يبدو أن جميع الشهادات المروعة التي سمعناها وقرأناها على لسان أسرى وأسيرات فلسطينيات، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم تشف غليل وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير. لقد انتشرت عشرات الشهادات، مصورة ومكتوبة، سواءٌ من أسرى وأسيرات محررات في صفقات التبادل خلال الحرب على غزة، أو من أسرى تم تحريرهم بعد اعتقالهم خلال الاجتياح البري الإسرائيلي، تحدثوا فيها عن درجات غير مسبوقة من التنكيل والإهانة. وما كان من غفير إلا رفض تمديد ولاية مفوضة مصلحة السجون كاتي بيري، الشهر الماضي، بزعم "تساهلها" مع الأسرى الفلسطينيين.
وكان بن غفير قد برر قراره هذا، في رسالة لبيري، جاء فيها أن مصلحة السجون "فشلت" تحت إدارتها. ذلك أنها قامت بالتفاوض مع "المخربين من حماس" لتحسين ظروفهم، وفق تعبيره. فيجيء هذا ويعيّن، بشكل مؤقت، شخصاً مقرباً منه، يدعى كوبي يعقوبي. تعيين يندرج، في زمن الحرب، تحت السياسة الانتقامية التي تنتهجها الحكومة، ويشعل نيرانها الوزراء المتطرفون مثل غفير.
هل ستصبح ظروف الاعتقال المذلة الحالية نهجاً؟
شغل يعقوبي سابقاً مهمة "السكرتير للشؤون الأمنيّة" في مكتب بن غفير. وهو معروف بتاريخه "العريق" في قوات الاحتلال، إذ تبوّأ مناصب عدة في وحدة "يسّام"، وهي وحدة خاصة تابعة لجهاز الشرطة، وفي لواء "غولاني" التابع للجيش، أي موضعين أمنيين هما الأكثر فتكاً وقمعاً للشعب الفلسطيني. وكان صرح يعقوبي، وفق ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن هدفه الأول سيكون تشديد ظروف احتجاز الأسرى الفلسطينيين. ومن ضمن الخطوات والتغييرات التي يعتزم تطبيقها من خلال صلاحيته الجديدة؛ إقامة جناح خاص لـ"كبار الإرهابيين"، بحسب تعريفه، بما يتماشى مع سياسة بن غفير.
"لا يمكن قراءة هذا التعيين إلا من منطلق اعتباره فرصة يخلقها الوزير كي يستمر بتنفيذ مخططاته ضد الأسرى الفلسطينيين والإساءة إليهم، بطريقة تضمن استدامة تحقير أوضاعهم"، تقول المحامية عبير بكر، المتخصصة في مجال حقوق الإنسان، لرصيف22. مضيفة: "إذا كان إذلال الأسرى الذي شهدناه مؤخراً هو وليد سياسات انتقامية، فإننا سنشهد لاحقاً بُعداً أخطر وهو أن يُصدر رئيس السجون، بإيعاز من الوزير، تعليمات ترمي إلى تقنين هذه السياسات وتغليفها بغطاء قانوني".
لقد جرب الأسرى والأسيرات الفلسطينيات هذه السياسات الانتقامية على جلودهم/ن. منهن حنين مساعيد (29 عاماً)؛ أسيرة حررت ضمن صفقة التبادل الأخيرة مع حماس. وكانت اعتقلت بتاريخ 10 نوفمبر/ تشرين الثاني على خلفية منشورات داعمة لغزة. تقول لرصيف22: "الشعور الطاغي على تجربة الاعتقال كان رغبة الاحتلال بالانقتام. اعتقلوني الساعة الثالثة فجراً، وقاموا بتعصيب عينيّ بلاصق، ثم اقتادوني إلى سجن الشارون. مكثت هناك أربعة أيام مع أسيرات أخريات، رأيت خلالها الويلات، كالضرب والشتائم. حتى أن السجانات قاموا أكثر من مرة بتعريتنا بهدف الإهانة، وكل ذلك إلى جانب حرماننا من الحقوق الأساسيّة، كالنوم والأكل". ومن سجن الشارون نقلوا حنين إلى سجن الدامون. لدى دخولها قاموا بتفتيشها وهي عارية. هناك عانت من التجويع والحرمان من مياه الشرب النظيفة. "كانوا يرشون وجوهنا بالغاز في حال اعترضنا على أي شيء"، تقول حنين.
ليس هدف الوزير بن غفير الإساءة إلى الأسرى من خلال مفاقمة ظروفهم الحياتية الكارثية وحسب، بل هدفه الأبعد هو ضرب الحركة الأسيرة وتفكيك نظامها الداخلي
هكذا تُحكم قبضة اليمين
إن تعيين يعقوبي ليس قراراً استثنائياً، كما أنه ليس خارجاً عن سياق السياسة الإسرائيلية العامة. بنظرة على الساحة الإسرائيلية، نرى أن أبرز ما حدث في السنة المنصرمة، وقبل بدء الحرب على غزة، كان الاحتجاج ضد التعديلات القضائية التي تحاول حكومة اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو فرضها. فلدى اليمين الجديد في إسرائيل رؤية سياسية شمولية مختلفة لماهية الدولة وأدوارها الوظيفية. فهو يرى أن لا ضير في إخضاع السلطة القضائية لاعتبارات سياسية، بل إنه يسعى لهذا الإخضاع بشكل واضح وصريح. وبالتالي، لا يمانع في الإطاحة بالديمقراطية التي ترتكز أساساً على مبدأ الفصل بين السلطات. وعليه، فإن تعيين يعقوبي هو جزء من نهج هذه المنظومة، التي وضعت الاعتبارات والمواقف السياسية فوق أي اعتبار آخر. مع العلم أن تعيينات عديدة داخل المؤسسات الحكومية المختلفة تفتقر للتقييم الموضوعي والمهني، وتجيء فقط كخطوات تهدف إلى تمكين اليمين من إحكام قبضته وسيطرته المطلقة على كل المفاصل.
يقول لرصيف22 د. محمد خلايلة، الباحث في العلوم السياسية في جامعة حيفا: "ليس بالإمكان إجراء فصل بين مثل هذه القرارات والتعيينات، وبين الأجواء السياسية التي سادت البلاد في أعقاب تشكيل حكومة نتنياهو وبن غفير- سموطريتش الأخيرة. إذ أعلنت هذه الحكومة عن مزايا اليمين الجديد في إسرائيل، اليمين الأكثر قومجيةً وتديناً". ويردف: "شهدت الحكومة منافسة بين مركباتها حول منسوب الكراهية والعنصرية والرغبة بإغلاق الملفات التاريخية العالقة مع الشعب الفلسطيني، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، والنخب السياسية التقليدية في إسرائيل، إضافة إلى القوى اليسارية والتقدمية في الخارطة السياسية. والقصد من هذه الملفات هو توسيع رقعة الاستيطان، الدفع باتجاه ما يسمونه أرض إسرائيل الكبرى، تطبيق قانون القومية، والانقلاب القضائي".
تقويض القانون و"الديمقراطية" الإسرائيلية
ذهبت حكومة اليمين الإسرائيلية بعيدًا في سعيها الحثيث باتجاه تسييس القطاع العام وإخضاعه بشكل كامل لاعتبارات المجموعة السياسية الحاكمة. هكذا يرى خلايلة الذي يقول إن "هذه الممارسات هي تجسيد لعقلية اليمين الذي لا يرى بالديمقراطية إلا هامشها وبُعدها الاحصائي، المستند إلى وجود 61 عضو كنيست يشكلون الائتلاف الحكومي ويحتكرون السلطة بكل أذرعها". ويتابع أن هذا "مفهوم مغلوط وخطير، لأنه يسعى إلى تقويض سلطة القانون وإلغاء مبدأ الفصل بين السلطات، فضلاً عن منح السياسيين قوة غير محدودة".
إلى جانب الصلاحيات، الواسعة نسبياً، التي يحظى بها يعقوبي في منصبه الجديد، سيبقى محكوماً أولاً وأخيراً لسياسات الوزير الذي عيّنه في هذا المنصب. حتى أن يعقوبي نفسه لا يخفي ذلك، بل أكد منذ اليوم الأول أنه يخطط لـ"ثورة في مصلحة السجون بما يتلاءم مع سياسات الوزير".
كذلك يؤكد خلايلة أنه "لا يمكن إتمام المشروع غير الديمقراطي الذي يحمله بن غفير وكل اليمين الجديد في إسرائيل، إلا عبر إضعاف البنية الدستورية وإهلاكها، وإخضاع الهيئات البيروقراطية. وكي يتسنى له ذلك، ويكون بمقدوره تغيير النظام السياسي بشكل شمولي، عليه بسط السيطرة بشكلٍ كامل على جميع السلطات: التشريعيّة والقضائية والتنفيذية، وتقويض المسافة والمساحة فيما بينها. وهذا ما تقوم بها هذه الطُّغمة الحاكمة من أجل إحكام قبضتها وتوسيع نفوذها".
كيف يُسمح لقاتل رئيس حكومة، لقاتل رابين، أن ينجب الأطفال بإذن وتصريح من السجن ويضطر الأسرى لتهريب النطف؟
تجذير آخر لنظام الفصل العنصري
ليس هدف الوزير بن غفير الإساءة إلى الأسرى من خلال مفاقمة ظروفهم الحياتية الكارثية وحسب، بل هدفه الأبعد هو ضرب الحركة الأسيرة وتفكيك نظامها الداخلي"، تقول المحامية عبير بكر. مشيرة إلى أنه بدأ بتنفيذ مخططاته مع بدء الحرب مستغلًا حالة الفوضى بالبلاد. أما الآن فسيحقق أهدافه بواسطة أنظمة وقوانين داخلية سيقوم المفوض بسنها. فالأخير يتمتع بقوة وصلاحيات عديدة أهمها هو سن الأنظمة الداخلية في السجون، والتي تحدد الظروف المعيشية للأسرى والسجناء وتوفر ظاهرياً غطاءً قانونياً لكل الممارسات، الأمر الذي يكرس مأسسة نظام الفصل العنصري داخل السجون. حتى المحكمة العليا في إسرائيل رفضت التدخل لإبطالها هذه الأنظمة الداخلية، بحجة أنها استصدرت وفقاً لصلاحيات مفوض السّجون.
تشدد بكر على أن "هذه الأنظمة المغلفة بقواعد ومعايير، تعطي إجابات لتساؤلات الناس حول عدة قضايا، مثل كيف يُسمح لقاتل رئيس حكومة، لقاتل رابين، أن ينجب الأطفال بإذن وتصريح من السجن ويضطر الأسرى لتهريب النطف؟ وكيف يُسمح لقاتلي عائلة دوابشة مهاتفة محاميهم بينما يحرم من ذلك كل أسير فلسطيني، بما في ذلك الأطفال؟".
وتضيء على أمر آخر في نفس السياق، يجذر نظام الفصل العنصري في هذه الدولة، وهو مخطط الوزير لزيادة رفاهية السجناء اليهود، المصنفين كسجناء أمنيين، ومحاولة تحييد التعريف الأمني عن موضوع ظروفهم المعيشية. فتقول: "الوزير نفسه عمل في السابق كمحامي دفاع لبعض منهم. كما أسس جمعية ما زالت تدعمهم حتى اليوم. ومن المتوقع أن يلجأ المفوض الجديد إلى تعليمات جديدة من شأنها أن تقلل من وزن موقف المخابرات إزاء السجناء الأمنيين اليهود أو حتى عدم اللجوء إليها في قضايا متعلقة بظروفهم". وتضيف: "ليس بعيداً تعريف السجين الأمني، من الآن فصاعداً بأنه الشخص الذي "كانت أعماله موجهة ضد اليهود أو ضد الجنود". ومع تغيير هذا التعريف لن يبقى أي يهودي من أصدقاء الوزير معرفاً كسجين أمني، فيتم إسقاط كل القيود عنه داخل السجن. علماً بأن تغيير تعريف السجناء يندرج أيضاً ضمن صلاحية المفوض، لا أستبعد أن يكون ذلك أول ما يفعله يعقوبي بعد تعيينه".
في هذه الأيام التي يتصاعد فيها العدوان الدموي على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وتنفلت فيها حكومة الاحتلال بلا أي وازع، قد يصبح خبر مثل تعيين يعقوبي هامشياً. لكن من المهم قراءته كجزء من خطة شاملة يقودها اليمين الاستيطاني، من خلال تطويعه للأدوات الديمقراطية التي حصل عليها بعد توليه السلطة. كذلك، يأتي تعيين يعقوبي في ظل تصاعد الأجواء الفاشية في المجتمع الإسرائيلي، والتعطش لقهر الفلسطينيين وقمعهم بكل الأشكال. هكذا تجد الحكومة من يهلل ويصفق لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع