلى قَدْرٍ من الحب لا أملكه"
- "هل تضربني؟"
- "ملعون أبوكِ وكل أسلافك الملاعين".
جرى الدم على جبين أمها التي تلقت ضربة بسيجار "السبسي" الخشبي الطويل، ودار الأب حولها مفزوعا في حلقات ثم خرج.
- "هل آخذك إلى الطبيب؟"
- "خذيني إلى مكان بعيد ودعيني لا أراكم أبداً".
في الأفلام تكون كل الجراح جَديرةً بأن تُشْفى. ربطت الأم عصابة على رأسها وبدأت مرحلة "الأنين" التي ستطول لأيام ووالدها يسمع ويصمت، غير أنهما يتصالحان. قال لها شقيقها وهو يشدّ على شعيرات ذقنه الناشئة: "لا أريد أن أبقى هنا"، ورأت على هاتفه الشخصي فيديوهات لمهاجرين سريين يَصِلون إلى أوربا وهم يضحكون ويسجدون لله، غير أنها لم تتدخل أبداً، عدا أنه قد كان ثمة دائماً شيء لتشاهده.
عرفت بعدها في زياراتها للبيت بأنه صار يتدرّب على السباحة بشراسة واستماتة، وتخيّلت مشاهد الصراخ والفوضى التي تنتظرهم. كانت تزور بيتهم خلال العطلة الصيفية وتتبادل الأحاديث السلمية مع والدتها في المطبخ، وذات مرّة جاء اليوم الذي أحست فيه بأنه قد تَمَّ امتصاص روحها في نظرة واحدة. ربما ليس تحديداً، ولكن ذلك يمكن أن يكون قد حدث أيضاً. قالت لها أمها فجأة: "أنت لا تحبين البقاء معنا؟"، كانت الجملة قِنَاعاً، وقد تردّد في داخلهما السؤال الحقيقي: "أنت لا تحبيننا؟"، ودبّت في الجو ريح زنخة فظيعة من الإحساس بالذنب.
"ولا تَنْظُر للغرقى هذه المرّة، لا شأن لك بمن يغرق": قالت له
في الأيام التالية ساءت حالتها كثيراً، وصارت مغادرة السرير وحدها مهمة شاقة، فعرفت بالغريزة أن الخطر قد حل. حلمت بنظرة والدتها الطويلة الصعبة وهي تنام على مقعد الحافلة عائدة إلى بيتها، وتمطى السم حولها في الهواء، وكذلك الرائحة العدائية والحشرات الشرهة التي خرجت من الذاكرة. لماذا أصرّت أمها على أن تلتقي عيناهما على ذلك النحو؟ إنه خرق تام للقواعد، وبعده ربما كان سيأتي الأسوأ، وقد يخرج من فمها هي بعض الأسئلة المهمة أيضاً: "من أنتِ؟"، ثم تتبخّر لوحة الدفء العائلي المرتجلة تماماً في ذلك الهواء الفاسد.
صاحت بها زميلة لها أثناء دراستها الجامعية: "أنتِ يا فتاة المزبلة!"، كانت تلك نكتة مقبولة حينها، فقد كانتا فقيرتين معاً وقرأتا كتباً عن النظام الاقتصادي العالمي، وصرختا في المظاهرات للترويح عن النفس. جاء موظفو الشركة إلى حيّها في تلك الأيام، وتحدثوا بثقة عن ما أسموه بـ "المَطْرَحِ البيولوجي"، وبأنهم سيُشَغّلون طوابير العاطلين في القرية، وبدا الجميع سعداء على وجه التقريب.
كان شقيقها واحدا منهم طبعاً، وقد أكله فيما بعد الانتظار، وظهر في ريبورتاج صوّرته قناة محلية بعد سنوات وهو يسب الشركة حانقاً كما لو كانت زوجة والده. كان مشهد الصحفيين مضحكاً وهم يغلقون أنوفهم ويستجوبون السكان المحتجين على الربوة المشرفة على المطرح، ويكون السؤال غالباً شيئاً من قبيل: "كيف تعيشون مع هذه المزبلة بالجوار؟"، وابتسمت هي وراء شاشة حاسوبها: "إننا نشاهد الأفلام"، لكنها كانت قد غادرت المزبلة منذ سنوات أصلاً.
أو أنها لم تغادرها حقاً؟ أغلقوا خلال مراهقتها باب المنزل ونوافذه طوال النهار ليمنعوا دخول الرائحة، وكانت موجودة طوال الوقت مع ذلك. دَخَّنَ والدها أعشابه بتركيز وشغف، وأحرقت أمها أعواد الند والبخور باستماتة، ولكن المزبلة ظلت حاضرة دائماً في هواء الغرف الخانق الذي يمكن في أي لحظة أن يشتعل.
أحياناً ما اندلعت المشاجرات والجرائم في الحي لهذه السبب فقط ودون أي عداوات حقيقية، وجاءت سيارات الدرك وكتبوا في محاضرهم أشياء عن الأسباب والدوافع، ولكن دون أن يذكروا المزبلة طبعاً. دَقَّ رجل رأس زوجته بجدار غرفتهم الحارة والرطبة، وكان يبكي عندما بَلَّغَ عن نفسه ولا يفهم ما حَلَّ بروحه. كانت المزبلة تقتلهم واحداً واحداً، أو تدفعهم للجنون حين تظهر لهم فجأة حتى في الأماكن التي لا يتوقعونها.
جرت خلافات أبويها أمام عينيها دائماً قبل رحيلها، وباتت المصالحات تتم بسببها، فقد كبرت وصارت تستطيع التدخّل: "اعتذر منها يا أبي". "لا تبالغي يا أمي. قد يكون حشّاشاً لحد ما ولكنه زوجك"... مجاز
غسل شقيقها جسده بماء البحر كل يوم خلال الصيف، وكان يشمّ الرائحة في مسامه كلها، وفيما بعد جاءه وسواس أن الآخرين يشمونها أيضاً، ثم سرعان ما يلفظونه وينفرون منه. ربما كان ذلك جَرَّاءَ ألم عاطفي، مع أن هذه أمور لا تناقش بين الأشقاء عادة، وإلا فأين كان يذهب بقلبه الشائك طوال الوقت؟
كان ذلك الوسواس يرافقها هي أيضاً؛ غادرت المزبلة بعد سنوات، ولكن المزبلة لم تغادرها أبداً. هذه تقريباً جملة تتذكرها من مسلسل تركي. سدّدت إيجار شقة صغيرة وأغلقت أبوابها بحرص شديد، ثم استسلمت لسيل الأفلام مرّة أخرى، دافعة اشتراكات كل المِنَصَّات الممكنة، أما أخوها فقد عثر على سرّ وجوده في الماء، وكان أن تَشَرَّبَهُ بكل جسده. قال لها في زيارتها الأخيرة: "أسبح أسرع منهم كلهم". وعرفت عندها أنهم كثيرون جداً، وأنهم يتربّصون بفرصتهم ولن يوقفهم أحد، وفهمت عندها أحلامها المنحوسة عن الشتاء.
ربما تأتي الأحلام من الخوف أيضاً. جَرَّبَ شقيقها أن يرمي بنفسه إلى البحر ليسبح حتى مدينة سبتة مع مئات غيره، وكانوا يتحيّنون الضباب. كانوا قد أصبحوا يشكلون أخوية مكشوفة وكثيرة العدد: شباب وشابات يتدربّون على السباحة والهروب ويُرَبُّونَ الأمل. في المرة الأولى عاد أدراجه من تلقاء نفسه، لأنه رأى واحداً يغرق بالقرب منه، وأحس فجأة بأن البحر قد خانه أو أنه هو لم يَفْهَم البحر؛ لقد كان يحسبه صديقاً من نوع ما.
أغلقت عليه أمه باب الغرفة بالمفتاح بعدها، وطَبَّبَتْهُ ودعت عليه وله، وهو يرتعش لأنه ظن أن الغريق كان يبتسم له مخرجاً لسانه. لماذا يموت شخص وهو يبتسم؟ جاءت هي أيضاً إلى المنزل العائلي برأسها المملوء بالأحلام السيئة، وجلست لتلومه كي تبدو عاقلة كالآخرين، ولكنه سألها عن حالة الطقس وهو يحدّق بالجدار كعادة كل أسرتهم. كانت النوافذ مغلقة طبعاً، وبالخارج امتدت المزبلة الراسخة والضباب، وعرفا معاً أنه سرعان ما سينهض ويجد طريقة للهرب.
"ولا تَنْظُر للغرقى هذه المرة، لا شأن لك بمن يغرق": قالت له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع