وسط أصوات الانفجارات ورائحة الموت، تعيش العديد من النساء الحوامل في لبنان جحيماً مضاعفاً، بين الألم والخوف، والرجاء والحيرة.
كيف يمكن لأمٍّ أن تشعر بالأمان عندما يطوّقها الخوف من كل جانب؟ كيف يمكن لامرأة أن تحلم بمستقبلٍ لطفلها بينما تقبع في مركز إيواء ضيّق، وقلبها يشتعل قلقاً على مصير جنينها الذي لم يكتمل بعد؟
في كل لحظة تمرّ عليها، تشعر وكأنه محكوم عليها بأن تكون شاهدةً على العالم الذي يتناثر من حولها، بينما تتساءل إن كانت ستعيش لتشهد أولى خطوات طفلها، أو حتى لتسمع صوته؟
في ظلّ الحرب، تصبح الحياة على حافة الهاوية، وأحياناً يبدو أن الأمل الوحيد يتمثل في لحظة واحدة فقط، لحظة ولادة طفلٍ يطلّ على العالم في خضم هذا العنف، لكن مع كل زفرةٍ، ومع كل خفقةٍ في قلبها، تظلّ الأم الحامل بطلةً صامتةً، تصنع الحياة في زمنٍ لا يتوقّف فيه الموت. تظلّ وفي أحلك الظروف، تحمل في أحشائها أكثر من مجرّد طفل؛ تحمل أملاً يكاد يكون خفيّاً ولكن قوّته لا تضاهى.
الخوف من تسرّب القلق إلى الطفل
وسط رائحة الموت، يلازم سالي أحمد، الحامل في شهرها الثاني، قلق مستمرّ من أنّ يتسرب الخوف الذي يعتريها إلى طفلها، ودائماً ما تسأل نفسها عمّا إذا كان يشعر بالرعب وهو في داخلها، وما إذا كان بإمكانه البكاء مثلها.
منذ نزوحها من الضاحية الجنوبيّة في بيروت إلى جبيل، بسبب الضربات الإسرائيلية العنيفة على المنطقة، تستيقظ سالي كلّ صباح لتفحص جسدها، ثم سرعان ما يخالجها شعور بالارتياح لمجرّد أن طفلها لا يزال داخل رحمها، وأن حملها ما زال مستقرّاً، وفق ما تقول لرصيف22.
كيف يمكن لأمٍّ أن تشعر بالأمان عندما يطوّقها الخوف من كل جانب؟ كيف يمكن لامرأة أن تحلم بمستقبلٍ لطفلها بينما تقبع في مركز إيواء ضيّق، وقلبها يشتعل قلقاً على مصير جنينها الذي لم يكتمل بعد؟
في الأيام القليلة الماضية، كانت سالي تستعدّ لفحصٍ جديد يكشف عن صورة جنينها الذي لطالما تخيّلته، ولكن ما أن توجّهت نحو طبيبتها من جبيل إلى الحمرا، حتى تغيّرت الأمور بشكلٍ مفاجئ. وقع انفجار إسرائيلي عنيف على طريق "غاليري سمعان" في بيروت، هزّ الأرض من تحت قدميها، وبدأ قلبها ينبض بسرعة غير طبيعية، خوفاً على نفسها وعلى جنينها الذي عانت لمدّة خمس سنوات حتى ينمو في أحشائها.
عيناها لم تتوقفا عن التحديق في السماء خوفاً من قصفٍ آخر، أو ربما من غارةٍ مفاجئة أخرى، وفق ما تكشف: "صرختُ بكل ما أوتيت من قوّة عندما استهدفت إسرائيل إحدى الشقق في غاليري سمعان، خشيةً من أن أصاب وأفقد جنيني الذي لم تكتمل فرحتي به بعد".
هلع سالي يتزايد كل يوم، ليس فقط من أصوات القصف المتواصل، بل من كل جرثومة قد تهاجمها أو تضرّ بجنينها في منزلٍ مكتظّ بعشرين شخصاً، حيث تنعدم أبسط مقوّمات النظافة، متخوّفةً من أن تحمل عدوى قد تسرق منها حلم الأمومة قبل أن يبدأ.
بالإضافة إلى ذلك، تشعر هذه الأم بالقلق الدائم على صحة طفلها، إذ لم يتوفر لها الغذاء المناسب للحامل، فغالبية ما تتناوله من الأطعمة الفقيرة من حيث القيمة الغذائية (غالبيتها من الوجبات العشوائية). تخشى أن يؤثرّ هذا النقص على نمو جنينها، وتخاف أن تكون قسوة الحرب قد أخذت منها ما كان يجب أن يكون حقاً بسيطاً، أي الحق في تغذية صحيّة وآمنة، وفق ما تقول.
بدورها، علمت آية مريم، بحملها قبل نزوحها من الضاحية الجنوبية إلى بيروت بقليل. فبينما كانت تحاول الاستمتاع في منزلها بأنها ستصبح أمّاً للمرة الأولى، فجأةً أفسدت انفجارات عنيفة أرسلت دويّاً مرعباً في كل مكان، شعورها هذا.
وفي لحظاتٍ قليلة، أصبحت آية وزوجها خارج المنزل، يركضان في الشوارع الخالية من الأمان، وفق ما تقول لرصيف22: "بسبب القصف الإسرائيلي العنيف الذي استهدف محيط منزلي في الضاحية، قضينا ليلتنا الأولى في الشارع، وبعدها ذهبنا إلى منزل جدّي في محيط مستشفى رفيق الحريري في منطقة الجناح".
ولكن هذه المنطقة التي نزحت إليها آية، لم تَسلم أيضاً من العدوان الإسرائيلي الذي استهدفها بغارة حوّلت الأبنية فيها إلى ركامٍ وأدّت إلى سقوط العشرات وإصابة المئات، وهذا ما دفعها إلى المغادرة مجدداً مع زوجها إلى بعلبك في لحظة فزع، بحثاً عن مكانٍ آمن، إلا أنه فور وصولها إلى بعلبك، بدأت أصوات الانفجارات التي راحت تقترب منها أكثر فأكثر، وتهدّد حياتها وحياة جنينها، فعادت إلى منطقة الجناح مرّةً أخرى.
مع تكرار النزوح، تشكو آية في حديثها وتقول إن التعب بدأ يظهر على جسدها، والرحيل المستمرّ يؤثر على حالتها الصحيّة، كما أنها تخشى على جنينها من كل ما يحيط بها: "من القصف الذي لا يتوقّف، ومن المعاناة التي أعيشها في كل لحظة. حتى زيارة الطبيبة كانت محفوفةً بالمخاطر"، وتضيف: "زيارتي إلى مستشفى الزهراء في منطقة الجناح نفسها، لمراجعة الطبيبة وإجراء الفحوصات اللازمة أصبحت صعبةً، حيث سبق أن تعرّض محيطها لقصف إسرائيلي".
هكذا تظل آية، الحامل، في تساؤلٍ دائم: هل ستكون قادرةً على الوصول إلى المستشفى بأمان أم أن الطريق إلى هناك سيكون بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر على حياتها وحياة جنينها؟ حتى أنها لم تعد قادرةً على التمييز بين الأصوات المعتادة وأصوات الموت القادمة، فأي حركة مفاجئة من حولها تثير فيها حالةً من الهلع.
الحوامل ضحايا الحرب
تعيش العديد من الأمهات الحوامل في زمن الحرب واقعاً نفسيّاً مريراً يطغى عليه الخوف والقلق المستمرّين، ففي الوقت الذي يفترض أن تكون فيه الأم الحامل في راحةٍ وطمأنينة، فإنها تجد نفسها محاصرةً بين أمل الولادة وآلام الحروب.
تعليقاً على هذه النقطة، تقول المعالجة النفسية زينب دكاك، لرصيف22: "إن معاناة النساء الحوامل في الحرب لا تقتصر على الأوجاع الجسدية فحسب، بل تمتدّ لتشمل معركةً نفسيةً مع الخوف والقلق المستمرين. ولكن تلك المعركة النفسية لا تكون واحدةً لجميع الأمهات، فكل امرأة تعيش ظروفاً مختلفةً تعكس جوانب شخصيةً وتجارب حياتيةً متنوعةً"، مشيرةً إلى أن الصحة النفسيّة للنساء الحوامل تختلف بين امرأة وأخرى حتى لو في الحرب، وذلك بسبب عوامل عدة تؤثرّ بشكلٍ كبيرٍ على مشاعرها وتفاعلاتها مع الوضع الذي تواجهه، أهمها العمر والخبرة السابقة في الحمل.
وتؤكّد دكاك، أن الأثر النفسي للحروب على النساء الحوامل يمكن أن يكون كبيراً ومدمّراً: "النساء اللواتي يعشن تجربة الحرب يعانين من مجموعة متنوّعة من الأعراض النفسيّة، بما في ذلك الصدمة والخوف والقلق والاكتئاب واليقظة المفرطة".
وبحسب دكاك، فإن خوف الأمّ لا يكون على نفسها فقط، بل على صحة جنينها والمستقبل: "حتى أن المشاهد التي تراها من القتل والدمار قد تصبح ذكريات مزعجةً تطاردها وترافقها لفترات طويلة، وتتحوّل هذه المشاهد إلى صورٍ لا تفارق ذهنها، ويمكن أن تستمرّ في التأثير على صحتها النفسيّة. واسترجاع الصور المروّعة قد يحدث تلقائياً أو في أوقات غير متوقّعة، خاصةً عند سماع أصوات القصف أو الانفجارات، وتستحضر هذه الصور أيضاً مشاعر القلق والذعر التي كانت تشعر بها في تلك اللحظة، ما يؤدّي إلى حدوث اضطرابات نفسيّة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يتمثلّ في نوباتٍ من القلق، الذكريات المتكررة، الكوابيس، والشعور بالعجز الشديد. وهذا قد يؤثرّ بشكل مباشر على قدرتها على التفاعل مع محيطها والقيام بأبسط المهام اليومية".
وتشدّد المعالجة النفسية على أن الدعم النفسي والعلاج النفسي يمكن أن يكونا أداتين قوّيتين وضروريّتين مع المساعدات الرئيسيّة المقدّمة، وذلك لمساعدة النساء الحوامل في الحرب، على التعافي وإعادة بناء حياتهنّ، محذرةً من اللجوء إلى الأدوية النفسيّة كحلّ للتعامل مع الاكتئاب والقلق الناتج عن هذه الأوقات الصعبة، لأن بعضها قد يؤثرّ على صحة الأم والجنين على حدّ سواء.
تداعيات صحية ثقيلة
يشير الدكتور فيصل القاق، الطبيب في دائرة الأمراض النسائيّة والتوليد في المركز الطبيّ في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وعضو مجموعة خبراء السياسات الخارجية في "منظمة الصحة العالمية"، لرصيف22، إلى أن "هناك نحو 11،600 امرأة حامل من بين النازحين قسراً من بيوتهم، يتوزعن على نحو 1،000 مركز للإيواء، أو يسكنّ في منازل مستأجرة، أو عند الأقارب، أو غادرن إلى سوريا".
وبحسب القاق، فإنّ النازحات الحوامل معرّضات لمخاطر صحيّة بحسب تداعيات الحمل عليهنّ: "يتمثل أبرز تلك المخاطر المقلقة في النزيف والإجهاض. تُضاف إلى ذلك معاناة من التوتر والقلق، إلى جانب مخاطر الولادة المبكرة ونقص التغذية والأدوية الضرورية"، لافتاً إلى أن "الضغوط المذكورة تلك تؤثر في التطوّر العصبي للجنين وصحته".
وبالرغم من الظروف الصعبة والتحدّيات، يؤكّد القاق أن الوضع الآن ما زال تحت السيطرة: "نحن والفرق الصحيّة التي تزور مراكز الإيواء نتابع النازحات الحوامل، وتخضع فيها المرأة للفحوصات الأساسية (فحص حجم الرحم ونبض الجنين)، وتقدّم لهنّ العناية اللازمة بالذهاب إلى المراكز الصحيّة المجانيّة المخصّصة لمتابعة أحوال النازحين والنازحات"، مضيفاً أن وزارة الصحة أصدرت لوائح تتضمن أرقام الخطوط الساخنة الخاصّة بالحمل الصعب وتعقيداته، بالإضافة إلى حالات الحمل العادي والولادة.
من جهتها، شددت القابلة القانونية حوراء حيدر أحمد، على أن المرأة الحامل تحتاج إلى العناية بنفسها الآن أكثر من أي وقت مضى، وتقول لرصيف22: "من المهمّ أن نتذكر أن التغذية السليمة هي أساس صحة الأمّ والجنين. وتواجه الآن بعض الحوامل صعوبةً في الحصول على الغذاء الكافي، لكن من الضروري أن تحاول الحامل التغذية قدر الإمكان بأطعمة غنية بالفيتامينات والمعادن التي تدعم نمو الجنين، مثل الفواكه والخضروات، واللحوم، والحبوب، برغم نقصها".
أحياناً يبدو أن الأمل الوحيد يتمثل في لحظة واحدة فقط، لحظة ولادة طفلٍ يطلّ على العالم في خضم هذا العنف، لكن مع كل زفرةٍ، ومع كل خفقةٍ في قلبها، تظلّ الأم الحامل بطلةً صامتةً، تصنع الحياة في زمنٍ لا يتوقّف فيه الموت. تظلّ وفي أحلك الظروف، تحمل في أحشائها أكثر من مجرّد طفل؛ تحمل أملاً يكاد يكون خفيّاً ولكن قوّته لا تضاهى
من الجوانب المهمّة أيضاً وفق القابلة القانونية، الوقاية من الأمراض: "في مناطق النزوح، قد تكون هناك مشكلات في النظافة والبيئة الصحية، ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المعدية، مثل الالتهابات أو الجراثيم التي قد تضرّ بصحة الأمّ والجنين. لذلك، يجب على الحامل أن تكون حريصةً على صحتها".
وتتابع: "أما في ما يتعلق بالرعاية الطبيّة، فمن المهمّ جداً أن تسعى الحامل إلى الوصول إلى مراكز وضعتها نقابة القابلات القانونيات في لبنان ووزارة الصحة، للتأكدّ من سلامة الجنين ومن تطوّر الحمل بشكل سليم، وفحص ضغط الدم، واختبار مستويات السكر".
وتختم حديثها بالقول: "بالرغم من التحدّيات، يجب ألا تتساهل الأمّ في متابعة الحمل، لأنّ أي تأخير في الرعاية الطبيّة قد يؤدّي إلى مضاعفاتٍ غير مرئية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 6 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 16 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع