هناك سؤال مهم يخطر في بال كل منتج أو مبدع في مجال السينما والأدب، وأنواع الفنون عموماً: كيف يمكن صناعة عمل فني يخطف أنظار الجمهور ويلقى احتفاءً نقدياً؟ قليلون تمكّنوا من حلّ اللغز، أحياناً من خلال قصة مغرية، وأحياناً أخرى بشكل لا واعٍ عموماً. لا تزال تلك المعادلة هي محط تساؤل وبحث كل فنان في الشرق والغرب، وقد نجح فيها مؤخراً فيلم "أثر الأشباح" للمخرج المؤلف الفرنسي جوناثان ميليت.
وصل "أثر الأشباح" إلى الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" (أيار/مايو 2024)، وحصد إشادات نقديةً من مختلف المواقع السينمائية العالمية. كما جاء الشاب بالفيلم إلى مهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة (24 تشرين الأول/أكتوبر-1 تشرين الثاني/نوفمبر)، ونال الإشادة النقدية ذاتها. إلى ذلك، حظي الفيلم بعرضين كاملي العدد واستقبال حافل من الجمهور عقب عرضه ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.
الفيلم إنتاج فرنسي، من إخراج جوناثان ميليت وقد شاركه في التأليف فلورنس روشات، ومن توزيع الشركة المصرية "ماد سيلوشن". يحكي الفيلم قصة حميد، وهو عضو في جماعة سرّية تلاحِق قادة النظام السوري الهاربين. يُكلَّف حميد بمهمة تأخذه إلى فرنسا، حيث يقتفي درب جلّاده السابق ويتحتم عليه أن يواجهه.
بالرغم من قوة القصة وتنفيذها المتقن، إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل أداء الممثل آدم بيسا المذهل، والذي يمكنه حمل أي فيلم على كتفه والتسبب في نجاحه. فقد قدّم من قبل أداءً مثالياً في فيلم "حرقة"، كما شارك هذا العام في فيلم "ماء العين" التونسي، وهو واحد من أفضل أفلام المهرجان، طوّرته المخرجة والمؤلفة مريم جعبور عن فيلمها القصير "إخوان".
يحكي الفيلم قصة حميد، وهو عضو في جماعة سرّية تلاحِق قادة النظام السوري الهاربين. يُكلَّف حميد بمهمة تأخذه إلى فرنسا، حيث يقتفي درب جلّاده السابق ويتحتم عليه أن يواجهه
تبدو قصة "أثر الأشباح" انتقاميةً رائعةً لأفراد شبكة تتخلص تباعاً من سجّاني أفرادها في سوريا أو ما يعرفون بـ"الشبيحة"؛ مرثية للمكلومين في سجون النظام السوري منذ بداية الحرب. وربما بدا الفيلم من أوائل الأفلام التي تقدّم هؤلاء المساجين ليس كضحايا أو مجرد مظلومين منسحقين أمام طاغية قوي، بل يتتبع البطل خطوات الرجل الذي يعتقد أنه كان يعذّبه في السجن في كل خطوة له. ويبدو ظلّه، رقيباً عليه، عقاباً على كل تلك السنوات التي مضت.
إلى جانب القصة الجديدة المثيرة التي يطرحها الفيلم الجماهيري، فقد اعتمد على إنتاج جودة بصرية مناسبة لنوع الإثارة التي يحاول خلقها من خلال القصة، والتي تجلت في حركة كاميرا موتّرة، وقطعات مونتاجية سريعة، وموسيقى حادة تخلق إثارةً ورغبةً في التوحد مع البطل. يبدو البطل أحياناً بملامحه الحادة الصامتة، شبحاً يطارد أشباحاً، كما يبدو منغمساً تماماً في الماضي الذي عليه الانتقام منه لكي يتجاوزه فقط.
بعيداً عن الصخب... قريباً من المخرج
يحتاج المرء في نقد مثل هذه الأعمال، إلى الاقتراب أكثر من شخصيات الصنّاع، وتكوينهم الذي أغراهم بالعمل على صناعة مثل هذا العمل الخطر نوعاً ما. لذلك وعلى خلفية التواجد داخل "الجونة"، التقينا المخرج الفرنسي الجنسية جوناثان ميليت، لمحاولة التعرف على الأسباب التي دفعته للعمل على قصة شديدة الخصوصية قد تبدو بعيدة عن نشأته نوعاً ما.
يقول جوناثان لرصيف22 إنه قام ببناء سيناريو الفيلم باستخدام أجزاء من قصص حقيقية توصّل إليها من خلال البحث، ومن ثم تجميع تلك الأجزاء بطريقة يمكنها أن تمسّ طيفاً واسعاً من المشاهدين، من دون الغوص كثيراً في التفاصيل السياسية. ما كان يشغله تماماً هو عدم التورط المباشر في المرجعية السياسية للقصة كلها، بل الاعتماد عليها كخلفية تخصص لخلق قصة مثيرة سينمائياً يمكن أن يشاهدها الجميع: رجل يبحث عن جلاده الذي لا يعرف عنه أي شيء سوى إحساسه وشكوكه الشخصية.
يضيف ميليت إنه حين كتب فيلم "أثر الأشباح"، "عملتُ على عمل توازن بين أمور عدة؛ أولاً، أنا آتٍ من عالم الأفلام الوثائقية. الواقع يبهرني ويجذب فضولي، ويجعلني أرغب في مشاركة هذه القصص التي لم يسمع بها أحد. لذا فإن نقطة انطلاق الفيلم هي اليوم الذي أخبرني فيه السوريون الذين كنت أعمل معهم عن هذه الأسرار المذهلة، أي الخلايا التي تبحث عن مجرمي الحرب. وتالياً هناك العديد من الأشياء المأخوذة من الواقع في الفيلم؛ القصة أولاً وقبل كل شيء، وأيضاً بعض الديكورات، والعديد من التفاصيل التي سيدركها المشاهدون. ثم عرفت أنه لإعادة إنتاج قوة القصص التي سمعتها، عليّ أن أصنع فيلماً يجذب المشاهدين؛ فيلماً يثير الأحاسيس والمشاعر، فيلماً غريزياً وغير تفسيري لخلق هوية وعواطف تدوم، ويمكن ترسيخها في الجسد. لهذا السبب اخترت تقديم هذا النمط من أفلام التجسس وأفلام الإثارة. هذا النوع من الأفلام يسمح لي بإضفاء صفات سينمائية وكثافة ومخاطر عالية على عملي، كما يتيح لي فرصة الابتعاد عن الواقعية المسطحة للفيلم السياسي الخام الذي لا يثير اهتمامي كمشاهد".
يستبدل جوناثان تأثير الحرب المفرط على الإنسان السوري بمعادلٍ بصري ذكي وأقلّ حدةً، فيجعل اجتماعات الخلية السرّية تحدث على خلفية لعبة فيديو جيم عنيف وقتالي. ويبدو ذلك معادلاً بصرياً لما حدث معهم جميعاً في السجن من قتال وإذلال. هذا الانتقام المزدوج الذي يتفّه الحربَ لكنه لا يمحو أثرها على اللاعبين حتى بعد خروجهم بسنوات وعيشهم في بلاد غير عربية.
في أحد مشاهد الفيلم، يغطّي البطل عينيه، لكنه يعرف رائحة الرجل الذي يبحث عنه: كان يغطّي عيون المعتقلين السوريين وقت الحرب، ويأمر بتعذيبهم. تبدو تلك التفصيلة دقيقةً جداً عن المأساة التي يتعلق بها الانتقام على خيط بسيط مثل التعرف على رائحة الجاني، الغامض تماماً.
فيلم "أثر الأشباح" يدرك قطعية عدم النسيان، أو تناسي الحرب والمأساة تماماً. فيلم يبدو غربياً، لكنه يحتوى الحسن والسيئ، القاتل والمقتول، جميعاً. في الوقت الذي يخرج فيه كثير من الأفلام "الاستشراقية" في تناولها قصص الشرق الأوسط، يبدو مثالياً أن يأتي رجل أجنبي بخطاب يدحض هذه الرؤية ويرى الأمور من منظور أقرب إلى الواقع.
يخبرنا المخرج أيضاً بأنه يصنع أفلاماً روائيةً مستوحاةً من الواقع المعاصر. يقول: "الآن بعد أن أمسكت بأدوات الخيال، أعلم أنني أرغب بشكل متزايد في العمل على السينما الحسية والخاطفة للأنفاس. أنا متأثر بالقصص التي تحكي عالم اليوم، بكل تعقيداته، باستخدام كل إمكانيات السينما لمنح المشاهد تجربةً هائلةً". نسأله: وهل هناك جمهور محدد تهدف الوصول إليه في العالم العربي؟ فيقول: "منذ البداية، كان هدفنا أن نتمكن من الوصول إلى العالم العربي بهذا الفيلم، وليس أن نصنع فيلماً للمهرجانات فقط. وتالياً أن نفكر في فيلم مفتوح ومتاح للجميع، وقادر على التحدث وخلق المشاعر للجميع. ثم، بمجرد الانتهاء من الفيلم، نعمل على أن نكون مع الفيلم قدر الإمكان، وأن نجري جلسات أسئلة وأجوبة، وأن نروي قصة صنعه وجميع الأشخاص المشاركين فيه. والرغبة هي مشاركة هذا الفيلم مع أكبر عدد ممكن من الناس في العالم العربي".
تبدو قصة "أثر الأشباح" انتقاميةً رائعةً لأفراد شبكة تتخلص تباعاً من سجّاني أفرادها (شبيحة النظام السوري). هو مرثية للمكلومين في سجون سوريا منذ بداية الحرب
كان السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا هو: لماذا يبدو نوع التجربة التي مررت بها في فيلمك الروائي الطويل الأول غير مألوف في العالم العربي؟ فيقول: "بصفتي مخرجاً فرنسياً، كان من الأسهل بالنسبة لي الاستفادة من التمويل الأوروبي، بينما أصنع فيلماً مع العديد من السوريين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين المتعاونين. وتالياً، يأتي الفيلم من قصة سورية خالصة، قضيت من أجلها سنوات في البحث والتعاون مع السوريين. ثم، قمنا بتأسيس إنتاج مشترك أوروبي، مع الأردن، ولكن دون أي رقابة أو عائق أيديولوجي يبطئ المشروع".
هل الفيلم يخص سوريا وحدها؟
يعتمد جوناثان على مشاهدة عدد من أعمال صناع السينما القدامى الأكثر مثاليةً في تقديم هذا النوع من الأفلام. يحكي لنا عن أفلام لمخرجين مثل فيرنر هيرتزوغ وبول توماس أندرسون، والتي كانت ملهمةً جداً بالنسبة له. ومن العالم العربي يذكر أفلاماً عدة يعتقد أنها كانت مليئةً بالجرأة والتفرد، على سبيل المثال، أعمال كلّ من فوزي بن سعيدي (يا له من عالم رائع)، عمر الزهيري (ريش)، علاء الدين سليم (طلامس)، وعلي شري (السد).
في النهاية يبدو "أثر الأشباح" فيلماً مذهلاً، ذكياً، يجمع بين الجماهيرية والتفصيل الذي يحتاجه المتفرجون المتخصصون، كما أنه مثير للدرجة القصوى ولا يبتعد كثيراً عن حكايات المأساة العربية في القصة بتنفيذ محترف لخطف الأنظار.
في الوقت الذي يجلس فيه البطل الذي كان يعمل أستاذاً للأدب في الجامعة، قبل أن تفرّقه الحرب عن عمله وحياته ووالدته التي يتابعها فقط من خلال المكالمات من بعيد، يقرأ: "أحاول رسم بلاد من الياسمين/لها برلمان من الياسمين/وشعب رقيق من الياسمين/تنام حمائمها فوق رأسي/وتبكي مآذنها في عيوني/أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعري/ولا تتدخل بيني وبين ظنوني/ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني". وربما تبدو تلك الأبيات التي جعلتني شخصياً أشاهد الفيلم مرتين، مرثيةً صالحةً للمنطقة العربية في لحظة جنون عام، وحروب لا تترك مجالاً للاستقرار في أي متر فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...