من وقت إلى آخر ينادي سلفيون، وأطباء سلفيون وأعضاء في مجمع اللغة العربية، بتعريب دراسة العلوم الطبية. الدعوة يرفضها، في الوقت نفسه، أطباء وغير أطباء. الفريق الأول غاضب، يتساءل: لماذا لا تتكلم العلوم بالعربية؟ يجيب الفريق الثاني: حين نسهم في إنتاج العلوم. أي فائدة للعربية إذا سمّينا الموبايل الجوّال، والكمبيوتر الحاسوب، والراديو المذياع، والتليفون الهاتف، والتلفزيون التلفاز، والبنك المصرف، والأتوبيس الحافلة (السيارة الكبيرة ذات المقاعد لنقل الركاب)، كيف نعرّب: الرادار، البروتين، الكاميرا، السينما، الفيديو، واصطلاحات تجوب العالم: pdf، jpg، تحليل pcr، نظام windows، photoshop، GPS Global Positioning System) ChatGPT, تعريبه: شات جي بي تي) ومعناه: روبوت محادثة بتقنية الذكاء الاصطناعي.
حتى DJ، اختصار (Disc Jockey)، يعني "فارس (أو مشغّل) الأسطوانات"، عُرّب إلى (دي جي). حروف عربية لاصطلاح إنكليزي ليس له بديل، ولا يهم كثيراً إرهاق أنفسنا في إيجاد بديل يبدو قناعاً مفتعلاً. ماذا نستفيد إذا استبدلنا بالإيميل البريد الإلكتروني؟ إدخال كلمة عربية، أما الصفة فهي للإلكترون الذي ليس له تعريب. وفي العالم العربي لا اتفاق على اصطلاح لما يتم تعريبه في بلد، مستقلاً ومختلفاً، عن بلد آخر، عربي أيضاً. الصفر كان ثورة في علم الجبر منذ اخترعه العرب الذين لم يعرفوا المليون، سمُّوه ألف ألف، وجاءنا المليون، والمليار يُجمع في مصر: مليارات، وفي بلاد المغرب: ملايير. هناك جَمْع بنكٍ: أبناك.
الفقر اللغوي تالٍ للاستلاب والتبعية الحضارية، وتعريب العلوم لا ينهي هذه التبعية، وتدريس العلوم بلغاتها الأصلية لا يجعل المتعلم مشاركاً في التطور العلمي، يظل تلميذاً دارساً متلقياً ثمارَ الآخرين. الحضارة العربية في صعودها أنتجت علوما طبيعية ترجمها الغرب إلى اللاتينية، ودرّستها جامعات أوروبية، حتى إن ول ديورانت، في المجلد السابع (13 ـ 14) من موسوعته "قصة الحضارة"، يسجل أن بغداد وحدها، كان فيها ثمانمئة وستون طبيباً مرخصّاً، عام 931 ميلادي. ويتوقف طويلاً أمام أبي بكر الرازي (844 ـ 926 ميلادي) الذي ألف 131 كتاباً نصفها في الطب، واشتهر بين الأوروبيين باسم Rhases، وترجم كتابه "الحاوي" إلى اللاتينية بعنوان Liber continens.
. أي فائدة للعربية إذا سمّينا الموبايل الجوّال، والكمبيوتر الحاسوب، والراديو المذياع، والتليفون الهاتف، والتلفزيون التلفاز، والبنك المصرف، والأتوبيس الحافلة (السيارة الكبيرة ذات المقاعد لنقل الركاب)، كيف نعرّب: الرادار، البروتين، الكاميرا، السينما، الفيديو، واصطلاحات تجوب العالم
يقول ديورانت إن رسالة الرازي في الجدري والحصبة "آية في الملاحظة المباشرة والتحليل الدقيق... أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين هذين المرضين"، وقد طبعت بالإنكليزية أربعين مرة بين عامي 1498 و1866. أما كتاب "الحاوي" فيبحث "في كل فرع من فروع الطب... وأغلب الظن أنه ظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض"، وكان واحداً من تسعة كتب تتألف منها مكتبة كلية الطب في جامعة باريس عام 1394. في تلك الكلية "عُلّقت صورتان ملونتان لطبيبين مسلمين هما: الرازي وابن سينا" الذي ترْقى مؤلفاته الطبية "إلى درجة كبيرة من البلاغة".
يسجل ديورانت أن كتاب "القانون" لابن سينا (980 ـ 1037 ميلادي)، بعد ترجمته إلى اللاتينية، "أصبح هو الذي يعتمد عليه في دراسة الطب في المدارس الأوروبية"، حتى أواسط القرن السابع عشر، "وجملة القول أن ابن سينا أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علمائها في البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها". خمسة أعلام أنتجوا علوماً. والاختراع ابن للمخترع أو المكتشف، وتلقائياً يحمل اسم الأب، مثل: قناة (فالوب) الإيطالي، جيمس (واط) الأسكتلندي، وهنري (فورد) الأمريكي، وميتشيو (سوزوكي) الياباني، وميخائيل (كلاشنكوف) الروسي، ، ومارسيل (بيك) الفرنسي، ومايكل (ديل) الأمريكي.
ماذا تتكلم العربية الآن؟ ماذا يرِد بخاطر مَن يسمع كلمة "عربي"؟ ماذا يقدم العرب الآن إلى العالم؟
باستثناء الإبداع، في الفنون والآداب، لا وجود للعرب أو للغتهم في المشهد العالمي. لا يسهم العرب في إنتاج أهم خمسين سلعة حيوية. لو اختفى العرب، ومعهم لغتهم، فلن يخسر العالم شيئاً، لن تأسف عليهم إلا أندية رياضية في بريطانيا وفرنسا وغيرهما، وشركات السلاح الكبرى، وموسوعة جينيس للأرقام القياسية إذ يرابط موظفوها في بلاد المغرمين بأفعل التفضيل في سفاسف الأمور، وشركات كبرى وصغرى ومتوسطة ترى العرب مجرد سوق استهلاكية شرهة. ولا تهتم صناعة السينما كثيراً بالسوق العربية، لكنها أحيانا تجد اللغة العربية معادلا للإرهاب. المسلمون والعرب واللغة العربية حلولٌ فنية لدراما بعض الأفلام.
في فيلم "BLOOD RED SKY"، إنتاج 2021 وإخراج الألماني بيتر ثوروارث، تخطف جماعة إجرامية متعددة الجنسيات طائرة فوق المحيط الأطلسي، فتضطر ناديا (الممثلة بيري باومايستر) إلى استخدام قواها الخارقة، لحماية ابنها الصبي إلياس. الأم تعتبره رجلها، وهو يجمع بين البراءة والذكاء، فيتعلق في المطار بكرة تشتريها له الأم، ويشرح لفريد (الممثل الألماني التونسي قيس الستي)، في صالة الانتظار حين ذهبت الأم لتناول الدواء، علاقة كروية الأرض بفرق التوقيت بين شاطئي الأطلسي، ويعرف سرّ مرض أمه، وأن في أمريكا طبيباً اسمه بروان يمكنه أن يعالجها، "سيزيل دمها الفاسد، ويزرع لها نخاع عظام جديداً، وسيتمكن الجسم حينها من إنتاج دم جديد سليم".
فريد ساعد الصبي في حمل الحقائب، قبل وصول أمه إلى المطار. وفي صالة الانتظار يكلمه الصبي بثقة ومعرفة بطبيعة مرضها، ولم يقل إنها مصاصة دماء، تتناول علاجا للتهدئة، وكبْح قواها غير الطبيعية. ويخبره فريد أنه عالم فيزياء مسافر لحضور مؤتمر علمي في الولايات المتحدة. فوق المحيط، يسمع الركاب أن الطائرة مخطوفة، ويؤكد الخاطفون أن هدفهم ماليٌّ، وأنهم يريدون إتمام للعملية بهدوء. مشهد متقن، مشحون بالرعب يقفز من ملامح المجبرين على التوجه إلى مؤخرة الطائرة، ورفع الأيدي والنظر إلى أسفل. لقطات مقرّبة للمأمورين بالصمت، ويزيدها المونتاج توتراً بحوار الضوء والظلال. والكاميرا اللاهثة، المحاصرة بأجساد المتدافعين وأذرع الخاطفين، تصطاد الموت في العيون.
في هذه الفوضى، لا يلاحظ إلا الصبي إلياس، على شاشة المقعد، أن الطائرة تستدير عائدة إلى الشاطئ الأوروبي. والأم الخائفة تحاول طمأنته بأنهم يحاولون تفادي عاصفة. شارك في عملية الخطف مساعد الطيار وأحد المضيفين، ولديهم قائمة بأسماء الركاب، فيتوقف أحدهم أمام راكب مسلم، ويسأله: فريد العطوة؟ يجيب فريد، فيحييه الخاطف بالعربية: "السلام عليكم"، ويأمره بالنهوض والمسدس في رأسه. الخاطف يعرف قليلاً من العربية، ويجبر راكباً أوروبياً على قراءة بيان بالإنكليزية، يفيد بسيطرتهم على الطائرة، وأنهم "جنود مخلصون للخلافة، وقد نبذْنا هذه الحياة لنبثّ الرعب في قلوبكم، ولنضرم نار جهنم في مدينة لندن. السعي إلى الموت لإذلالكم، أيها الكفار، أسمى أمانينا".
الفقر اللغوي تالٍ للاستلاب والتبعية الحضارية، وتعريب العلوم لا ينهي هذه التبعية، وتدريس العلوم بلغاتها الأصلية لا يجعل المتعلم مشاركاً في التطور العلمي، يظل تلميذاً دارساً متلقياً ثمارَ الآخرين
البيان، المكتوب بدقة احترافية، يضيف أنهم مستعدون للتضحية بأنفسهم، بلا تردد، في سبيل البرّ والإصلاح، ويتساءل: "ماذا يمكن أن تفعلوا في سبيل الدفاع عن مدنكم الغارقة في الانحلال والفسق؟ لقد حُذّرتم آلاف المرات، وحان الوقت الآن لكي تدفعوا ثمن جهالتكم". وأسفل البيان الإنكليزي بيان مقتضب بالعربية، أقرب إلى النداء، والراكب لا يستطيع القراءة، فيسأله الخاطف كيف لا يقرأ العربية بعد أن قضى في مصر خمس سنوات، "أي نوع من الإسلاميين أنت؟"، ويجيب الراكب المرعوب والدم ينزف من أنفه بأنه لم يعد ينتمي إليهم. يحاول راكب ملامحه عربية قراءته، فيتلعثم، ويناوله إلى فريد الذي يرى الكلمات، في سطرين اثنين، بهذا الترتيب:
"المباركة الغربة في المسلمين مجتمع يا افرحوا"
"الأوروبيين الكفار على الهجوم لنا حلل وتعالى سبحانه الله".
أمام الإرهابي المسلح، يقرأ فريد من اليسار إلى اليمين: "افرحوا يا مجتمع المسلمين في الغربة المباركة. الله سبحانه وتعالى سلّم لنا الهجوم على الكفار الأوروبيين". يغيّر كلمة، وبلهجته التونسية، يضيف جملة من عنده، تبرّئه من الاشتراك في الجريمة، فيقول وهو يخطف نظرة إلى الإرهابي الواقف: "حكَموا عليَّ بالسلاح وبالعنف باش نقرأ الرسالة هذي، احنا لا لي دخل في الاختطاف، ساعدونا، النجدة، الله أكبر"، فيقتل الإرهابي الرجل الذي قرأ البيان الإنكليزي، ويأمر فريد بالالتزام بقراءة النص المكتوب. كأن المجرم تعلم قليلاً من العربية؛ ليضمن ألا يضلّله مسلم عربي، حين يقرأ بياناً عربياً يخص عملية إجرامية لا علاقة لها بالإرهاب ولا بالمسلمين.
مَن أغرى المخرج بيتر ثوروارث، الذي شارك مواطنه الألماني ستيفان هولتز في كتابة السيناريو، بالأصالة العربية للإرهاب؟
العلامة المرجعية للجودة والامتياز، في الصفات والمنتجات، تُنسب إلى رائد أو علَم أو بلد: حكمة يمانية، كرم حاتمي، كرة برازيلية، هدف مارادوني، بُخل يهودي، ساعة سويسرية، موعد إنكليزي، تلوّن حربائي، مأساة إغريقية، قطن مصري، بيتزا إيطالية، سيجار كوبي، ماكينة ألمانية. فكيف تأكد لصناع هذا الفيلم أن الإرهاب، لكي يكون إرهاباً، يجب أن يُنسب إلى المسلمين، وأن ينطق باللغة العربية؟ لم تكن الجريمة، في الفيلم، ذات طابع إرهابي. مجرد سطو مسلّح. ولا يليق بخاطفي طائرة أن يتصاغروا إلى منزلة اللصوص، لهذا السبب قرر المجرمون اصطناع الهيبة، فنسبوا أنفسهم إلى هذا البارادايم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...