يمكننا إيضاح هذه الفكرة بمثالين من الواقع نفسه، حتى ولو كانا اعتباطيين، أو بدا أنهما كذلك للوهلة الأولى: الأول هو الدعوة للقتال والتحمّس له ودعمه، ما دام هذا القتال في ساحة الآخرين البعيدين، ثم الدعوة للمفاوضات وطلب التهدئة، حين يصير القتال قريباً، أما الثاني فهو لغوي صرف، ومستمد من ساحات المساندة؛ فقد تدرّج الخطاب تنازلياً، أو ربما تصاعدياً، (حسب أيديولوجيا القائل أو المستمع) من "وقف العدوان على شعبنا في غزة" إلى "وقف العدوان على الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني"، إلى "وقف العدوان على فلسطين ولبنان وسوريا"... وهكذا، ودون أن يلهمنا ذلك للتفكير في البحث الجدّي عن مخرج ما، يؤدي إلى وقف حقيقي لهذا العدوان، أو عدم امتداده إلى أماكن إضافية أخرى.
الفوضى تتمظهر في المقارنة بين خطاب مَن هم على مدرّجات المشاهدة، مع مَن هم داخل الملعب، فالكاتب، أو منتج الخطاب أو الموقف، يغيّر موقفه حسب تعرّضه هو للكارثة، أو على الأقل حسب موقعه الجغرافي منها، وليس حسب موقع شعبه وقضيته
لكن فوضى الخطاب هذه ليست نتاجاً للحرب على أية حال، بل على العكس تماماً، فإن التعاطي مع الحرب ليس إلا انسجاماً مع السياق الموغل في قدمه، والذي يمكن رصده في الكثير من المحطات المفصلية في تاريخ منطقتنا، وحتى في الوضع الطبيعي الهادئ والخالي من الحروب. لكن قبل الخوض في أسباب هذه الفوضى، علينا أن نورد بعض الأمثلة العينية غير القابلة للإنكار، ولو كانت في نظر البعض قابلة للتبرير، بل وغاية في العقلانية:
أحاجج دائماً أن العقل العربي الحديث، وأقصد بالحديث، ذلك العقل السياسي الذي نشأ بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وبدء تشكل الدول القطرية العربية، هذا العقل مكوّن من حجرات منفصلة عن بعضها، أو لنقل إنه عبارة عن رفوف، كتلك الموجودة في خزائن المطبخ، وأن كل رفّ مخصص لغرض أو سلعة ما، بحيث لا يمكن، أو ليس مستحباً، الخلط بين هذه الأغراض وخربشة أماكنها أو تداخلها مع بعضها البعض.
وكما أن خزانة المطبخ تحتوي رفّاً للبهارات وآخر للصحون، فإن العقل العربي يحتوي رفّاً للفيزياء ورفّاً للدين ورفاً للقيم... وهكذا. وتبعاً لذلك، فإن أي قرار أو حكم يتخذه هذا العقل لا يكون منسجماً مع قرار آخر تم اتخاذه في حقل مختلف أو في زمن مختلف، بما يشكل بُنية متكاملة ومتوافقة من منظومة معرفية أو أخلاقية متسقة مع بعضها. لذلك فأنت ترى شخصاً يكرّس حياته للهتاف ضد حُكم العسكر مثلاً، لكنه، وفي نفس الوقت، يُقدّس عبد الناصر، أو حتى صدام حسين.
كثيرون من يعلنون عداءهم الاجتماعي لحركات الإسلام السياسي، ويعتبرونها سبباً في تراجع الأمة من منظور قومي، لكنهم يصطفون معها سياسياً، ولا يتورّعون عن إقصاء من ينتقدها. "لا لحكم الإخوان في الأردن ونعم لحكمهم في فلسطين"، "العلمانيون فاسقون والماركسيون كفرة، لكنهم معنا ضد السلطة"، "الشيعة أعداء الأمة والدين وإيران مجوسية، لكن تحالفاتنا ثابتة".
العقل العربي الحديث مكوّن من حجرات منفصلة عن بعضها، أو لنقل إنه عبارة عن رفوف، كتلك الموجودة في خزائن المطبخ، وأن كل رفّ مخصص لغرض أو سلعة ما، بحيث لا يمكن، أو ليس مستحباً، الخلط بين هذه الأغراض وخربشة أماكنها أو تداخلها مع بعضها البعض
ورغم أن هذا الخطاب يصطدم مرة تلو أخرى بالواقع إلا أنه لا يعترف بفشله بسهولة، ولكيلا يعترف بهذا الفشل، فهو يذهب إلى المكان السهل ويختبئ فيه، ثم يبدأ بإطلاق الشعارات، وأين يتموضع المكان السهل إن لم يكن في "الوطنية" والقابلة لكل التعريفات الممكنة باستثناء مصلحة المواطن وحياته وكرامته؟ فالوطنية، بعُرف هذا الخطاب، هي محاربة الاحتلال، ثم محاربة الصهيونية، ثم محاربة الإمبريالية العالمية التي تقف وراء الصهيونية، ثم محاربة الغرب، ثم الانتقال إلى الحكام العرب المطبّعين، ثم المتآمرين، ثم الذين خذلوا هذا الخطاب وأصحابه، وصولاً إلى المختلفين من أبناء الشعب الواحد، أي أولئك الذين من المفترض أن يتوجه هذا الخطاب لهم. نستكمل في المقال القادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...