شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
شهرٌ من اللّوعة… رحيل جوليا والوجع الذي لا ينضب

شهرٌ من اللّوعة… رحيل جوليا والوجع الذي لا ينضب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الخميس 7 نوفمبر 202409:56 ص

الوجع الذي تركه رحيل جوليا، بات رفيقي كل لحظة، يعانقني ويذكّرني بتلك الأيام التي جمعتنا بضحكاتنا وأسرارنا. مضى شهر كامل على الاستشهاد، وأربعة أسابيع من الحزن الذي لا يستكين، وحنين يشتعل بغضب لا يهدأ.

كيف كان لي أن أتخيّل الحياة لولا جوليا التي رسمت بأناملها لحظاتنا بألوان الأخوّة والصداقة التي لا تشبه شيئاً؟
علاقتنا كانت تفيض بالدّفء. كنا نلتقي حيث كانت تعمل في مكان عملها القديم، نتشارك وجبة الغذاء ونفرغ همومنا. حين انتقلت إلى السكن معي، باتت صداقتنا أكثر من مجرد صداقة، كنا أختين في منزلٍ واحدٍ، نتشاجر أحياناً، لكننا نعود بسرعة إلى الضحك، وكأن الخلافات لم تكن إلا نكهات تضيف إلى علاقتنا طابعها الخاص.

وجع استشهاد جوليا ليس مجرد فقدان؛ هو جريمة لم يكن لها أن تحدث، لولا ظلمٍ يتغذى على آلامنا، وأحلامٍ اختارت إسرائيل أن تقتلها ببرود
حتّى "البلوك" كان جزءاً من طقوسنا، لا يتجاوز الساعات ثم تذوب حواجز "الزعل" بضحكة أو مزحة تعيدنا مجدداً. حتّى في أصعب أيامي، حين أثقل المرض جسدي وفرض عليَّ العزلة، كانت هي الوحيدة التي تهبُّ لتضيء وجهي بالضحكات. لم تلتفت إلى قواعد "التباعد الاجتماعي" التي فرضتها جائحة فيروس كورونا آنذاك، وتحدّت كل المخاوف… تأتي لزيارتي وقد ارتدت كمامتين على وجهها المشرق. عندما سألتها لماذا عرّضت نفسها للخطر لأجلي، ابتسمت وقالت: "لأني بعرف إنكِ بتحبيني، وبتحبي القهوة، فجيت أنا وياها لعندك".
لا يمكنني أن أنسى أم حسن، والدة جوليا، الشهيدة جنان البابا، تلك السيدة التي كانت بمثابة أم ثانية لي. كانت تحتضننا بحب لا يوصف، وتمدنا بدفء عائلي نفتقده كل مرة نبتعد فيها. كان طعامها له نكهة خاصة، وكأنه يحمل بين طياته قصصاً عن أصالتها وحبها للحياة. لم تكن مجرد وجبات؛ كانت دعوة إلى منزلها، إلى عالمها الذي كانت تملأه بروحها الجميلة. كل لقمة كانت مغمورة بعناية ودفء، وكأنها تعدها خصيصًا لنا لنشعر بالأمان في قلبها الكبير.
وجع استشهاد جوليا ليس مجرد فقدان؛ هو جريمة لم يكن لها أن تحدث، لولا ظلمٍ يتغذى على آلامنا، وأحلامٍ اختارت إسرائيل أن تقتلها ببرود. لقد رحلت جوليا رمزاً للإنسانية بأعمالها الإنسانيّة والبراءة بوجهها الضّحوك، وها نحن نقف أمام قسوة لا ترحم، قسوة تأخذ منا من نحب وتتركنا نتساءل: أين الإنسانية ممن يبني وجوده على أنقاض الآخرين؟ كيف يُسرق منا الأمان، ويُقتلع منا من نحبه كما يُقتلع جزء من القلب؟

جوليا ومهى كاعين

كل لحظة تمر، تجعلني أدرك أن دماءها الطاهرة هي شاهدٌ على جريمة لا تعرف الرحمة، شاهد على كيانٍ محتل لا يرى في حياتنا إلا مساحات للغزو والدمار. لكنَّ طيفها معنا، وروحها نورٌ ينير طريقنا، وذكراها ستظلّ لعنة تطارد أعداء الحياة.

كل لحظة تمر، تجعلني أدرك أن دماءها الطاهرة هي شاهدٌ على جريمة لا تعرف الرحمة، شاهد على كيانٍ محتل لا يرى في حياتنا إلا مساحات للغزو والدمار… السلامُ على جوليا، يوم ولدت ويوم انتُشِلَت حياتها بيد العدو الإسرائيلي، ويوم رحلت شهيدةً للحق والبراءة
السلامُ على جوليا، يوم ولدت ويوم انتُشِلَت حياتها بيد العدو الإسرائيلي، ويوم رحلت شهيدةً للحق والبراءة.
قتلت إسرائيل الناشطة في مجال العمل الخيري والإنساني جوليا رمضان (28 عاماً)، ووالدتها، في غارة على منزل عائلتها في بلدة عين الدلب، شرق مدينة صيدا، في جنوب لبنان، عصر يوم الأحد الموافق 29 أيلول/ سبتمبر 2024.
راح ضحية هذه الغارة الإسرائيلية أكثر من 45 شخصاً بينما كان والد جوليا وشقيقها أشرف بين 70 جريحاً أصيبوا خلالها.
كرّست جوليا أيامها الأخيرة لجمع التبرعات ومساعدة النازحين/ات إلى صيدا من القرى التي هدّدتها الغارات الإسرائيلية، وكان شقيقها أشرف شريكها في هذا العمل.
علماً أن الشقيقين كانا قد افتتحا مطعماً في الآونة الأخيرة، ثم خصّصاه مع بداية التصعيد الإسرائيلي ضد لبنان لتوزيع الطعام بالمجان على العائلات النازحة. والجدير بالذكر أن منزل العائلة تعرّض للغارة التي قضت خلالها جوليا خلال العمل على تحضير مجموعة جديدة من التبرعات.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image