بنظرة سريعة على تاريخ إيران، يظهر لنا أن المجتمع الإيراني مكوّن من مزيج من الأعراق التي دخلت إيران على مدى قرون عديدة، وشكلت الشعب الإيراني. أحد هذه الأعراق هم السُّمر الذين جاؤوا من إفريقيا إلى إيران، في قديم الزمان، كعَبيد، أو هاجروا إليها بحثاً عن عمل، وباستقرارهم فيها انتشرت عاداتهم وتقاليدهم بين الإيرانيين، واندمجت مع الثقافة الإيرانية، وفي ما بعد الإسلامية، ووجدت طريقها بين السكان الأصليين الإيرانيين.
ويُعدّ الإيمان بالكائنات غير المرئية والقوى الخارقة للطبيعة وقدرتها على السيطرة على روح الإنسان وجسده، من أبرز معتقدات السكان الأصليين. ونتيجةً لذلك، أصبح الجهد المبذول لتحرير الإنسان من براثن هذه الكائنات أيضاً أحد أهم معتقداتهم، وقد نقل المهاجرون منهم هذه التقاليدَ إلى مهجرهم أو موطنهم الجديد، إيران.
نروي هنا، ومن ضمن تلك الطقوس المثيرة، سيرةَ حفلٍ يسمّى "الغوات"، تُقدّم خلاله مجموعة من الترانيم والموسيقى المخصوصة، وذلك لعلاج المريض المصاب بهذه الأرواح الشريرة الخارقة للطبيعة.
"الغوات" أو مرض الفقر؟
تُعدّ مراسم "الغوات"، طقوس احتفالات العلاج بالموسيقى التقليدية في إيران، التي لها تاريخ طويل في هذا البلد. هذا الحفل الذي يشبه مراسم "الزّار" التي تقام أيضاً في بعض مناطق جنوب إيران، وبلدان الخليج وإفريقيا ومناطق أخرى، يقام بطريقتين مختلفتين في مدينة "سَرحَد" على الحدود الشمالية لمحافظة بلوشستان جنوبي شرق إيران، وفي مدينة "مُكران" على الحدود الجنوبية لهذه المحافظة.
تقام مراسم "الغوات"، بطريقتين مختلفتين في مدينة "سَرحَد" على الحدود الشمالية لمحافظة بلوشستان جنوبي شرق إيران، وفي مدينة "مُكران" على الحدود الجنوبية لهذه المحافظة
خلال هذا الحفل، يتولّى شخصٌ يُدعى "الخليفة"، إدارةَ الفرقة، أي معالجة المريض، وهو العنصر الرئيس للعلاج في هذه المراسم الموسيقية، التي من خلالها تغادر القوة الشريرة جسد المريض، وفق معتقدهم. وفي هذا الحفل الذي لا يزال شائعاً في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من إيران، يتلو ويغنّي الخليفة القصائد والأذكار المختلفة، وذلك لطرد الشرّ الساكن في جسم المريض، والذي يُسمّى "الريح" أو "الغوات". في أثناء هذه المراسم يسأل الخليفة المريض عما يريده "الغوات"، وذلك لتحقيق رغبته كي يخرج من جسم المريض.
وبعد الانتهاء من الإجراءات التي تستمر أحياناً لمدة أربع ليالٍ متتالية، يتعافى المريض ويعيش بصحة تامة لمدة زمنية معينة، وتكون هذه الإجراءات مذكورةً في عقد يُبرم بين الخليفة والغوات، ولكن بعد انتهاء هذه الفترة، إذا لم يتم تجديد العقد، تعود الأشرار إلى جسد المريض فيمرض مجدداً.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن ما يسمّيه الخليفة وأهل هذه المناطق بالأمراض، غالباً ما يكون عبارةً عن اضطراب في النوم والنوبات العصبية والحقد والشك في من يحيط بالمريض والعدوانية، وفي الحالات الحادة يشعر المريض بالدوخة أو يُغمى عليه. ويرجّح أن يكون أحد أسباب الإيمان العميق لدى سكان شرق وجنوب شرق إيران، بالأرواح الشريرة والقوى الخارقة للطبيعة، هي الظروف المناخية والاقتصادية غير المستقرة التي يعانون منها في هذه المنطقة.
وفي هذا الصدد، يذكر الكاتب الإيراني علي رياحي، في كتابه "زار وباد وبلوش": "في السنوات الخمس التي عشتها معهم وبينهم، لم أجد بلوشياً أو أسود واحداً، إلا وابتلى على الأقل مرة واحدة بهذا المرض، إذ تسكنه هذه الكائنات ولا تخرج منه إلا بصعوبة، وذلك من خلال تقديم قرابين من الماعز والثيران".
الفرق بين "الغوات" في شمال بلوشستان وجنوبها
وكما ذُكر سابقاً، فإن طريقة أداء مراسم "الغوات" في سرحد، أي المنطقة الشمالية، تختلف عن مكران في جنوب بلوشستان وأجزاء من باكستان. ففي جنوب بلوشستان، يُطلق على الكائن الخارق الذي يسيطر على المريض اسم "غوات"، بينما في سرحد، يُعرف بالريح (الهواء)، وهو مصطلح يطلَق على أي كائن خارق للطبيعة.
ولا بد من معرفة أن "الغوات" أو الريح، لا ينبغي أن يُخلط بينه وبين الجن، لأن المسكون بالجن يعالَج بآيات القرآن في معتقدات السكّان، أما مريض الغوات فلا يعالَج إلا بالموسيقى. وحول ذلك يشير المستشرق الفرنسي جان دورينغ، في سلسلة مقالاته ومحادثاته مع عالم الموسيقى العرقية والباحث الموسيقي الإيراني، ساسان فاطمي، إلى أن "الغوات" هو في الحقيقة طقس إيراني قديم متقلب ومزدوج الروح والهوية.
وبحسب دورينغ، فإن الغوات لا يمكن أن يكون مسلماً، وغالباً ما يكون كافراً، وذلك هو نفس معتقد سكان شمال بلوشستان، أي مدينة سرحد. وما هو مثير أن هذه القوة تصبح أقوى، مهما كثرت رغبتها في الموسيقى، ويظهر ذلك من خلال المرض الذي يصبح تدريجياً منتشياً بالاستماع إلى الموسيقى، ويدخل المريض في حالة غيبوبة ويغمى عليه من شدة تعمّقه في الموسيقى.
يتم تحديد عدد الآلات الموسيقية في هذا الحفل حسب شدة المرض، وكلما كان المرض أكثر حدةً، ازداد عدد الآلات المستخدمة وازدادت شدة عزف الموسيقى، وذلك للتخلص من هذا الغوات. في نهاية الحفل وبعد شفاء المريض يجب تقديم قربان لتكتمل المراسم هذه. وفي جنوب بلوشستان، تجري هذه المراسم بشكل مشابه لمراسم الشمال، باختلاف واحد، هو أنه يتم خلالها تقديم لحم الأضحية إلى أحد الشيوخ أو الوجهاء في تلك المنطقة، ويطلبون منه شفاء المريض، ولكن في الجنوب يوزَّع لحم الأضحية على الفقراء والمعوزين في المنطقة نفسها.
الموسيقى وكيفية أداء حفل الغوات
بعد أن تسيطر الغوات أو الريح على روح الشخص المريض وجسده، يبدأ الدور الرئيس للخليفة، حيث يدعو هذه القوة الشريرة حتى يتمكن من كبح المرض، وليس العلاج الكامل، ودعوة "الغوات" إلى جسد المريض لا تتم إلا من خلال عزف الموسيقى واستخدام العطور على جسد المريض.
"الغوات" أو الريح، لا ينبغي أن يُخلط بينه وبين الجن، لأن المسكون بالجن يعالَج بآيات القرآن وفق معتقدات السكّان، أما مريض "الغوات" فلا يعالَج إلا بالموسيقى
والموسيقى التي يتم عزفها في هذا الحفل، تأتي عبر ثلاث آلات رئيسية، هي: السيتار والربابة والطبل. وكلما اشتد المرض وساءت حالة المريض، ازداد عدد الآلات المستخدمة لأداء الموسيقى، وما يميّز مرضى الغوات عن المرضى العاديين هو عامل الموسيقى نفسه، فإذا تم عزف الموسيقى ولم يتجاوب المريض بتكرارها المستمر، فهذا يعني أن المريض لا يعاني من "الغوات"، بل من مرض آخر. ومن وجهة نظر البلوش، غذاء جسد كل إنسان وروحه، هو الموسيقى وآيات القرآن، بحيث لا يمكن الوصول إلى النشوة الروحية إلا من خلال الموسيقى والقرآن.
والمقطوعات التي يتم أداؤها خلال هذا الحفل، هي مقطوعات محددة يتم عزفها واحدةً تلو الأخرى دون أي ترتيب معيّن، ويتفاعل كل مريض مع واحدة من هذه المقطوعات، حسب شدّة مرضه، ونوع "الغوات" الذي قد دخل جسده.
يستمر حفل "الغوات" من ثلاث إلى خمس ليالٍ متتالية حسب حالة المريض، حيث يقال إنه لا يمكن علاج أي مرض في الليلة الأولى، لأنه، وفقاً لمعتقدات السكان الأصليين، تخترق الموسيقى جسدَ المريض وروحه ببطء.
قبل بدء الحفل، يرتدي المريض ملابس نظيفةً وأنيقةً ويتعطّر بعطور ثمينة، ثم يجلس الخليفة بينه وبين الموسيقيين، وإذا كان المريض امرأةً، يتم وضع ستارة بين الخليفة ومجموعة الموسيقيين والمريضة، وبعد أن تصل المريضة إلى حالة من النشوة، لا يُسمح إلا للخليفة بالذهاب إلى الجانب الآخر من الستارة، والتحدث إلى المريضة.
قبل بداية الحفل، يتلو الخليفة آيات من القرآن على إناء مملوء بالماء، ليشرب منه المريض، وبعد ذلك تُعطَّر أجواء الحفل بالبخور، ويبدأ الموسيقيون بالعزف، ويرافقهم الخليفة بقراءة الآيات والقصائد المخصوصة. في أثناء أداء المقطوعات، يبقى المريض مستلقياً على الأرض، وبعد فترة من سماع هذه المقطوعات، ينتشي المريض ويبدأ بالرقص شيئاً فشيئاً.
وفي نهاية الحفل، وبعد الحديث مع الغوات، يقوم الخليفة بدهن يده بالزيت العطري ويفركها على رقبة المريض ويعطي المريض حليةً فضيةً كطلسم، بعدها تُذبح الأضحية، ويوزَّع لحمها بين الناس، وتنتهي المراسم.
وفقاً لما أتى في هذه المادة، يمكن الاستنتاج أنه في معظم الحالات يكون السبب الرئيس للمرض، الصعوبات والظروف المعيشية القاسية التي يعيشها الناس في بلوشستان، والدليل على هذا الادعاء أنّ الطبقات الثرية في المجتمع البلوشي لا یمرض أفرادها بمثل هذه الأمراض، لكن لا يمكن تجاهل السياق الاجتماعي والتأثير الثقافي في مثل هذه الحالات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.