شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لم تعد غزّة

لم تعد غزّة "ترند" ولم يعد موتنا مدهشاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الأحد 3 نوفمبر 202412:47 م

لم يعد يسألني أحد: "كيفك؟". ولم أعد أردّ كما اعتدت: "أنا منيح، بس أهلي بيموتوا". تغير كل شيء، وكأن غزة انتقلت إلى كوكبٍ آخر، فلم يعد يصل منها أيّ خبر، لا شهداء، لا مشاهد مؤلمة، ولا حتى جُمل يتناقلها رواد منصات التواصل الاجتماعي بحُرقة، مثل: "يوسف 7 سنين، أبيضاني، شعره كيرلي وحلو" أو "روح الروح هذي... روح الروح" أو "هذي إمي بعرفها من شعرها".

على الرغم من أنّنا ما زلنا نموت بالحدة نفسها والعنف ذاته، نموت فرادى وجماعات، في مراكز الإيواء والبيوت والخيام والشوارع وعلى شاطئ البحر، وما زلنا أيضاً ننعى الذين نُحبهم بحرقة لا تنطفئ، لكن الذي اختلف بعد أكثر من عام من الإبادة، أننا لم نعد "ترند"، ولم يعد موتنا مهماً، حتى أنه صار مزعجاً كذبابة تأبى الانصراف.

لا أحد يسألني "كيفك"

في الأشهر الأولى للإبادة، لم يكن الناس من حولي يتوقفون عن طرح أسئلة من قبيل: كيفك؟ كيف أهلك؟ إنتو بخير؟ وعلى الرغم من أن ذلك كان يؤلمني لأنني لا أعرف ماذا أقول، إلا أن غياب هذه الأسئلة اليوم بات يجرحني على نحو خاص.

واكتشفت أنني كنت مخطئاً تماماً في ألمي، لم يكن عليّ أن أتألم أو أنزعج. كان علي أن أفتح يديّ وأستقبل الأسئلة جميعها، أخزنها في قلبي لوقتٍ لا سؤال فيه رغم كثرة الإجابات، فاليوم لا أحد يسألني: كيفك؟ ولا أحد يسأل عن أهلي.

أمتلك إجابات لا حصر لها، لكن لا أحد يسأل: كيف أهلك؟ ماذا فعلوا؟ إلى أين نزحوا؟ أعلم أن ذلك لن يعدّل شيئاً في ميزان الإبادة، لن يضع حداً للمقتلة، ولن يوقف نزيف الدّم. لكنه قادر، في الأقل، على مواساتي، وجعلي أعذر العالم، فأضع له مبررات كاذبة.

أمتلك إجابات لا حصر لها، لكن لا أحد يسأل: كيف أهلك؟ ماذا فعلوا؟ إلى أين نزحوا؟ أعلم أن ذلك لن يعدّل شيئاً في ميزان الإبادة، لن يضع حداً للمقتلة، ولن يوقف نزيف الدّم. لكنه قادر، في الأقل، على مواساتي

سيمكنني من خداع نفسي بالقول: إنهم يروننا ويسمعوننا ويألمون لما يحلّ بنا. لكن ما بيدهم حيلة، إنهم مثلنا مغلوب على أمرهم. ولكن الآن، بعدما أدركت حقيقة أن الأمر لم يكن يتعلّق بنا شخصياً، بل يتعلّق بالـ"ترند" التي صارت عليها غزّة، كيف سأستطيع خداع نفسي؟ وإن أعادوا لي السؤال فمن يعيد لي الإجابة؟

تجرحني شاشة التلفاز

لم يعد مذيع الأخبار يحكي الكثير عن موتنا، وبعدما كان يفصّل خبرنا إلى مناطق وحارات وبيوت وأسماء، صار يكتفي بذكر أعدادنا فيقول: راح جراء الغارة 5 أو 10 أو 100، ثمّ ينتقل إلى الخبر التالي وكأنّ شيئاً لم يكن.

فقد تحولت إبادتنا من مصاب جلل إلى حدثٍ عادي تماماً، لا تظهر تفاصيله على شريط الأخبار العاجلة، بل كجزءٍ من نشرة طويلة. أصبحنا خبراً عابراً بعدما كنّا الخبر الرئيسي.

لم تعد تعرض شاشة التلفاز أيّ إدانة لإبادتنا، فلا مجاعة الشمال تحرّك الدول لتلقي خطاب استنكار، ولا قصف مراكز الإيواء وحصار المشافي يستحق إدانة علنية، فتكرار المجازر جعلها حدثاً روتينياً في عيون العالم، وأصبح القتل والجوع والعطش واليأس أموراً عادية، تحدث بشكل يومي.

أدرك العالم أن الإدانة والاستنكار أمور لا توقفها الإبادة، ونحن أيضاً نعلم أن ذلك، وقد شتمنا من أدان واستنكر كثيراً. لكننا اليوم نكتشف خطأنا؛ نحن بحاجة ليدين أيّ شخص حول العالم إبادتنا، فإن كان لا بد أن نقتل، فلنسمع ونحن نموت إدانة العالم لإبادتنا وهذه أقصى أحلام المغلوب على أمره.

إن كان لا بد أن نقتل، فلنسمع ونحن نموت إدانة العالم لإبادتنا وهذه أقصى أحلام المغلوب على أمره

موتنا لم يعد مدهشاً

ربما لم يعد موتنا مدهشاً، فقد استهلكنا كل "ترند" يمكن أن نتصدّر به المشهد ونأثر في الناس، بدءاً من قصف المعمداني وصولاً إلى مجزرة المواصي وحرق الخيام. فقدمنا للعالم طوال سنة كاملة وجبةً دسمة تشمل جميع مشاهد القتل؛ فقد قُتلنا قصفاً وحرقاً وخنقاً، قتلنا كاملين ومقطّعين وأشلاء، قتلنا في البيوت والخيام والمشافي، قُتلنا أمام الكاميرا وخلفها، قتلنا تحت الهواء وفوقه، أمام المذيع ومن ورائه، في سيارات الإسعاف وعلى أبواب المشافي، تحت الركام وفي أحضان أمهاتنا، قُتلنا جوعى وخائفين ومترددين، يائسين ومحطمين ومغلوباً على أمرنا.

جربت إسرائيل بأجسادنا جميع أصناف القتل. لذلك، ربما لم يعد موتنا مدهشاً! حتى أن أولئك الذين اعتبروا إبادتنا مسألة شخصية في بدايتها، لم تعد تعني لهم الكثير اليوم، وغابت سيرتنا عن أحاديثهم اليومية، ومناشداتنا عن منصاتهم الاجتماعية، ومشاهد قتلنا عن عقولهم.

لكنني أعذرهم قليلاً، لقد ملّوا من مشاهدتنا نُقتل، وامتلأت عيونهم بالدم. ولا ننسى أن لديهم حياة يجب أن يعيشوها. لكن هل فكر أحد بنا؟ نحن أيضاً وراءنا حياة نريد أن نعيشها، إلا أننا الآن مشغولون، نشرب الدم يوماً بعد يوم، وليس الأمر هنا تشبيهاً بلاغياً، بل حقيقة مطلقة.

ليكن موتنا هادئاً

إذاً، علينا أن نموت بهدوء دون أن نحدث أي ضجيج للمتفرجين علينا. وعلينا، ونحن نموت، أن نراعي أياماً عادية يجب أن يعيشها الآخرون دون أن يشاهدوا أشلاءً عبر التلفاز، أو على منصات التواصل الاجتماعي، علينا أن نريحهم من مشاهدنا ومن ذنبنا إن كانوا يروننا ذنباً. ليكن موتنا هادئاً، لا استغاثة فيه، ولا أيّ بحث عن نجاة أو مؤازرة أو إدانة، دون صور أو فيديوهات أو صرخات ألم، دون مشاهد لجثث مقطعة ومحروقة.

حتى أن أولئك الذين اعتبروا إبادتنا مسألة شخصية في بدايتها، لم تعد تعني لهم الكثير اليوم، وغابت سيرتنا عن أحاديثهم اليومية

لقد أثبت العالم بعد سنة كاملة من الإبادة، أن التعاطي مع موتنا لم يكن "تعاطفاً" ولا "انتماءً" بل كان خجلًا صافياً، سرعان ما نسيه صاحبه بعد أن اعتاد المشهد، وأصبح الدم بالنسبة له مجرد لون أحمر ليس إلا.

فأطفأ التلفاز ولم يعد ينشر شيئاً ولا يتفوّه بكلمة، ولا يهمّه إن عشنا أو متنا من الأساس. ولذلك كله، لم يعد أحد يسألني: "كيفك؟" وأنا، أريد أن يسألني أيّ شخص الآن هذا السؤال لأردّ قائلاً: "أنا مش منيح، وأهلي ماتوا من الجوع والحسرة والصواريخ والخذلان، بس إحنا معدناش 'ترند'، لهيك، إنت مش عارف".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image