شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يسقط حكم العسكر، والإخوان والعلمانيين واليسار واليمين

يسقط حكم العسكر، والإخوان والعلمانيين واليسار واليمين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأربعاء 6 نوفمبر 202411:29 ص

يمكن وصف ما نحن فيه على مستوى الخطاب، بالفوضى العارمة. وهنا أقصد بـ "نحن"، مجموع العرب وليس الفلسطينيين أو اللبنانيين فحسب. هذه الفوضى تتجلّى يومياً بما يصدر عن إعلامنا الفصائلي ووسائل التواصل، وحتى المواقع التي تبدو في ظاهرها رزينة أو ذات سمعة جيدة، من تحليلات لا تمتّ للواقع بصلة، وغير متماسكة أو مقنعة للمتابع الجاد، ناهيك عن أنها متغيرة ويقودها الحدث، وليست ثابتة وتحاول هي قيادته أو على الأقل التحكّم به.
من جانب آخر، فإن هذه الفوضى تتمظهر في المقارنة بين خطاب مَن هم على مدرّجات المشاهدة، مع مَن هم داخل الملعب، وكيفية تغيّر الخطاب تبعاً لموقع مُنتج هذا الخطاب وليس تبعاً لموقع متلقيه. أعني أن الكاتب، أو منتج الخطاب أو الموقف، يغيّر موقفه حسب تعرّضه هو للكارثة، أو على الأقل حسب موقعه الجغرافي منها، وليس حسب موقع شعبه وقضيته.

يمكننا إيضاح هذه الفكرة بمثالين من الواقع نفسه، حتى ولو كانا اعتباطيين، أو بدا أنهما كذلك للوهلة الأولى: الأول هو الدعوة للقتال والتحمّس له ودعمه، ما دام هذا القتال في ساحة الآخرين البعيدين، ثم الدعوة للمفاوضات وطلب التهدئة، حين يصير القتال قريباً، أما الثاني فهو لغوي صرف، ومستمد من ساحات المساندة؛ فقد تدرّج الخطاب تنازلياً، أو ربما تصاعدياً، (حسب أيديولوجيا القائل أو المستمع) من "وقف العدوان على شعبنا في غزة" إلى "وقف العدوان على الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني"، إلى "وقف العدوان على فلسطين ولبنان وسوريا"... وهكذا، ودون أن يلهمنا ذلك للتفكير في البحث الجدّي عن مخرج ما، يؤدي إلى وقف حقيقي لهذا العدوان، أو عدم امتداده إلى أماكن إضافية أخرى.

الفوضى تتمظهر في المقارنة بين خطاب مَن هم على مدرّجات المشاهدة، مع مَن هم داخل الملعب، فالكاتب، أو منتج الخطاب أو الموقف، يغيّر موقفه حسب تعرّضه هو للكارثة، أو على الأقل حسب موقعه الجغرافي منها، وليس حسب موقع شعبه وقضيته

لكن فوضى الخطاب هذه ليست نتاجاً للحرب على أية حال، بل على العكس تماماً، فإن التعاطي مع الحرب ليس إلا انسجاماً مع السياق الموغل في قدمه، والذي يمكن رصده في الكثير من المحطات المفصلية في تاريخ منطقتنا، وحتى في الوضع الطبيعي الهادئ والخالي من الحروب. لكن قبل الخوض في أسباب هذه الفوضى، علينا أن نورد بعض الأمثلة العينية غير القابلة للإنكار، ولو كانت في نظر البعض قابلة للتبرير، بل وغاية في العقلانية:

أحاجج دائماً أن العقل العربي الحديث، وأقصد بالحديث، ذلك العقل السياسي الذي نشأ بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وبدء تشكل الدول القطرية العربية، هذا العقل مكوّن من حجرات منفصلة عن بعضها، أو لنقل إنه عبارة عن رفوف، كتلك الموجودة في خزائن المطبخ، وأن كل رفّ مخصص لغرض أو سلعة ما، بحيث لا يمكن، أو ليس مستحباً، الخلط بين هذه الأغراض وخربشة أماكنها أو تداخلها مع بعضها البعض.

وكما أن خزانة المطبخ تحتوي رفّاً للبهارات وآخر للصحون، فإن العقل العربي يحتوي رفّاً للفيزياء ورفّاً للدين ورفاً للقيم... وهكذا. وتبعاً لذلك، فإن أي قرار أو حكم يتخذه هذا العقل لا يكون منسجماً مع قرار آخر تم اتخاذه في حقل مختلف أو في زمن مختلف، بما يشكل بُنية متكاملة ومتوافقة من منظومة معرفية أو أخلاقية متسقة مع بعضها. لذلك فأنت ترى شخصاً يكرّس حياته للهتاف ضد حُكم العسكر مثلاً، لكنه، وفي نفس الوقت، يُقدّس عبد الناصر، أو حتى صدام حسين.

كثيرون من يعلنون عداءهم الاجتماعي لحركات الإسلام السياسي، ويعتبرونها سبباً في تراجع الأمة من منظور قومي، لكنهم يصطفون معها سياسياً، ولا يتورّعون عن إقصاء من ينتقدها. "لا لحكم الإخوان في الأردن ونعم لحكمهم في فلسطين"، "العلمانيون فاسقون والماركسيون كفرة، لكنهم معنا ضد السلطة"، "الشيعة أعداء الأمة والدين وإيران مجوسية، لكن تحالفاتنا ثابتة".

من النظرة الأولى تجد هذه التناقضات في الخطاب أحقيتها وتبريرها بوجود عدو تاريخي مشترك، هو الحركة الصهيونية و احتلالها لأرضنا، وهذا في جزء صغير منه صحيح، لكن لو حاولنا الغوص أكثر في تحليل هذه الظاهرة من التخبط، فإننا نعثر على أسباب تتعلق بمؤثرات أخرى لا تقل أهمية، بل وتفسّرها بشكل أوضح وأكثر منطقية.
السلطة السياسية في بلادنا وغير بلادنا، ودون أدنى شك، أكثر ذكاءً من معارضاتها، وذلك بحكم امتلاكها مقادير القوة والتحكم، وأجهزة الأمن وموارد المال. لكن هذا الذكاء وهذا الاستحواذ له جانب سلبي، يتعلق بضرورة إنتاج مثقف حقيقي قادر على صياغة خطاب فكري وثقافي مقنع وموجِّه للجمهور. لا لزوم لذلك، إن صحّ التعبير، ما دامت هذه السلطة قادرة على إدارة المجتمع بالترغيب أو الترهيب أو كليهما، ومع ذلك فهذه السلطة تصدّر خطابها السياسي بشكل يومي عبر الإعلام، وهو واضح اللغة والنوايا، ويستطيع جرّ شرائح من المجتمع لقبوله والتماهي معه، وشرائح أخرى لرفضه ومعارضته.

العقل العربي الحديث مكوّن من حجرات منفصلة عن بعضها، أو لنقل إنه عبارة عن رفوف، كتلك الموجودة في خزائن المطبخ، وأن كل رفّ مخصص لغرض أو سلعة ما، بحيث لا يمكن، أو ليس مستحباً، الخلط بين هذه الأغراض وخربشة أماكنها أو تداخلها مع بعضها البعض
الشرائح الرافضة لهذا الخطاب تنتج، هي أيضاً، خطابها. لكنها تنتجه تحت ضغط الحاجة لمواجهة خطاب السلطة، وليس كرؤية ضرورية لتمكين المجتمع فكرياً وثقافياً. لكن ما يعيب هذا الخطاب "السياسي بدوره" هو أنه غير مستند إلى معلومات حقيقية، كتلك التي تمتلكها السلطة عبر علاقاتها الدولية وأجهزة أمنها المحلية.
إذن، فالمجتمع يصبح نهباً لخطابين سياسيين، الأول سلطوي مدعوم بالمعلومة والقوة والمال، والثاني معارض يستمد شرعيته فقط من كونه ضد الأول، ولأنه ضد الأول فهو مرهون به ويتغير حسب تغيره، وبلغة أكثر وضوحاً ومباشرة: هو خطاب رد الفعل لا غير. هذا الخطاب القائم على رد الفعل، والذي يضع نفسه عنوة في مكان مصلحة المجتمع، دون أن يلبي شروط هذه المصلحة أو يعرّفها على أقل تقدير، يمكننا تسميته بالخطاب "الشعبوي".
أحد أهم ميزات الخطاب الشعبوي، إضافة إلى كونه رد فعل، هي القطيعة بين المعارف، كما يطلق عليها علماء الاجتماع. بمعنى أن هذا الخطاب يأتي من رفوف في الدماغ، منفصلة عن بعضها البعض، ولا يقيم أحدها وزناً للآخر في لحظة النطق بالموقف المعيّن؛ فالفيزياء والفقه يتجاوران لكن لا علاقة بينهما، والسياسة والأخلاق كذلك، والقديم والحديث والمفهوم وغير المفهوم، ما يجعل من هذه الفوضى سمة أساسية، بل ومقبولة وغير خاضعة للتقييم أو إعادة النظر.

ورغم أن هذا الخطاب يصطدم مرة تلو أخرى بالواقع إلا أنه لا يعترف بفشله بسهولة، ولكيلا يعترف بهذا الفشل، فهو يذهب إلى المكان السهل ويختبئ فيه، ثم يبدأ بإطلاق الشعارات، وأين يتموضع المكان السهل إن لم يكن في "الوطنية" والقابلة لكل التعريفات الممكنة باستثناء مصلحة المواطن وحياته وكرامته؟ فالوطنية، بعُرف هذا الخطاب، هي محاربة الاحتلال، ثم محاربة الصهيونية، ثم محاربة الإمبريالية العالمية التي تقف وراء الصهيونية، ثم محاربة الغرب، ثم الانتقال إلى الحكام العرب المطبّعين، ثم المتآمرين، ثم الذين خذلوا هذا الخطاب وأصحابه، وصولاً إلى المختلفين من أبناء الشعب الواحد، أي أولئك الذين من المفترض أن يتوجه هذا الخطاب لهم. نستكمل في المقال القادم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image