‑ "تزوّج يا تحسين"
يجلس على حافة السرير في انحناء، ويفتح عينيه بالكاد. صور الحلم تتداعى إلى رأسه وتعيد وجه أبيه بشقائه وحزنه، ونساء يحضرن أمامه دون ملامح واضحة. لا يجاهد في معرفتهن. لم يزل بين اليقظة والنوم. يفرك عينيه ويتحسس الأرض بقدميه بحثاً عن النعل، وكلمات أبيه لا تفارقه. يجتهد أن يعرف وجهته، لم يُحسن الاتجاه الصحيح برغم السنوات التي سكن فيها البيت والذكريات التي لا تحصى. يحضر فنجاناً من القهوة التركية، ويشعل سيجارة قبل أن يستلقي على المقعد الوثير الذي اعتاد الجلوس عليه دون غيره. ينظر إلى الوسادة الطويلة بحسرة ويسترجع أطراف الحلم.
قضى أبوه السنين ينتظر من تملك القدرة على استعادة قدرته، من تبعث فيه حرارة التواصل وتعيد الشعلة التي انطفأت جذوتها إلى سيرتها الأولى، من يستعيض بها عن سنين الوحدة وصهيل الذكورة في الفراغ القاتل كل ليلة.
كم عاش يحلم بأن يكونا معاً ولو على حافة سرير، يناغشها ويلامس أجزاء من جسمها، فينفذ إلى قلبها وتتقد روحه داخلها. أتعبه الانتظار لسنوات طوال، لم يستطع القبول بأخرى، لكنه حين صادف هذه البدينة التي تصغره بأربعين عاما، وأقبلت عليه بغُنجها دون حياء، شعر بالدفء يسري في أوصاله وأن الحياة تدبّ من جديد فسارع إليها دون روية.
- "تزوّج"
لازالت صورة أبيه أمامه وكلماته تتردّد في أذنه، لم يستطع نسيانها رغم كل ما اقترفته يداها من صفعات جعلته يتلعثم كلما ذكّره بها أحدهم. "تزوجتْ وداست عليك": يرد عليه بينما ينظر إلى وجهه في المرآة المحطمة. تحضر صورتها أمامه، فيجد نفسه حنقاً عليها وعلى ابنه وعلى كل مفردات الحياة. "لا تقل أبو زفت": يردّ حين أُكنيه بأبي فلان.
لازالت صورة أبيه أمامه وكلماته تتردّد في أذنه، لم يستطع نسيانها رغم كل ما اقترفته يداها من صفعات جعلته يتلعثم كلما ذكّره بها أحدهم. "تزوجتْ وداست عليك": يردّ عليه بينما ينظر إلى وجهه في المرآة المحطمة... مجاز
لم يكن يخشى سوى ألا تبادله الحب بالحب، والوفاء بالوفاء؛ أن يكون شخصاً غير مرغوب به، أن يظلّ يتقرّب لمن لا يطيق وجوده. وأكثر ما آلم روحه، حين انغمس في نوم عميق وراح يطوقها بيده ألفةً لمن يحب. إزاحتها ليده بشيء من العنف جعله يستيقظ ويستعيد في نفسه ما مضى، ويحضر السؤال مجدداً: هل كان حباً أم كان خداعاً؟
أغرته ببكارة زائفة ومحيّا ظنه بريئاً صافياً. لم يكن لها كالغصة، تركته وحيداً وبعدت، جلس على المقعد الوثير ينتظر عودتها حتى مات. ظل على مقعده أياماً دون أن يأتي الابن الذي كان مشدوهاً بطعم الحياة. خرج مبكراً، ابتاع دجاجة وذبحها، لطخ قماشة بيضاء بقليل من الدم وطلب أن تحفظها. خبّأ جمرة حزنه بالقلب وتذكر زوجته الأولى، لم تزعجه المباغتة، بقدر نشوته بطعم الحياة، وبقدر خشيته من مأزق مخجل تتعرّض له.
- "أتزوّج؟!"
لن يحدث شيء. وسادة أخرى وحقد آخر ينتظر لحظة حاسمة، ثم سراب وهمّ يكسران الروح. كلهن متشابهات حتى في الصمت المسيّج بالشبق والثرثرات الطليقة. عمّه فنان بارع يجسّد من يحبهم بالطين، بهرته التماثيل، فارتدى، مثله، سترة بلا أكمام وراح ينحت في الفراغ أحلاماً لم تكن له: امرأه تجلس معه على نهر النيل (بالقرب من فندق شيبرد تحديداً)، يتقاسمان السجائر في برد يناير، تتساقط حبات المطر المتلألئة في ضوء المصابيح، تخفي رأسها الصغير على صدره، تلكزه بخفّة وتطلب أن ترتدي سترته، وقبل أن تغلقها بإحكام، ترفع بقايا شعرها المختفي خلف الياقة. يهبط إلى المنحدر ويرقب أفواج المحبين التي تتباعد عن عينيه، ثم تعود وتظهر كما الحمائم التي تحط على جدار شرفته، ترتفع وتدور ثم تهبط وترتفع مرة أخرى. صوت أبيه يملأ فضاء الغرفة.
- "تزوّج"
مشّط شعره باتجاه صلعة صغيرة مائلة للخلف، وخشي أن تكون أذنه تشبه مبولة في محطة قطار كالتي يراها في وجوه زملاء العمل. كأنه يجلس لأوّل مره مع امرأة. يدها ناعمة ورائعة، أعجبه لون الطلاء على أظافرها، وفتنته بيدها وهي تمس أصابعه مسّاً خاطفاً أشبه بالهمس، همس جعل قلبه ينبض لأول مرة. التهى الفنان بعالمه، فيما كانت تقترب كل يوم أكثر وأكثر.
زملاؤه يشبهون قرود الحدائق، يسهرون معه مرتين في الأسبوع، وفي النهار يشون به عند رؤسائهم. كل الأشياء لها طعم الألم، الأصحاب المزيّفون والزوجة التي اختفت والتماثيل التي يذبحه صمتها كل مساء... مجاز
لم تمض فترة طويلة حتى تكللت العلاقة بالزواج. سافر بحثاً عن رزق يرضيها، وعرف لأول مرة معنى أن تعيش مغترباً وحيداً. لم يطل انتظارها لحظة الحسم التي حددتها، أخذت ما ادخره في سنين الكفاح الطويلة واختفت، وحين عاد وجد المدينة أصبحت غابة، والأصدقاء القدامى تفرقوا. كيف استطاع أن يترك الحي العريق والشرفة التي أحبها إلى مبان يلف جوانبها البريق، وأسفلت يجهل صدى خطواته، وبيت تتناثر فيه خامات وصور ورؤوس من طين تشرد معها أفكاره.
- "كيف؟!"
كل الأشياء لها طعم الغربة، الوحدة والسنون التي تمضي من دون عودة، المقل التي تتفجر فيها الدموع، والأيام التي نقشت على وجهه التباريح. زملاؤه يشبهون قرود الحدائق، يسهرون معه مرتين في الأسبوع، وفي النهار يشون به عند رؤسائهم. كل الأشياء لها طعم الألم، الأصحاب المزيّفون والزوجة التي اختفت والتماثيل التي يذبحه صمتها كل مساء.. كيف مر به كل هذا العمر من دون أن يعالج انثناء ركبتيه؟
- "امرأة أخرى؟"
كل شيء رائع من أعلى. النهر الخالد وعمارات الزمالك الراقية التي لا يفصله عنها سوى كوبري السلطان أبو العلا. مدخل الحارة في الليل أشبه بفوهة مغارة، وهذه الشرفة التي غادرها إلى بيت العم يعود إليها مجدداً، ما كان له أن يتركها لولا هذه التي تزوجها أبوه. هي الدهشة التي قادته إلى المقعد الوثير والتفكير في البعيد الذي لا يأتي، سوف يظل هكذا حتى يموت من دون أن يسأل عنه ابنه الذي كبر وأصبح مشدوهاً بطعم الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون