أعلن رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد، قبل أيام، في تصريحات له أمام مجلس نواب الشعب في بلاده، أن بناء سدّ النهضة انتهى وتم حجز كمية مياه كافية، زاعماً أن ذلك لا يُلحق ضرراً بدولتيّ المصب، مصر والسودان، ومؤكداً على التزام إثيوبيا بمواصلة العمل على تحقيق آمالها التنموية من دون إلحاق الضرر بأحد.
وصرّح آبي أيضاً: "لقد كانت هناك مخاوف عديدة لدى مصر والسودان بخصوص سدّ النهضة، لكن كما ترون الآن لقد قمنا من الانتهاء من عملية بناء السدّ وحجزنا كمية مياه كافية ولم نر أية تأثيرات سلبية على البلدين. وفي حال حدوث أي نقص في المياه في مصر أو السودان، سنقوم بتمرير المياه لهما، هم إخواننا ولن نقوم بإلحاق الضرر بهم وإثيوبيا ستكون ملتزمة بذلك".
يأتي هذا الإعلان الإثيوبي دون الوصول لأي اتفاق مع مصر والسودان، دولتيّ المصب، بعد أن انتهت آخر مفاوضات في أديس أبابا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، دون التوصّل لنتيجة، في ظل "صمت كامل" للمسئولين والنظام المصريّين.
بعكس الوضع في السودان، تُلقي التداعيات السلبية لسدّ النهضة بظلال كثيفة على حاضر ومستقبل مصر، وبالأخص في ظل غياب رؤية وقيادة مصرية واضحة للأزمة. هل استعد نظام الرئيس السيسي للمخاطر القصيرة المدى والبعيدة لمشكلة سدّ النهضة الذي بات اكتمال ملئه مسألة وقت، ربما أيام؟
في مقابلة أخرى له، مع التلفزيون المحلي، من موقع سدّ النهضة، أضاف آبي: "يمكننا الإعلان عن اكتمال سدّ النهضة بنسبة 100% بحلول كانون الأول/ ديسمبر المقبل"، واصفاً ذلك بـ"الإنجاز التاريخي" الذي يمثّل "نموذجاً" للعالم وأفريقيا. كما أوضح رئيس الوزراء الإثيوبي أن نسبة إجمالي المياه المحتجزة في بحيرة السدّ الآن بلغت 62.5 مليار متر مكعب، وأنه من المتوقع أن تبلغ بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2024 ما بين 70 إلى 71 مليار متر مكعب من إجمالي السعة الكلية للسدّ البالغة 74 مليار متر مكعب، وفق السلطات الإثيوبية.
بحسب آبي، سيتم تشغيل 3 توربينات أخرى الشهر المقبل ليبلغ إجمالي التوربينات 7، فضلاً عن البدء في حجز 900 مليون متر مكعب يومياً، منذ الأسبوع الماضي، للانتهاء من تخزين المتبقي وهو ما يقارب 9 مليارات متر مكعب أو أكثر حتى الشهر المقبل.
أما رئيس لجنة التفاوض الإثيوبية، سليشي بقلي، فقد أوضح، عبر حسابه على منصة "إكس"، انتهاء بلاده من بناء الجسم الخرساني للسد، مشدّداً على أنهم الآن في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة لأعمال التشطيب، لينتهي السدّ بالكامل بحلول الشهر المقبل. كما أكد على أنه جرى تشغيل توربينين بقدرة 400 ميغاوات/توربين، منوهاً بمواصلة العمل لتحقيق قدرة إجمالية تناهز 5150 ميغاوات ما يجعل لدى بلاده "أكبر محطة مائية في أفريقيا".
يُقدَّر أن سدّ النهضة سيكون أكبر سدّ لإنتاج الطاقة الكهرومائية في أفريقيا ورقم 80 على مستوى العالم. يبلغ ارتفاع السدّ نحو 175 متراً، بطول كيلومترين. تقدر الكمية الإجمالية للخرسانة المسلحة به بـ10.2 مليون متر مكعب. تحتوي محطة السدّ على 16 توربينة مصممة لتوليد 6000 ميغاواط من الطاقة المركّبة وإنتاج الطاقة السنوي المقدّر بنحو 15.7 تيراواط في الساعة. يتسع خزان سدّ النهضة لما يقارب 74 مليار متر مكعب من المياه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المكاسب والمخاطر المتوقعة لسدّ النهضة ستكون مختلفة تماماً على كل من دولتيّ المصب، مصر والسودان. وذلك يرجع بالأساس إلى اختلاف مصادر المياه المتاحة لدى كل منهما بخلاف النيل، واختلاف احتياجاتهما المائية، واختلاف استخداماتهما وسياساتهما المائية، واختلاف موقفيهما الاقتصاديين.
تبعات خطيرة على مصر وأقل على السودان
مكاسب سدّ النهضة للسودان أكثر بكثير من التحفظات والمخاوف لديها بشأنه. ومع ذلك، هناك شاغلان أساسيان لدى السودان بسبب هذا السدّ. الشاغل الأول هو سلامة جسم السدّ نفسه لقربه الشديد من الحدود السودانية والذي بدوره قادر على إغراق السودان في حالة انهياره وخصوصاً بعد امتلاء خزانِهِ بالكامل الآن. والشاغل الثاني هو عملية التشغيل السنوي للسدّ، بما لا يؤثر على وقت ملء السدود السودانية الأخرى.
أما بالنسبة لمصر، فالموقف على النقيض تماماً إذ تُلقي التداعيات السلبية لهذا السدّ بظلال كثيفة على حاضر البلاد ومستقبلها، وبالأخص في ظل غياب رؤية وقيادة مصرية واضحة. يمكن تقسيم التبعات السلبية لهذا السدّ على مصر إلى مخاطر على المدى القصير وهي المتمثلة في الفترة التي يتم فيها ملء خزان سدّ النهضة، ومخاطر على المدى الطويل وهي التي ستحدث بعد ملء خزان السدّ.
وفي حين أن عملية ملء الخزان قد أوشكت على الانتهاء، إذ اعتبر رئيس الوزراء الإثيوبي أنها تمت بدون إلحاق أية أضرار أو تأثيرات سلبية بدول المصب، إلا أن هذا كلام غير دقيق تماماً. التبعات السلبية للسدّ على المدى القصير هي التي حدثت بسبب اقتطاع إثيوبيا المياه من نهر النيل لملء الخزان، والتي أدت بدورها إلى انخفاض كمية وتدفق مياه نهر النيل إلى مصر. هذا النقص في حصة المياه المصرية استلزم أن تقوم الحكومة والنظام المصري باقتطاع هذه المياه من المياه المُخزّنة في خزان السدّ العالي بأسوان لتعويض النقص. وهو ما أثّر بدوره، وبشكل كبير، ليس فقط على الاحتياطي المائي المصري وإنما أيضاً على الزراعة المصرية.
يُقدَّر أن سدّ النهضة سيكون أكبر سدّ لإنتاج الطاقة الكهرومائية في أفريقيا ورقم 80 على مستوى العالم. يبلغ ارتفاعه نحو 175 متراً، بطول كيلومترين. تحتوي محطة السدّ على 16 توربينة مصممة لتوليد 6000 ميغاواط من الطاقة المركّبة وإنتاج الطاقة السنوي المقدّر بنحو 15.7 تيراواط في الساعة، ويتسع خزانه لـ74 مليار متر مكعب من المياه
من أوجه هذا التأثير الاضطرار إلى تغيير خريطة المحاصيل لمحاولة التعامل مع هذا النقص في المياه. فأوقفت الحكومة المصرية زراعة الكثير من المحاصيل التي تستهلك المياه بصورة كبيرة على الرغم من أهميتها كمحاصيل أساسية في غذاء المصريين مثل الأرز والموز. التوقف عن زراعة هذه المحاصيل لم يؤثر فقط على الفلاحين وإنما أثّر أيضاً على العاملين في قطاع الصناعات الزراعية المعتمدة على تلك المحاصيل.
هذا، ناهيك بزيادة مستويات البطالة، وارتفاع فاتورة استيراد المحاصيل التي توقّفت زراعتها. كذلك، سهلت الحكومة المصرية على المزارعين الحصول على تراخيص لحفر آبار للمياه الجوفية، فيما يبدو بادرة حسنة، إلا أنه على النقيض تماما. يؤثر سحب المياه من هذه الآبار، بلا دراسة، على حجم المياه الجوفية المصرية وعلى استدامتها حيث أن بعض هذه الخزانات ليست متجددة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بمجرد استكمال ملء خزان سدّ النهضة، ستسمح إثيوبيا للمياه بالمرور بشكل طبيعي مرة أخرى لدول المصب لأن مبدأ توليد الطاقة الكهرومائية مبني على فكرة مرور المياه لتدور التوربينات وتوّلد الكهرباء. وبالتالي، ليس هناك حاجة لدى إثيوبيا لاحتجاز مزيد من المياه بعد استكمال الملء، إذا كانت تريد توليد الكهرباء.
أما بالنسبة للتبعات السلبية على المدى الطويل لهذا السدّ، فتتمثّل في التأثيرات البيئية المتوقعة، مثل زيادة معدلات التبخر في النهر، بما يؤثر بدوره على جودة مياه النيل، وقد يؤدي إلى زيادة ملوحة المياه في دول المصب. ولا تهتم مصر بالتبِعات السلبية على المدى الطويل، على ما يبدو، عملاً بمبدأ "أحييني اليوم وأمتني غداً".
يحدث كل هذا في ظل ضبابية شديدة، وتجاهل كامل للموقف من الحكومة المصرية التي لم تعلن الأضرار التي حدثت للأراضي الزراعية المصرية، أو حجم تأثير تغيّر تدفّق مياه النيل على محطات ضخ المياه لأغراض الري على طول النهر، أو على الملاحة الآمنة، أو على الاحتياطي المائي المصري.
موقف النظام المصري من أزمة سدّ النهضة وضعه بين "المِطْرقة والسَّندانِ". فالنظام المصري، متمثّلاً في وزارة الموارد المائية والري المصرية، الذي اعتاد إعلان كمّيات مياه النيل التي تصل إلى الحدود الجنوبية المصرية في أسوان، توقّف عن مشاركة هذه المعلومات في السنوات الأخيرة، وأعلن ملف المياه "ملف أمن قومي". وأصبح إعلان كميات المياه التي تصل سنوياً لأسوان سلاحاً ذا حدين لأنه إذا أظهرت هذه الأرقام انخفاضاً ملحوظاً في المياه بسبب الاقتطاع الإثيوبي، فسيثير هذا غضب جموع المصريين ويحثهم على التساؤل عن دور قياداتهم في اتخاذ موقف واضح من الحكومة الإثيوبية، كما أنه سيظهر الحكومة والنظام المصريين في موقف الضعيف قليل الحيلة.
أما إذا أظهرت الأرقام وصول كمية مياه مقاربة للكميات التي تتلقاها مصر في العادة، فسيشجع هذا الإثيوبيين على الاستمرار في هذا النهج والتذرّع بعدم إلحاق الضرر بمصر.
ليس هذا فقط، وإنما فشل النظام المصري في التعامل مع هذا الملف كله رغم توقيعه على اتفاق إعلان المبادئ لسدّ النهضة بين دولتي المصب وإثيوبيا في 2015. هذا الاتفاق الذي لم يُفد مصر على الإطلاق بل قدّمت الاتفاقية لإثيوبيا القبول المصري السوداني بسدّ النهضة على طبق من ذهب، دون أية تعهّدات إثيوبية موثّقة أو مُلزِمة بشأن عمليات الملء وتشغيل السدّ في المقابل. وأضفت الشرعية على "الحق الإثيوبي"، ولكنها تفعل ذلك دون ذكر أو ضمان أية التزامات واضحة من جانب إثيوبيا.
مكاسب السودان من سدّ النهضة أكثر بكثير من التحفّظات والمخاوف بشأنه. ومع ذلك، هناك شاغلان أساسيان لدى السودان بسببه. الأول هو سلامة جسم السدّ نفسه لقربه الشديد من الحدود السودانية ما قد يعني إغراق السودان في حالة انهياره، والثاني هو عملية التشغيل السنوي للسدّ، بما لا يؤثر على ملء السدود السودانية الأخرى
وقد استمر هذا التعامل الرسمي مع المسألة بمزيد من العبثية ليصل في حزيران/ يونيو 2018، أثناء مؤتمر صحافي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، إلى طلب الرئيس المصري من آبي أن يقسم بالله أنه لن يضر المياه المصرية، في سابقة هي الأولى من نوعها ربما في العالم.
ورغم طول مدة المفاوضات بين الدول الثلاث طوال السنوات الأخيرة، بسبب التعنّت الإثيوبي، ورغم تدخّل وساطات مختلفة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، فإنّ الموقف المصري لم يتطوّر بشكل يُمثل الضغط اللازم لإجبار إثيوبيا على التوقيع على اتفاقية مُلزمة تحافظ على الحقوق المصرية في سابقة دبلوماسية وسياسيّة خطيرة. وفي ما يبدو أن ملء خزان سدّ النهضة قد مرّ بوسيلة أو بأخرى، وهو ما يثير مخاوف جديدة بشأن احتمال أن يحفز ذلك الشهية الإثيوبية على تحدّي معاهدات النيل، ومواصلة بناء سدود جديدة على النيل الأزرق.
وينشر رصيف22 مقالاً شهرياً يتضمن الحلول المستدامة التي يمكن الاعتماد عليها في كل من مصر والسودان، للتغلّب على أزمة سدّ النهضة وتأثيرها على الموارد المائية للبلدين. تجدون تلك المقالات تحت عنوان "أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سدّ النهضة (16)... إستراتيجيات متكاملة نحو الاستدامة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...