الاتهامات بالسرقة الأدبية قديمة قدم الكتابة ذاتها، ظهرت لأول مرة بشكل موثق مع الفلسفة اليونانية، حيث اتهم الفلاسفة بعضهم بعضاً بالاقتباس غير المشروع من أفكار الآخرين، مثلما وجه أفلاطون اتهامات ضمنية لبارمينيدس بأنه استخدم بعض آرائه دون تنبيه، في حين وجه كلّ من أرسطو وديوجين الكلبي اتهامات إلى أفلاطون نفسه، بأنه يقتبس من الفلاسفة الذين سبقوه دون أن ينسبها لهم بشكل واضح.
ومع انتشار الأدب في العصور الوسطى، ظهرت الحاجة إلى وجود قانون لحماية المؤلفين، كان أول قانون رسمي لهذا الغرض هو قانون آن، الذي صدر عام 1710 في إنكلترا، ويُنسب إلى الملكة آن، ملكة إنكلترا، لحقتها العديد من الدول في تبني قوانين مشابهة، حتى شهدت أوروبا تأسيس اتفاقية برن عام 1886، التي وضعت أول اتفاقية لحماية حقوق المؤلفين وأعمالهم.
الوضع في مصر تحول إلى ظاهرة
في السنوات الأخيرة، تكررت الاتهامات بسرقة السيناريوهات السينمائية والتليفزيونية بشكل معتاد، ولكن الأمر ازداد وأصبح ظاهرة؛ فلا نجد عملاً يحقق نجاحاً إلا ونجد كاتباً يتهمه بأنه مسروق من كتاباته التي لم تر النور، آخرها الاتهام الذي وجهته المؤلفة رشا عزت ضد المخرجة والسيناريست هبة يسري، التي صدر فيلمها الروائي الأول "الهوى سلطان" في دور العرض المصرية، محققاً نجاحاً كبيراً، حيث اقتربت إيراداته من خمسة مليون جنيه (مئة ألف دولار تقريباً) في ثلاثة أيام عرض فقط. الفيلم من بطولة منة شلبي وأحمد داوود وأحمد خالد صالح وجيهان الشماشرجي، وهو من نوعية الأفلام الرومانسية.
تكررت الاتهامات بسرقة السيناريوهات السينمائية والتليفزيونية بشكل معتاد، ولكن الأمر ازداد وأصبح ظاهرة، فلا نجد عملاً يحقق نجاحاً إلا ويظهر كاتب يتهمه بأنه مسروق من كتاباته التي لم تر النور
وتلك ليست المرة الأولى التي توجه فيه نفس المؤلفة اتهاماً بالسرقة إلى أحد صُناع الأعمال، فقد اتهمت من قبل مؤلفي مسلسل "جت سليمة" بطولة دنيا سمير غانم، وعرض في موسم رمضان عام 2023، حيث اتهمتهم بسرقة بعض تفاصيل الشخصية مثل اسم العمل واسم الشخصية وشعرها.
وهناك قائمة طويلة من الأعمال التي وُجهت إلى مؤلفيها اتهاماتٌ بالسرقة على وسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يتخذ أحدهم إجراءات قانونية واضحة. والعدد أكبر من أن يُحصر وصولاً إلى فيلم "200 جنيه" الذي عرض عام 2021 ومن تأليف أحمد عبدالله وإخراج محمد أمين، الذي واجه اتهامات من عدة مؤلفين في وقت واحد، وبأسماء مشابهة تحمل فكرتها انتقال مبلغ مالي عبر عدد من الشخصيات، مع سرد قصصهم الدرامية.
وهو ما دفع المخرج يسري نصر الله إلى كتابة تعقيباً أوضح فيه أن تلك الفكرة لا تعدو كونها تقنيةً كتابيةً يستخدمها المؤلفون لغرض درامي محدد: "دي فورميولا يا جماعة. مليان أفلام في تاريخ السينما مبنية على انتقال (شيء) من شخص لآخر. الجنر ده برضه طالع من جنر أوسع وهو أفلام السكتشات، بفارق إنه فيه رابط صغير بيربط بين كل سكتش وسكتش".
يُفهم من تعقيب يسري بأن هناك حالة من قلة المعرفة لدى عدد من الكُتاب، الذين لم يحترفوا الكتابة بعد، تجعلهم لا يستطيعون تقييم الفارق بين السرقة الأدبية، وبين التقنيات الدرامية. يؤكد على ذلك المعنى السيناريست محمد سليمان عبد المالك الذي كتب في تدوينة: "أي حد (عاوز) يكتب دراما، مفروض ياخد الأول كورس إجباري في الملكية الفكرية، يعني إيه سرقة ويعني إيه توارد أفكار، وإزاي يحمي أعماله وأفكاره، لأن الموضوع تحول مؤخراً لمهزلة بكل المقاييس".
ما لا يعرفه البعض أن الأفكار بحد ذاتها ليست محمية بموجب قوانين الملكية الفكرية، ما يخضع للحماية هو تعبير المؤلف عنها في سياق محدد، ويؤخذ في الاعتبار العديد من العناصر مثل: المعالجة، البناء الدرامي، الشخصيات، والحوار، وعند التطابق في كل تلك العناصر يعد ذلك سرقة بالفعل.
من قلة المعرفة إلى توارد الخواطر
فإذا كان المُتهم الأول هو قلة دراية بعض المؤلفين، فتوارد الخواطر هو المُتهم الثاني كما يؤكد عبد المالك، الذي ذكر في تدوينة أخرى، أن الكاتبة إليزابيث جيلبرت ذكرت في كتابها، "السحر الكبير"، عن فكرة رواية كانت تكتبها بتكاسل إلى أن أهملتها تماماً، وتفاجئت بعد عدة سنوات أن نفس الفكرة قد طرحتها كاتبة برازيلية بنفس الخطوط القصصية إلى درجة مدهشة، برغم أنها لم تلتقيها قط.
وهو ما أكد عليه السيناريست عمرو محمود ياسين في تدوينة: "تشابه الأفكار أمر طبيعي. كلنا ككتاب 'ننهل من نفس المعين'، نعيش في نفس المجتمع بتقاليده وعاداته، فليس غريباً أن تتكرر الأفكار وتتقاطع الطرق في السرد والتحليل".
وتوارد الخواطر ظاهرة إبداعية حقيقية، قد لا يصدقها البعض للتشابهات التي تصل إلى درجة التطابق أحياناً، ومن جرب كتابة شيء لم يعرضه على أحد، وفوجئ بظهور عمل مشابه لاحقاً يعرف ذلك جيداً. ومن الأسباب التي تجعل توارد الخواطر أمراً طبيعياً، أن يتأثر الكُتاب بنفس الظروف الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم. أيضاً الاستعانة بالرموز والأساطير القديمة التي أصبحت ثقافة عالمية يلجأ إليها الكُتاب لإعادة معالجتها واستخدامها بطرق جديدة، بالإضافة إلى أن بعض الأنواع الأدبية والدرامية، تفرض وجود تشابه في الأفكار والحبكات في ما بينها. نلاحظ مثلاً عدد الأفلام المصرية التي اقتبست من مسرحية "ترويض النمرة" لشكسبير، والفرق بين كلّ منها، أفلام مثل "آه من حواء"، "استاكوزا"، و"بشتري راجل".
رأس المال جبان
تلك الحقيقة الاقتصادية تُشير إلى أن أصحاب الاستثمار يميلون إلى تجنّب المخاطر، ويفضلون وضع أموالهم في أماكن مستقرة وآمنة حتى يحافظوا عليها ويضمنوا زيادتها، والمناخ الاقتصادي في مصر لا يخفى على أحد، وبغض النظر أن المنتج السينمائي أو التليفزيوني في جميع أنحاء العالم، يميل إلى إنتاج وتمويل ما يظن أنه سوف ينال إقبالاً واسعاً من الجمهور، ففي ظروف اقتصادية تجعل من الذهاب إلى السينما أو الاشتراك في المنصات رفاهية لا يمتلكها الكثيرون، فالمنتج في هذه الحالة يميل أكثر وأكثر إلى اختيار وصفات جاهزة وقوالب مضمونة لا تجعله يفكر في منح الفرصة للتجريب الإبداعي.
ما لا يعرفه البعض أن الأفكار بحد ذاتها ليست محمية بموجب قوانين الملكية الفكرية، ما يخضع للحماية هو تعبير المؤلف عنها في سياق محدد، ويؤخذ في الاعتبار العديد من العناصر مثل: المعالجة، البناء الدرامي، الشخصيات، والحوار
إضافة إلى ذلك، المجال العام لم يعد يسمح بمناقشة معظم القضايا المعاصرة إلا في نطاق محدود للغاية، مما جعل عدد التصنيفات الدرامية والقصص والشخصيات الممكن تجسيدها على الشاشة، دون اعتراض من الرقابة الرسمية والاجتماعية، يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة، ومع العلم أن عدد التيمات الدرامية بحسب جورج بولتي هي ستة وثلاثون تيمة فقط، فلنتخيلْ أن يكون مطلوباً منا أن تختار من بينها عدداً قليلاً جداً من التيمات، ومع ذلك نصنع منها أعمالاً إبداعية جديدة ومختلفة. الأمر أشبه بأن يكون لدينا مكون غذائي واحد فقط، ومطلوب منا كل يوم اختراع وجبة جديدة من نفس المكون!
التقاضي أم وسائل التواصل الاجتماعي؟
كل ما سبق لا ينفي وجود السرقات الأدبية، وأن البعض يعرف قوانينها جيداً ويستطيع الإفلات منها بتغيير بعض التفاصيل في العمل، ولكن من المخول بحماية حقوق المؤلفين والدفاع عنها؟ في أحد حلقات برنامجه "الحكاية والرواية وأشياء من هذا القبيل وخلافه" على قناته على يوتيوب، حكي بلال فضل أنه تعلم من الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، الذي اُتهم كغيره بسرقة عدد من أعماله، أن اللجوء إلى الصحافة (ووسائل التواصل الاجتماعي حالياً) ليست هي الحل، فهي مجرد تضييع وقت وتبادل اتهامات بلا فائدة، وأن التصرف الصحيح دائماً هو اللجوء إلى التقاضي.
واللجوء إلى التقاضي يعد بالفعل أفضل للعديد من الأسباب، فالقضاء هو الجهة الرسمية الوحيدة التي تمتلك السلطة للاعتراف قانونياً بملكية العمل الأدبي وحمايته، وإذا حكمت الجهة المختصة لصالح الكاتب، يمكن أن تفرض عقوبات قانونية على الطرف المخالف، تشمل الغرامات أو تعويضات مادية، إضافة إلى إلزامه بالتوقف عن استغلال العمل. هذه النتائج تكون فعالة قانونياً وتساهم في تقليل السرقة الأدبية الفعلية على أرض الواقع.
كما أن التقاضي يمنح المؤلف مصداقية، وإثبات أنه لا يبحث عن الشهرة أو التشهير بالآخرين، ففي حين يشعر البعض براحة نفسية من التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، فالتقاضي يمنح الدعم المادي والمعنوي، فالكاتب يبتعد عن النزاعات الشخصية، ولا يجعله يظهر كشخص عاطفي وغير ناضج، كما يمكن أن يعوضه مادياً في حال إثبات السرقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم