"ليلة الحادي عشر من نيسان/ أبريل 2024، جاءتنا القوّات الإسرائيليّة، أطلق عناصرها صوبنا قنابل الصّوت والغاز، وأخرجونا من البيت. سألوا عن غرفته وأغراضه. لكنّي لم أفهم لمَ يسألون عن أحمد، قلت لهم إنّه طالب هندسة حاسوب في جامعة النجاح. وإذ بالضابط يقول لي إنّه قتل مستوطناً"، تقول أمّ راشد دوابشة من قرية دوما قضاء نابلس.
"في نفس الليلة، كان ابني أحمد لدى أخته. دخل عليهما الجيش الإسرائيليّ واعتقله"، تضيف خلال حديثها لرصيف22.
تلقّت أمّ راشد بعد أقلّ من شهرين أمراً بإخلاء منزلها، في حين لم تكن تعلم شيئاً عن مصير ابنها الذي اعتُقل خلال حرب الإبادة الإسرائيليّة في غزّة، حيث منعت السلطات محاميه من التواصل معه، شأنه كشأن سائر الأسرى.
أخلت العائلة بيتها بالفعل. وفي ليلة العشرين من حزيران/ يوليو، هدمت الجرّافات الإسرائيليّة المنزل بشكل كامل. "منزلي الجميل الذي آواني أنا وأبنائي السّبعة تحوّل إلى ركام"، تقول أمّ راشد، التي تحدّثت والحيرة تأكلها.هل تتألم على ابنها المعتقل أم على بيتها الذي صار ذكرى؟
ولعلّ سياسة هدم بيوت عائلات "منفذّي العمليّات" كعقاب جماعيّ، هي أسلوب اتّبعته إسرائيل في الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة منذ احتلالها عام 1967. لكنّ العام الأخير الوحشيّ الذي صّعد كلّ جبهات الصراع مع إسرائيل، خلص إلى مصادقة الكنيست، في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، على قانون يتيح لوزير الداخليّة ترحيل عائلات منفذي عمليات ضد أهداف إسرائيلية، إلى غزة أو إلى وجهة أخرى تحدّدها إسرائيل، لمدّة 20 عاماً.
وربّما لا يغيب عن هذا القانون، وعن سياسة التعذيب في السّجون، وسياسة العقاب الجماعيّ لأهالي الأسرى، وجهُ وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير، الذي دعم مشروع القانون قبل المصادقة عليه، ونادى بإنزال أصناف العقوبات على الأسرى وذويهم، من بينها إعدام الأسرى الفلسطينيين في السّجون.
قانون جديد… سياسة قديمة
وينصّ القانون الجديد على أنّ هذا الترحيل قد يعقب ثبوت علم مسبق لأحد أفراد أسرة بتنفيذ العملية من دون أن يبذل الجهود اللازمة لمنعها. وقد يعقب أيضاً أيّ إعراب عن تأييد لما وصفه القانون بـ"العمل الإرهابيّ"، أو أيّ نشر لكلمات مدح أو تعاطف أو تشجيع لهذا العمل أو للمنظمات التي تقف خلفه.
وفي السّياق نفسه، قال مندوبو جهاز الأمن العام (الشاباك)، خلال مداولات في الكنيست، أنّ "إبعاد والد ووالدة منفّذي العمليّات المسلّحة عن إسرائيل قد يكون أداة ردع ناجعة"، حسب تعبيرهم.
ينصّ القانون الجديد على أنّ هذا الترحيل قد يعقب ثبوت علم مسبق لأحد أفراد أسرة بتنفيذ العملية من دون أن يبذل الجهود اللازمة لمنعها. وقد يعقب أيضاً أيّ إعراب عن تأييد لما وصفه القانون بـ"العمل الإرهابيّ"، أو أيّ نشر لكلمات مدح أو تعاطف
تقول الحقوقيّة نادية دقّة إنّ "القانون مطروح منذ أعوام طويلة. وتم تفعيله فور فترة "عمليّات الطعن" عام 2015. كما جرى تفعيله في أوقات الطوارئ".
وتضيف في حديثها لرصيف22 أنّ "القانون مستند إلى قانون بريطانيّ سنّ عام 1945، من ضمن قوانين الطوارئ التي عُمل بها آنذاك. وظلّ يُعمل به على هذا الأساس. لكنّ المصادقة عليه تعني أنّه أصبح ساري المفعول. إلا أنّ سريانه لا يُلغي أنّه قانون فضفاض يحوي الكثير من الثغرات كالفئة التي يستهدفها والوجهة التي تُرحّل إليها".
وتردف شارحةً: "بحسب القانون الإسرائيلي كانت زيارة غزة تحتاج إلى تصريح أمنيّ خاص. واليوم سيرحّلون عائلات منفّذي العمليّات إليها. ولا نعلم هل يتمّ الترحيل إليها فقط أمّ إلى أماكن أخرى ذهب إليها خيال الأجهزة الأمنيّة".
"كما يسمح القانون بهدم أيّ منشأة أو جزء منها دون قرار محكمة في حال تبيّن أنّ العائلة على علم مسبق بالعمليّة المسلّحة. وفي معظم الأحيان لا يكون لدى العائلة علم ويتمّ هدم بيتها من دون إخطار مسبق يتيح لها اللجوء لجهات قانونيّة"، تؤكد دقّة.
ترسيخ لنظام الفصل العنصريّ
وترى الحقوقية دقة أنّ القضيّة ازدادت سوءاً منذ السّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ولم يعد ممكناً استباق هذه القرارات القضائيّة، كما في الماضي. مضيفةً: "كما أنّ بعض العائلات لم تعد تجد جدوى من تدخّلنا، بل ترى فيه دافعاً لتطبيق إجراءات أكثر تعسّفيّةً بحقّها".
وعن الفئات التي يستهدفها القانون، تقول دقّة: "طُبق قانون الطوارئ في السابق على سكان القدس والضفة الغربيّة فقط. أمّا القانون الجديد، فيشمل أيضاً فلسطينيي الداخل".
وفي ذلك ترسيخ أكثر عمقاً لنظام الفصل العنصريّ الذي تتّبعه إسرائيل مع الفلسطينيين بعامّة، ومع فلسطينيي الداخل، كمواطنيها، بخاصّة.
"إنّ تطبيق القانون على فلسطينيي الداخل سيضع إسرائيل أمام معضلة تطبيق القانون نفسه على الإسرائيليين اليهود والمستوطنين الذين يقومون بقتل الفلسطينيين. حينذاك، على إسرائيل أن تواجه العنصريّة التي أوجدتها"، تقول القانونيّة هديل أبو صالح من مركز عدالة الحقوقيّ.
طبيق القانون على فلسطينيي الداخل سيضع إسرائيل أمام معضلة تطبيق القانون نفسه على الإسرائيليين اليهود والمستوطنين الذين يقومون بقتل الفلسطينيين.
وبحسب بيان للمركز- الذي "شجب القانون معتبراً إيّاه تجسيداً لمسارات تشريع القمع والعقاب الجماعيّ- فإنّ "إسرائيل تعمل على ترسيخ نظام الفصل العنصريّ في القانون الجنائيّ، حين تطبق بعض القوانين على الفلسطينيين بحجة مكافحة الإرهاب في حين لا تسري على الإسرائيليين اليهود".
ونقول ترسيخ لأنّ الفصل العنصريّ على الأرض وعلى المستوى القانونيّ كان قائماً، حتّى قبل تشريع هذا القانون. ويتجسّد في قضايا كثيرة، منها رفض المحكمة الإسرائيليّة ووزير الداخليّة الإسرائيليّ عام 2017، بعد مداولات دامت أكثر من عام، طلب هدم منازل الإسرائيليين الثلاثة الذين اختطفوا الطفل المقدسيّ محمّد أبو خضير وحرقوه.
"إسرائيلي ملتزمة بقرارات وقوانين دولية تحكمها حتّى بوصفها جهة محتلّة"، تقول دقّة. مضيفةً أن جزءاً من هذه القوانين هو أن يكون للقائد العسكريّ صلاحيّات بالحفاظ على أمن المنطقة"، تؤكّد دقّة.
مضيفة أنّ "السلطات الإسرائيليّة تستغلّ هذه الصلاحيّات، فيقوم القائد العسكريّ باتخاذ قرارات الهدم معتمداً على هذه الجزئيّة من القانون. المحاكم غائبة عن لا قانونيّة هذه الإجراءات. والتوجّه إليها قد يُحدث إسقاطات أكثر سوءاً".
أساليب متعدّدة للعقاب الجماعيّ
وعقاب العائلات بالهدم لا يعني أنّهم يمتلكون الحقّ في إعادة بناء بيوتهم. "لقد تلقيت أمراً من ضابط الشاباك بأن أترك ردم البيت على ما هو عليه، وألا أحاول الاقتراب منه"، تقول أمّ راشد.
وتتابع: "أعيش الآن بالإيجار، في بيت يؤويني وأبنائي، ويبدو أنّ هذه الحالة ستطول كثيراً".
وقد لجأت أمّ راشد فور الإخلاء إلى محام من إحدى المنظّمات الحقوقيّة. لكنّ الجميع أجمع أنّ القانون لن ينصفها، فاستسلمت وانتظرت قدرها، كما تقول.
ولا تتّبع السلطات الإسرائيليّة سياسة الهدم فقط كإجراء عقابيّ، بل قد تصادر أموال العائلات الفلسطينيّة بطريقة غير قانونيّة.
محمّد الدقّاق هو شاب مقدسيّ تم اعتقاله نحو 14 مرّة على خلفيّة أحداث وتظاهرات ضدّ سياسات إسرائيل في القدس والأقصى. يقول لرصيف22: "قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مؤخراً بالحجز على أموال والديّ. وعند سؤال أبي لموظّف البنك عن سبب الحجز، قال إنّ جهاز الأمن العام، الشّاباك، هو من قام بسحب المبلغ، وأنّ البنك لا يملك سلطة أمام الجهاز".
ويضيف محمّد أنّ موظّف البنك سأل والده هل ثمّة شخص معتقل في العائلة، ففهم الوالد أنّ ذلك ما دفع الشاباك لمصادرة الأموال من حسابه.
علم محمّد لاحقاً من محاميه بأنّ جزءاً من المبلغ المصادر هو ما تقاضاه من راتب في فترة اعتقاله كأسير. "دفع أبي كلّ حياته ضرائب للدولة، ومن حقّه في هذا العمر أن يحصل على راتب الشيخوخة. لكن إسرائيل تحتجز أمواله متذرّعة بأنّي كنت أتقاضى أموالاً من السلطة الفلسطينيّة".
موظّف البنك سأل والده هل ثمّة شخص معتقل في العائلة، ففهم الوالد أنّ ذلك ما دفع الشاباك لمصادرة الأموال من حسابه
أمّا انتصار (اسم مستعار)، فتروي كيف أطلقت القوات الإسرائيليّة ذات يوم النّار على أخيها في الشارع، بعد السّابع من أكتوبر، بزعم تنفيذه عمليّة طعن بحقّ جنديّ.
"وبعد انتهاء مراسم العزاء، التي طلبت منّا الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة بأن تكون مختصرة ومحددة، قاموا باعتقالي"، تقول لرصيف22.
وتتابع: "حققوا معي وسألوني هل كنت أعلم بما ينوي أخي فعله وإن كانت تلك هي تعاليم والدي ووالدتي لنا".
ظلّت انتصار ما يزيد عن عشرة أيّام رهن التحقيق. "خلالها، قام الجنود بضربي وإهانتي والتنكيل بي".
"نسيت حزني على موت أخي،كما كنت قلقة في فترة سجني على والدتي التي فقدت اثنين من أبنائها ولم أكن بجانبها حتّى أواسيها"، تضيف انتصار.
ثمّ توالت المصائب بعد قتل الأخ، فاعتقال أفراد آخرين من العائلة، وتمّ التحقيق معهم، كما هُدم بيت العائلة، مثله مثل بيوت فلسطينيين كثر، قد تُهدم في المستقبل أو يُرحّل أبناؤها في ضوء القانون الجديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...