في عائلتنا يحدد الطفل منذ الخامسة مصيره مع نفسه، سيعرف هل هو مشجع فريق برسبوليس أو فريق استقلال. لم يحدث أن غيّر أحد منا اختياره في سنّ ما بعد الخامسة.
بين أقاربنا كنا عشاقاً لكرة القدم وننقاد للفريق الذي اخترناه. عادة ما يكون حبّ فريق سارياً. عادة ما يكون شخص في العائلة أو صديق تحبه أكثر من البقية ودون إرادة تشجّع الفريق الذي يشجعه هو. الشخص الذي كنتُ أودّه في طفولتي كان عمي وكان الحب الأول في حياته؛ فريق برسبوليس. منذ طفولتي كوّر قبضتي في الهواء وكرر: "برسبوليس" لدرجة أني تعلمت لفظها قبل مفردة ماما وبابا: "ب ب ب"، وكنت أفتح وأغلق قبضتي. أخذني عمي يوم أصبح عمري سنتين بصورة خفية إلى الملعب ليتفاخر بي بين مشجعي برسبوليس فحوّلني إلى برسبوليسية.
كان خالي الصغير يشجع فريق استقلال لم يتحمل سلطة عمي وأراد اصلاحي، وهذا ما حدث حين كان عمري أربع سنوات أخذني مرة إلى الملعب بعيداً عن أعين أبي وأمي. جلست هذه المرة في المكان المخصص لمشجعي استقلال ولكني كنت أصرخ دون توقف: "ببولي... ببولي..."، وأصيب المشجعون التيفوسيون بالغضب إلى درجة خجل خالي واخرجني من المعلب، أركبني دراجته النارية وعدنا إلى البيت.
في مرة من المرات بكيت وصرخت ورميت نفسي على الأرض وبعد نقاش وموافقة أمي وأعضاء عائلتها، سمحوا لي أن أقف في المرمى لكي يسمحوا لي باللعب وألا أتصادم مع غرباء في الملعب، لكنهم فشلوا
كنت في أوقات فراغي أمثّل دور مجتبى محرمي، محاولة تمرير الكرة إلى فرشاد بيوس الذي كان يمثل دوره ابن خالتي ليسدد ضربة قوية في مرمى استقلال.
مع ازدياد عمري طُردت من أرض الملعب. في شبابي، مع تشكّل جسدي الأنثوي لم يعد يمكنني الركض خلف الكرة لأخذها من اللاعبين المنافسين. لم أتقبل الأمر، لم أكن أريد تقبل أنّ قواعد اللعبة تغيرت، خاصة أنّ ملعب ابن خالتي تغيّر من باحة البيت إلى ملعب أرضيته خضراء. كنت أعشق ارتداء الرداء الأحمر الذي يتمرن فيه مهدي مهدوي كيا برقم 17 الذي خيّطته بنفسي وأنزل به إلى أرض الملعب. لا يمكن فعل ذلك مع حجاب وقميص فضفاض. ستخرج الفتاة المسلمة الشابة عن الآداب!
في مرة من المرات بكيت وصرخت ورميت نفسي على الأرض وبعد نقاش وموافقة أمي وأعضاء عائلتها، سمحوا لي أن أقف في المرمى لكي يسمحوا لي باللعب وألا أتصادم مع غرباء في الملعب، لكنهم فشلوا.
لست من حراس المرمى الذين يثبتون في المرمى ولا يتقدمون. كان قدوتي في المرمى عابد زاده وخوسيه لويس تشيلافيرت. أيّ مهاجم يقترب من المرمى كنتُ اهجم على رجله وأرمي نفسي عليه وإذا لم أبعد الكرة من بين أقدام المهاجمين لا أتراجع. في نفس الوقت كنت أراقب أمي واضطرابها من رجال عائلتها القاعدين في الملعب. لذلك قام خال أمي، وكان مشجعاً استقلالياً متعصباً، بالوقوف خلف تسديدة، يقيس موقع الهدف، رأيت في نظرته أنه يريد التسديد.
سدد ضربته القوية وقد وقعت بالتحديد وسط وجهي وخرجت خارج الملعب. ولأني عرفت أنه استهدفني، لم أتزعزع من مكاني لكي لا يسجل هدفاً. بعد التسديدة رأيت ابتسامة خبيثة وهو ينظر إلى وجهي ليقيس حجم ألمي. ضحكت وقفزت مثل عابد زاده وفتحت يدي موحية أني مستعدة لمزيد من الضربات. كان وجهي يؤلمني وتجمع ماء في عيني وأنا متأكدة أنه ليس دمعاً لأني لست ضعيفة لتهزني مثل هذه الرياح، ولكن على أية حال أخرجوني من الملعب بعد خمس دقائق.
جلستُ على الأرض منشغلة بفكرة كنت أصدقها. عرفت أني لن أدخل أبداً ملعب أولد ترافورد وآليانز وسن سيرو، لن أرفع إصبعي أمام آلاف المشجعين ولن أقبّل الأرض. تقبّلت أني امرأة أعيش في بلد لعب كرة القدم للرجال وحدهم، إذاً سأقلص حبي في التشجيع خلف التلفاز.
كنت دائماً قبل بداية لعب برسبوليس، أقف بالتحديد مثل المشجعين الرجال في الملعب أمام التلفاز، حين يقرأ المذيع اسماء اللاعبين، كنت أصرخ مع المشجعين. تلتصق ابنة خالتي بالتلفاز مقبلة الأعلام الحمراء الظاهرة على الشاشة. ترتعش أجسادنا حماساً. وذلك ما يغضب أمّي. هذا العمل يتنافى مع الأنوثة. لم تسمح لي أبداً لتعليق صور اللاعبين على جدران غرفتي.
تقول امتلاك صورة رجل غريب حرام. إذا وقع نظرها على صورة بين أغراضي تقف أمامي وتمزقها بصورة مسرحية وبدقة. بالطبع قد يكون أني امرأة حجة لأمي لتعاقب ابنتها البرسبوليسية وتمزق صور لاعبي برسبوليس، لأنها استقلالية متعصبة، وأبي أيضاً. إذا حدث نقاش حول استقلال وبرسبوليس أصبحت عدوة لهما دون أن أخجل. هكذا كانت عائلتنا بصورة عامة. أي حقد دفين بات في ذاتنا من كرة القدم، حقد حقيقي ومستدام.
كنتُ في المدرسة ظاهرة غريبة بالنسبة لمعلماتي، ظاهرة عجيبة ومسلية. مثلاً بعد مواجهة فريقين يطلبن مني الحديث عن المباراة قبل بدء الصفّ الدراسي. كنت أنهض وأشرح المواجهة مثل محلل رياضي غير محايد. إذا حاول مشجعو استقلال في الصف الكلام كانت المعلمة تسكتهم، لأنّ منصة كرة القدم في مدرستنا الثانوية كانت بيدي. كنتُ معروفة بهذا.
حين حاول محمد ابن خالتي مشجع برسبولسي متعصب، نفس الطفل الذي لعب دور فرشاد بيوس، الذهاب إلى طهران لرؤية الدوري، عارضت عائلته، كان عمره سبعة عشر عاماً ولم يحدث أن سافر دون عائلته لكنه هذه المرة قد سافر. سافر دون أخذ موافقة أبيه وأمه، يمكنه الذهاب على أية حال، فهو ولد. لا يمكن للعائلة الوقوف أمامه، أقصى ما يمكنهم الغضب عليه، ليس الأمر كذلك إذا كانت فتاة. حتى شربها للماء يتم بموافقة الأب.
أوصى محمد وأصدقاءه على علم كبير يُكتب عليه: "قلب بهبهان ينبض من أجل برسبوليس". حين تابعت ما يحدث أمامي، تآكلت من الداخل. كأنّ العالم قد انهار. أعرف أنّ الأمر غير ممكن، أعرف أنهم لا يدخلون النساء، أعرف أنّ الترفيه مشروع للرجال وحرام على النساء. بيد أنّ قطعة في روحي قد جُرحت. أنا أيضاً كنت برسبولسية كما كان محمد. كما كان حبه متوهجا، أنا أيضاً كنت أحمله. حين عاد استمر لفترة، مع نظرة متباهية، يتحدث لي عمّا حدث وعن الحماس، وإن خسر فريق برسبوليس. ومن هذه اللحظة كلما ذهب محمد إلى طهران لمشاهدة اللعبة يخسر برسبوليس.
ابنة خالتي التي كانت أيضاً مجنونة بكرة القدم، أصبحت عضوة في فريق بهبهان النسائي. كنتُ ألعب. بيد أنّ قلبي مع كرة القدم. لم أحب كرة قدم الصالات، حبي على الملعب الأخضر. تركض من أول الملعب إلى نهايته، في الهواء الطلق، بين المشجعين. لا أعلم لماذا يلعب الانسان في صالة خانقة وفي مسابقات لم تحمل على محمل الجدية؟ كنت أختنق في الصالة. أشعر أنّ فم الانسان يُخنق. هذا هو حال كرة قدم الصالات، مناسب لنساء كأنهن لسنا نساء. كانت مهشيد ابنة خالتي مهاجمة جيدة. تراوغ بصورة جيدة، تصنع أهدافاً ممتازة ولكن ما الجدوى؟ هذه الإرسالات يجب أن تكون أمام العالم. حتى أنه غير مسموح لنا أن نصوّر لعبنا! أردت أن أركض حرة على أرضية الملعب الخضراء وأن تلمس الريح شعري حين أسدد ضربة إلى المرمى، ولكن الريح لن تعبر أبداً من بين شعر امرأة مسلمة.
مرت الأعوام على هذه الحال. كان معيار قيمة الأشخاص في أن يكون برسبولسياً أو لا. كان أصدقائي الاستقلاليون يقولون لي "البرسبوليسية السيئة". كان هذا اسمي لأعوام. شهرتي. أن يكون الشخص برسبولسياً يحدد الكثير من الأمور. بصورة عامة لديّ صديقان استقلاليان وكنا منذ فترة طويلة منقطعين بعضنا عن بعض. أن يكون الشخص برسبولسياً، أمر مهم مثل مفتاح يفتح قفل قلبي. أقول لنفسي: "إذاً هو انسان ثقة، برسبولسي أصيل!"
مع الوقت عرفت طريقة للدخول إلى الملعب! "عليك التشبه بالفتيان!"، "كيف؟"، "ترتدي قميصاً وبنطلوناً فضافضين، وتضعين قبعة. لفي على ثدييك ضمادة بقوة لكيلا يلاحظا، وثمة شخص يحوّل وجوهنا إلى وجوه رجالية. يضع لنا لحية خفيفة!"، بإمكاني التعامل مع كلّ هذا إلا شدّ ثديي بقوة! كنت متعصبة على ثديي! "لو ارتديت ثياباً فضفاضة جداً لن يبان ثدياي!"، "لا حركتهما واضحة!". لم أذهب. ذهب البقية وقبض على البعض منهن. إما أنهن لم يشدن صدورهن جيداً أو الماكياج لم يكن متقناً.
كان معيار قيمة الأشخاص في أن يكون برسبولسياً أو لا. كان أصدقائي الاستقلاليون يقولون لي "البرسبوليسية السيئة". كان هذا اسمي لأعوام. شهرتي
بيد أنّ من دخلن الاستاد، وصرخن بمتعة باسم "برسبوليس" مع خمسين ألف مشجع في ملعب آزادي فقدن الإحساس بالمكان، صممت في المرة القادمة أن أشدّ ثديي بشريط. سيبقيان تحت الضغط لساعات ليس إلا. سأذهب إلى ملعب آزادي وستهتز الأرض تحت رجلي باسم "برسبوليس"!
حتى حين سمعت بأنهم قبضوا على بعضهن لم أهتم. ليقبضوا! أنا في الأساس لاعبة كرة قدم ويمكنني لعب دور رجل رجولي، صوتي رجولي. استعد يا ملعب "آزادي"!
وصل خبر القبض على فتاة اسمها "سحر خداياري" غيّرت ملامح وجهها لدخول آزادي، ومن شدّة ما عانته نفسياً أحرقت نفسها. عُرفت سحر خداياري بـ "الفتاة الزرقاء" الاستقلالية.
احترقت سحر خداياري وماتت. حزن الناس. نزل اللاعبون إلى الملعب واضعين على أذرعهم شريطاً أسود، ولكن لم يتغير شيء. كلّ شيء كان كما السابق. ينزل الرجال إلى الملعب ورجال آخرون يشجعون ويضربون الأرض بأقدامهم.
انقبض قلبي. هنا أحسست أني لو متُّ من أجل برسبوليس، فلن يهمهم الأمر. أنا التي نطقت منذ كان عمري سنتين: "ب ب..."، أنا من كان أول نطقي برسبوليس. فجأة تحطم شيء في داخلي. للتو عرفت أنّ حبي الحارق من طرف واحد. الحب الذي كنت أشتم من أجله وأُشتم، الحب الذي أموت من أجله. كأني عرفت للتو، لم يكن برسبوليس حبي.
كان برسبوليس حبيباً سيكمل دوني ولن يتوقف. لم أعد أشاهد اللعب. كلما صادفت نصاً مهاجماً لبرسبولس أعبره وأنا أعضّ شفتي. أخمدت حبي. بيد أنّ الأمر بالنسبة للرجال كان مثل السابق، وكذلك للنساء. اعتدن مشاهدة اللعب أمام التفاز.
ولكن بعد احتراق "الفتاة الزرقاء" فتحت طريقاً لـ "آزادي".
بعد إحراق "الفتاة الزرقاء" نفسها، وضعت الفيفا اتحادّ إيران لكرة القدم تحت الضغط ليسمحوا للنساء بدخول الملعب. باع الاتحاد تذاكر قليلة ونجحت في شراء تذكرة. بيعت كل التذاكر. ضربنا موعدنا مع صديقاتي الحاصلات على التذاكر. اتجهنا إلى ملعب "آزادي" وكلنا حماس. كانت مواجهة بين منتخب إيران وكمبوديا. لقد اختاروا هذه المواجهة عمداً لحضور النساء. لم تكن اللعبة حساسة. لن يزدحم الملعب وستتساهل معهم الفيفا.
انقبض قلبي. هنا أحسست أنني لو متُّ من أجل برسبوليس، فلن يهمهم الأمر. أنا التي نطقت منذ كان عمري سنتين: "ب ب..."، أنا من كان أول نطقي "برسبوليس"، فجأة تحطم شيء في داخلي. للتو عرفت أنّ حبي الحارق من طرف واحد
قرب ملعب آزادي كانت الفتيات أسراباً، حاملات الأعلام. نطلق الشعارات ونضحك. ظننا أنّ هذه بداية الحصول على الحرية (آزادي)، لكن لم يكن الأمر كذلك.
أخذوا في نقطة التفتيش علم برسبوليس. قالوا إنهم يسمحون فقط بأعلام إيران. لم يكن عندي علم إيران. مهما رجوتهم لم يسمح لي رجال الشرطة.
بعد نقطة التفتيش، كان ممر للوصول إلى المقاعد. سمعتُ صوت بكاء في الممر. كانت الفتيات يصفقن ويطلقن الشعارات ويبكين. ثمة فتيات وقفن في الممر ينظرن إلى المقاعد وهن يبكين.
كانت تمسح الفتيات على كراسي "آزادي" ويبكين بصوت عال. يطلقن الشعارات ويبكين. نتبادل جملة بيننا: "أيتها الفتاة الزرقاء، مكانك خال". كان التواجد في "آزادي" معادل حسرتنا كنساء لعمر كامل. لم يكن أمراً سهلاً، لم يكن.
تغلب منتخب إيران في ذلك اليوم بأربعة عشر هدفاً، وعدنا بنور في قلوبنا، ولكنّ إيران أغلقت مرة أخرى أبواب "آزادي" في وجوهنا. كل شيء كان مسرحية من أجل الفيفا. بالطبع لا يُقاس ما حدث مع تجربة الرجال في حماس "آزادي" في المواجهات الحساسة. كلّ ما في الأمر أنه كان انفتاح نافذة صغيرة فقط. النافذة التي أغلقت مرة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...