في القرن الثالث الهجري ظهرت في مدينة نيسابور في خراسان (شرقي إيران)، فرقةٌ صوفية أُطلق عليها "الملامَتية" أو "الملامية". هذه الفرقة اعتُبرت ثورة على كل الطرق آنذاك، إذ رفضت الممارسات السائدة وارتكزت إلى أفكار مختلفة.
اختارت الملامتيةُ هذا الاسمَ لما يتضمنه من معنى عميق مشتق من الملامة واللوم والنفس اللائمة لصاحبها دائماً، المُؤنّبة والمُحاسبة له على كل ما يصدر منه. كما يُبرز الاسم أيضاً معنى الجهاد بالمفهوم الصوفي أو الملامَتي، وهو جهاد النفس ولومها ونهيها عن الخوض في الباطل، حسبما يذكر أبو العلا عفيفي في كتابه "الملامتية والصوفية وأهل الفتوة".
بمعنى آخر، فإن الصفات التي يجب ألا يتصف بها الملامتي هي أكثر من الصفات التي ينبغي أن يكون عليها، والأفعال التي يُطالب بتركها أهم من تلك التي يُطالب بالقيام بها، والتعاليم التي يفرضها الملامتية على مريديهم هي سلسلة من النَواهي في تحريم كذا أو كراهية كذا أو إنكار كذا؛ لذا فالملامتي مُطالب مثلاً بألا يُظهر عبادته أو ورعه وزهده أو علمه أو حاله، وهو لا يتكلم في الإخلاص بقدر ما يتكلم في الرياء الذي هو نقيض الإخلاص، ولا يتكلم في فضائل النفس وكمالاتها بقدر ما يتكلم في عيوب النفس وآفاتها ورعوناتها.
اختارت الفرقة هذا الاسم لما يتضمنه من معنى عميق مشتق من الملامة واللوم والنفس اللائمة لصاحبها دائماً، المُؤنِّبة والمُحاسبة له على كل ما يصدر منه، كما يُبرز الاسم أيضاً معنى الجهاد بالمفهوم الصوفي أو الملامتي
وليس ببعيد أن يكون اسم الملامتية متصلاً ببعض الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر اللوم، كقول الله: "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ"، وقوله: "يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ". ويشرح عفيفي، أن الآية الأولى تُعلي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المُؤنبة المحاسبة له على كل ما يصدر منه، وهي النفس الكاملة في الاصطلاح الملامتي.
وتذكر الآية الثانية من صفات عباد الله الذين يحبهم ويحبونه أنهم أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومة لائم ولا يكترثون بمدح الناس وذمهم. يقول عفيفي: "إذا فهمنا الجهاد بالمعنى الصوفي أو الملامتي، أي جهاد النفس، أدركنا أن الآية تشير إلى أخص صفات الملامتية، وأنها تصلح لأن تُتخذ أساساً لمذهبهم وتكون مصدراً لاسمهم".
شيوخ الملامتية الأوائل
ويذكر جيب الله حسن أحمد، في دراسته "الملامتية: ثورة الصدق على الكذب"، أن مؤسس الملامتية وشيخها الأول هو حمدون القصار (ت 271هـ)، وكان معروفاً بالفقه والزهد والورع، ومع كل ذلك كان مشهوراً بغمط نفسه وإحقارها والتقليل من شأنها، وهي الطريقة التي اختُصّ بها، ومنه انتشر طريق الملامتية.
ولا يقل أبو حفص الحداد عن القصار نشاطاً في نشر المذهب الملامتي إن لم يزد عنه، فما نقله أبو عبد الرحمن السلمي (ت 412هـ) في رسالته "الملامتية وغلطات الصوفية"، عن أبي حفص، من أقوالٍ تحدد معالم الطريق الملامتي، يربو على ما نقله عن حمدون القصار، بل إن السلمي يلقب أبا حفص أحياناً وبصراحة بأنه شيخ هذه الطريقة، وينسب إليه وحده بعض أصول الملامتية، خاصة أنه أول من أظهر الطريقة، وكان لجولاته دور كبير في نشر مذهبه خارج نيسابور وخاصة إلى بغداد.
وثالث ثلاثة في نشر هذا الطريقة هو أبو عثمان الحيري، والذي وُلد في الري، ورحل إلى نيسابور، ونزل على أبي حفص الحداد وأقام عنده، وتخرج على يديه، وزوّجه أبو حفص ابنته، وظل في نيسابور إلى أن توفي بها سنة 298هـ.
بيد أن تعاليم الملامتية لم تعد بعد انتهاء القرن الثالث الهجري قصراً على مدرسة نيسابور، بل تجاوزتها إلى أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، بفضل أتباع رجال الملامتية الأولين الذين انتقلوا إلى بقاع عديدة منها بغداد، وكثير من شيوخ خراسان الذين كان لهم اتصال دائم بهم، بحسب أحمد.
ثورة على أدعياء التصوف
يرى أحمد، في الدراسة سابقة الإشارة، أن ظهور الملامتية ما هو إلا تعبير عن ما وصل إليه أدعياء التصوف في ذلك العصر من انتشار وغلبة، لذا كان الملامتية بمثابة رد فعل معاكس، وثورة تصحيح ضد هذا الركام المتراكم من الزيف والتضليل في الطريق الصوفي، لكن هذه الثورة كانت ممارسة عملية قبل أن تكون علنية.
مع مرور السنوات، تطورت عن الملامتية طريقة أطلقت على نفسها "القَلَنْدَرية"، وأقدم شيوخها قطب الدين حيدر التّوني.
ويشرح الدكتور محمد أحمد عبدالمولى، في كتابه "العُيّار والشُطّار والبغاددة في العصر العباسي"، أن الملامتية كانوا يتعمدون الظهور بين الناس بما يُشعر أنه منافٍ لظاهر الشرع حتى يستجلبوا الذم والملامة، وذلك لأنهم يعتبرون الدين معاملة بينهم وبين الله، وسراً لا يطلع عليه أحد سواهم، بل لا تطلع عليه نفوسهم، لأن رؤية الأفعال في مذهبهم مُبطلة للأفعال.
ولذلك، خالف الملامتيةُ الصوفيةَ في كثير من تعاليمهم وطقوسهم، فلم يلبسوا الخرقة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الزّهد والورع، ولم يحضروا مجالس السماع، ولم يبيحوا لمريديهم التواجدَ والظهورَ بمظهر الجذب أو أي مظهر يُشعر بالدعوى أو يجلب الشهرة، وذلك ستراً لحالهم.
الفتوة والصوفية
وإذا كانت الملامة هي الركن الأول للتصوف الملامتي، فإن الفتوة هي ركنه الثاني. وبحسب عبد المولى، تُطلق الفتوة في العُرف على مجموعة من الفضائل التي تميز المتصف بها عن غيره من الناس، ومنها الكرم والمروءة والشجاعة والصدق والوفاء والأمانة والرحمة، وبهذا المعنى الخُلقي وُجدت الفتوة.
وعندما نشأ التصوف في القرن الثاني الهجري اتصلت الفتوة به وانصبغت بصبغته، وعلى الأخص في البلاد الإسلامية ذات الحضارات القديمة، لا سيما فارس. ولما ظهر التصوف ظهرت فيه فضيلة التقوى مع مجموعة من الفضائل الأخرى المستمدة من الفتوة.
ولما كمُل نموّ التصوف في القرنين الثالث والرابع الهجريين، قويَت فيه الفكرة الأساسية التي امتازت بها الفتوة العربية القديمة، وهي فكرة الإيثار، واعتبرها الصوفيةُ من أوائل مبادئهم، وأضافوا إليها صفات أخرى متصلة بها، مثل كف الأذى وبذل الكرم وترك الشكوى وإسقاط الجاه ومحاربة النفس والعفو عن زلات الغير، وغير ذلك من معاني التصوف، حتى صارت الفتوة عندهم درجة من درجات الصديقين المؤمنين.
لذا، فإن نظرية الملامتية في الملامة هي فرع من نظريتهم في الفتوة، ومعظم تعاليمهم مستمدة من تقاليد الفتيان وتعاليمهم، فالملامتية في نظرهم هم فتيان زهاد ومسلمون حقيقيون، تظهر فيهم الفتوة بآثارها الظاهرة والباطنة أكثر من ظهورها في غيرهم من فرق التصوف الأخرى.
ومن هذا المنطلق، كان الملامتية يرون أن المُستحق لاسم الفتوة لديهم هو "من كان فيه اعتذار آدم، وصلاح نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق إسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود، وسخاء محمد، ورأفة أبي بكر، وحمية عمر، وحياء عثمان، وعِلم علي، ثم مع هذا كله يزدري نفسه، ويحتقر ما هو فيه، ولا يقع بقلبه خاطر مما فيه أنه شيء، ولا أنه حال مرضي، يرى عيوب نفسه ونقصان أفعاله وفضل إخوانه عليه في جميع الأحوال"، بحسب عبد المولى.
القلندرية والملامتية
ومع مرور السنوات، تطورت عن الملامتية طريقة أطلقت على نفسها "القَلَنْدَرية"، وأقدم شيوخها قطب الدين حيدر التّوني (ت 618هـ). ويقال إن التّوني أباح لأتباعه تناول الحشيش الذي أُطلق عليه في ما بعد "مداومة حيدر"، وصار ذلك دستوراً للطريقة، مع تقاليدها الأخرى التي تتمثل في حلق شعرِ الوجهِ كله، وأحياناً حلق اللحية وإعفاء الشارب، على عكس السنة الإسلامية، إضافة إلى عدم التقيد بالآداب الاجتماعية المتعارف على اتباعها، وإهمال أداء الواجبات الشرعية، فضلاً عن لبسهم جلود الضأن، حسبما يذكر الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع".
وربما كان ذلك دافعاً لبعض المصنفين الملامتية لأن يشبّهوا أتباع "القلندرية" بالشعر الزائد الذي ينبغي التخلص منه، ورأوا أن طاعة الناس لهم عبث، واعتبروا "صلوات القَلَندرية" من بين شيئين "لا يطرقان أبواب السماء".
الملامتية و"تشاؤم" الشيعة
وليس بغريب ولا ببعيد اتصال الملامتية والقلندرية بالتشيع، شأن المشارب الصوفية الأخرى، غير أن تشابهاً غريباً يرصده الشيبي بين الملامتية والشيعة يتمثل في التشاؤم الذي انبعث من الملامتية، ورأى خصومهم أنه آت من المجوسية، وذهب بعض الباحثين إلى أن "نظرة الملامتية إلى النفس الإنسانية إنما هي نظرة رجال متشائمين تحمل طابعاً غير إسلامي".
نظرية الملامتية في الملامة هي فرع من نظريتهم في الفتوة، ومعظم تعاليمهم مستمدة من تقاليد الفتيان وتعاليمهم، فالملامتية في نظرهم هم فتيان زهاد ومسلمون حقيقيون، تظهر فيهم الفتوة
والملاحظ والمتعارف عليه في الشيعة أنهم طائفة حزينة، لأنهم تحدثوا باستمرار عن الضغط الذي نُفّذ عليهم طوال الحقبات المختلفة، أكثر من أي أمة أخرى، فقد لازم الحزن الشيعة منذ مقتل الحسين إلى اليوم، وهم، ما زالوا يحيون مناسباتهم الأليمة في إخلاص دائب وحزن لا ينقطع، كما يذكر الشيبي.
وهناك شيء آخر يجمع بين الطرفين، فالملامتية، كما الشيعة، "لم يقولوا بوحدة الوجود أو بالحلول أو بالاتحاد وما شاكل ذلك من الأقوال التي شاعت على ألسنة الصوفية الذين تكلموا في الفناء".
بيد أن الجامع الحقيقي بين الشيعة والملامتية يتمثل في "التقية" (إخفاء العقيدة في حالات ضرورية) والتي لها شبه بين الملامتية على صورة صوفية، فالملامتية مثلاً تطلب من مريدها "ألا يظهر عبادته أو ورعه أو زهده أو حاله".
وبحسب الشيبي، هذا التقارب بين مبادئ الملامتية والشيعة ظاهر من الأخبار التي وردت عن عدد من الأئمة، فالشيخ المفيد، أبرز متكلمي الشيعة، ذكر في كتابه "تصحيح اعتقادات الإمامية"، أن التقية هي "كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكالمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدنيا أو الدين". وكذلك ذكر الصدوق القمي (ت عام 381هـ) في كتابه "الاعتقادات" أن التقية واجبة "من تَرَكها كان بمنزلة من ترك الصلاة، لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه، فقد خرج عن دين الله ودين الإمامية وخالف الله ورسوله".
ومن هنا، يتبين التشابه العجيب بين التقية الشيعية والملامة، مع الفارق الذي يستوجبه طابع كل من المشربين، فأصحاب الملامة يصونون سرهم عن أن يظهر عليه اللائمون لهم، وكذلك يفعل الشيعة في البلد الذي يخالف ساكنوه عقيدتهم.
ويذكر الشيبي، أن ما يسري على الملامتية وعلاقتها بالتشيع يسري على القلندرية أيضاً، ويضاف إلى هذا أن شيخهم قطب الدين التوني كان علوياً ينتهي نسبه إلى عبدالله بن موسى بن جعفر، وشيعياً اثنا عشرياً مُبالغاً في تطبيق مبدأ التبرؤ، بحيث كان التحاق المريد بالطريقة مشفوعاً بإعلانه جهاراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه