منذ عصور ما قبل التاريخ، احتلت دمشق مكانةً بارزةً بين مدن وعواصم الحضارات القديمة في الشام والعراق ومصر، فكانت من أهمها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولعبت دوراً محورياً في حركة التجارة، سواء بين المدن والدول المجاورة، أو على الصعيد العالمي، وكانت تفِدُ إليها القوافل من أماكن عدّة، بما في ذلك الأراضي العربية، وهو ما ذُكر في القرآن الكريم برحلة الشتاء والصيف، إذ كانت رحلة الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام.
إذا كانت بغداد قد شُيّدت في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور سنة 762م، والقاهرة في عهد المعزّ لدين الله الفاطمي سنة 969م، فإن دمشق يعود تاريخها إلى آلاف السنين، ما يكشف عن العمق التاريخي للمدينة التي تُعدّ إحدى أقدم المدن على الأرض قاطبةً، وهو ما جعلها تحتل مكانةً سياسيةً مرموقةً، سواء أكانت عاصمةً أو ولايةً.
أثر صعود الدول والممالك وهبوطها
عاشت دمشق تحت السيطرة السياسية الإغريقية السلوقية، والرومانية، ثم البيزنطية، ومرّت عليها دول وحضارات كثيرة بعضها اتخذ من دمشق عاصمةً له، والبعض الآخر جعلها مستعمرةً أو ولايةً، وذلك نتيجةً لصعود دول وممالك وهبوط أخرى، لكنها حافظت في الأحوال كلها على شخصيتها القومية وإرثها الحضاري.
شهدت كتابات الرحالة تنوّعاً كبيراً في تناول دمشق، فكتبوا عنها من مختلف النواحي الدينية والعلمية والجغرافية، ووصفوا جمال عمارتها وروعة مسجد بني أميّة، وطيبة أهلها، وروعة بساتينها
إلا أن الأمويين في فترة خلافتهم التي شهدت اتّساع رقعة العالم الإسلامي، اتخذوا دمشق عاصمةً لها، فكان لذلك عظيم الأثر على النهضة الحضارية التي شهدتها المدينة التاريخية، وشملت المجالات العلمية والثقافية، وانعكست على بنيانها وعمرانها وعلى مختلف شؤون الحياة فيها، فقد عمّ الرخاء واستقر الأمن وازدادت حلقات العلم.
بعد انتقال عاصمة الخلافة من المدينة المنوّرة إلى دمشق على يد معاوية بن أبي سفيان، أول خلفاء بني أميّة، وانتقال السلطة تباعاً إلى خلفاء الدولة الأموية من بعده، ذاع صيت دمشق وارتفع شأنها، فتدفق إليها الرحالة والعلماء والأدباء والباحثون من المشرق والمغرب، وكثرت الرحلات إليها، لا سيما في القرون الهجرية الأولى التي شهدت توافد الرحالة العرب والمسلمين الذين كانت دمشق هدفاً لبحوثهم وسجلاً لأسفارهم.
دمشق في ألواح تل العمارنة
لدمشق تاريخ قديم يسترعي أبصار الباحثين في تاريخ المدن، فقد ورد اسمها في ألواح تحتمس الثالث، فرعون مصر، بلفظ تيماسك مع أسماء المدن التي احتلها، ونُقش ذلك على جدران معبد الكرنك في الأقصر، وورد الاسم ذاته في ألواح تل العمارنة التي كانت ترد من دمشق، وتُقرأ هكذا: دمشقا ودومشقصا أو تيماشكي، كما وردت في نصوص آشورية باسم دمشقا ودمشقي أو دمشقو، وفي الكتابات الآرامية القديمة وردت باسم دمشق، ما يدلّ على العمق التاريخي للمدينة الممتد إلى ما قبل الميلاد.
وقد مرت على المدينة الراسخة في التاريخ حضارات كثيرة، أثّرت على شكل العمران والمباني فيها، وساهمت في تطورها بشكل كبير. كما أدّى ذلك، في الوقت نفسه، إلى الكثير من التقلبات السياسية والحروب بين القوى الاستعمارية نتيجةً للصراعات والمطامع في موقعها الجغرافي المتميز وتقدمها الحضاري.
تقول المراجع إن دمشق توافد عليها أقوام كثر، سواء عن طريق الحروب أو الهجرة أو التّجارة أو غير ذلك. ولذلك من الصعب تحديد الأصول التاريخية والعرقية والبشرية لغالبية هؤلاء النّاس المتواجدين في مدينة دمشق، ومن الأقوام الذين قدموا إليها الآراميّون والآموريّون والآشوريّون والبيزنطيّون، ثمّ دخول الإسلام، ثمّ المماليك والأيوبيّون والعثمانيّون والفرنسيّون.
لماذا اختيرت دمشق عاصمةً للدولة الأموية؟
كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الأردن، ثم دمشق، ثم على الشام كلها، فوقعت في قلبه وأصبح له فيها أنصار كثر، ما جعله يتخذ من دمشق عاصمةً للدولة الأموية بمجرد أن أصبح خليفةً للمسلمين. استمر حكم الدولة الأموية 91 عاماً، تحولت خلالها دمشق من ولاية إسلامية إلى عاصمة أكبر إمبراطورية إسلامية امتدت حدودها من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
تُعدّ مرحلة الخلافة الأموية التي بدأت حكمها للعالم الإسلامي سنة 41هـ/662م، من أهم المراحل التي مرّت على دمشق، فقد شهدت تطوراً كبيراً في المجالات كافة كونها عاصمةً لدولة الخلافة. فامتد بها العمران وازداد تشييد المباني والقصور، وأصبحت دمشق ساحةً للعلماء في الثقافة والأدب والعلوم المختلفة، فقدم إليها الباحثون والجغرافيون والرحالة من كل مكان.
عهد عبد الملك بن مروان وازدهار العاصمة
بلغت الدولة الأموية قمة ازدهارها واتساعها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي توسع في الفتوحات ووحّد العالم الإسلامي تحت راية واحدة بعد أن تغلّب على الاضطرابات والفتن التي عانى منها.
في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، تم بناء الجامع الأموي في دمشق، وهو أحد أبرز المساجد الإسلامية في العالم، ويشهد على تعاقب الحضارات في المنطقة، وأصبح مزاراً أساسياً لكل من يذهب إلى دمشق. وبحسب كتاب "عصر الاتساق: تاريخ الأمة العربية" (الجزء الرابع)، فإن الوليد كان مغرماً بالعمران وإشادة المساجد والأماكن العامة، وهو أول من شيّد البيمارستان (المشفى) في الإسلام، وبنى دور المرضى للمجذومين، وأجرى الأرزاق على المكفوفين والمرضى والفقراء والفقهاء وقُوَّام المساجد.
أسباب زيارة العلماء لدمشق
تناولت دراسة علمية أسبابَ زيارة العلماء والرحالة العرب والمسلمين لدمشق وأرجعتها إلى طلب العلم ونشره، ومن أجل الوظائف، والمرور عبرها لزيارة العراق أو مصر والمغرب الإسلامي، وزيارة القدس، والسفر بهدف التجارة، وغيرها من الأسباب، وقد نقلوا العديد من روايات الشام وكُتب مؤلفيها إلى الأمصار الإسلامية، كما نقلوا إلى دمشق الكثير من المعارف والمصنّفات.
شهدت كتابات الرحالة تنوّعاً كبيراً في تناول دمشق، فكتبوا عنها من مختلف النواحي الدينية والعلمية والجغرافية، ووصفوا جمال عمارتها وروعة مسجد بني أميّة، وطيبة أهلها، وروعة بساتينها، ومن أشهر من كتب عنها: الجاحظ، والبلخي، والمقدسي، والخوارزمي، وابن جبير، والإدريسي، وابن بطوطة، وغيرهم. كما شملت كتاباتهم وصف المدينة ووضع الخرائط الجغرافية لها، ووصف الناس فيها وأخلاقياتهم الكريمة وعاداتهم الشعبية القائمة على الود والتآخي.
دمشق في كتابات الرحالة والعلماء
قدّم أبو زيد البلخي (ت 322هـ)، وصفاً دقيقاً للأنهار والعمران في دمشق، وذكر في كتابه "صورة الأقاليم" أن مدينة دمشق من أجمل مدن الشام، وهي في أرض واسعة بين جبال تحفّ بها مياه كثيرة وأشجار وزروع متصلة، وتُسمّى تلك البقعة الغوطة، ومخرج مائها من تحت كنيسة يقال لها الفيجة، وهو يسقي دمشق وبيوتها والغوطة وقراها. وذكر المقدسي (ت 380هـ)، في كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، أن دمشق "هي مصر الشام، ودار الملك أيام بني أمية، أكثر أسواقها مغطاة، وهي بلد خرقته الأنهار، وأحدقت به الأشجار وكثرت به الثمار، لا ترى أحسن من حماماتها، ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها".
في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وصف الشريف الإدريسي (ت 560هـ)، دمشق قائلاً: "من أجمل بلاد الشام وأحسنها مكاناً وأعدلها هواء وأطيبها ثرى، وأكثرها مياهاً وأغزرها فواكه، وأعمها خصباً وأوفرها مالاً، لها جبال ومزارع تُعرف بالغوطة". وقال: "دمشق جامعة لصنوف من المحاسن وضروب من الصناعات فديباجها يضاهي ديباج الروم".
دمشق... جنّة الأرض
أما ابن جبير فقد زار دمشق سنة 580هـ، ووصفها في كتابه المعروف بـ"رحلة ابن جبير"، بأنها آية في الحُسن. وقال: "إن كانت الجنة في الأرض، فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي تساميها وتحاذيها". وتغزّل بها قائلاً: "دمشق جنة المشرق، ومطلع حسنِه المؤنق المشرق، وعروس تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وتشرفت بأن آوى الله المسيح وأمه إلى ربوة ذات قرار معين".
تحدث ابن جبير عن المسجد الأموي وذكر المبالغ التي أُنفقت على بنائه، ووصف المسجد بدقة شديدة، فتوقف عند المحراب والقباب والأبواب، وأشار إلى جوانبه الأربعة، وكذلك مساحته وجدرانه وأعمدته. فقال: "هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً، وإتقان مبانٍ، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت، ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف".
وتناول أعمال البناء في المسجد والصنّاع الذين قاموا بها، فقال: "انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك، رحمه الله، ووجه إلى ملك الروم بالقسنطينة يأمره بإشخاص اثني عشر ألفاً من الصنّاع من بلاده، وتقدّم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه. فامتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك، مما هو مذكور في كتب التواريخ".
في وصف المدارس والمارستانات وحسن معاملة الغريب
سجّل ابن جبير ملاحظاته حول انتشار المدارس والمارستانات (المشافي)، في دمشق، فقال: "بهذه البلدة نحو عشرين مدرسةً وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو خمسة عشر ديناراً، وله قَوَمَةٌ بأيديهم الأزِمَّة المحتوية على أسماء المرضى، والنفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكِّرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يُصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الاسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر، وهذا القديم هو غربي الجامع المكرَّم، وللمجانين المعتقلين أيضاً ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر".
كما أثنى على احتفاء أهل الشام بالضيوف، ومعاملتهم الطيبة للغريب واهتمامهم به، فقال: "الغريب المحتاج هنا إذا كان على طريقه مصون محفوظ غير مُرِيق ماء الوجه، وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ممن عهد الخدمة والمهنة، يُسبَّب له أيضاً أسباب غريبة من الخدمة، إما بستان يكون ناطوراً فيه، أو حمام يكون عيناً على خدمته وحافظاً لأثواب داخليه، أو طاحونة يكون أميناً عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم ويصرفهم إلى منازلهم، إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة".
ابن بطوطة في دمشق
لم يختلف وصف ابن بطوطة لدمشق عن وصف ابن جبير، فكلاهما شغف بالمدينة، ووقعت في قلبه، وبرغم أن ابن بطوطة وصل دمشق سنة 726هـ، أي بعد ابن جبير بنحو قرن ونصف، إلا أن نظرة وملاحظة كل واحد منهما لم تختلف عن الآخر، واتفقا على جمال عمرانها وروعة بساتينها وطيبة أهلها، وأشار ابن بطوطة إلى تنافس أهل دمشق على فعل الخيرات، ومدى تلاحمهم وتضامنهم الاجتماعي اللافت حتى كأنهم عائلة واحدة.
ويروي في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وغرائب الأسفار"، عن مروءة أهل دمشق وأنهم ضايفوه وراعوه في مرضه حتى شُفي، يقول: "ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحدَه البتة". وقد أثنى ابن بطوطة على العمائر الأيوبية في المدينة القديمة وذكر المدارس وقال إن أفضلها مدرسة العادلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه