في سينما "ريفولي"، نهايات عام 1952، شدت أم كلثوم، وبحضور الزعيم جمال عبد الناصر، قصيدة "صوت الوطن" لأوّل مرّة، من تأليف الشاعر أحمد رامي. تستهلّ القصيدة بـ:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كل روحي ودمي
من منكم يحبها مثلي أنا؟
فيرد عليها الكورال:
نحبها من روحنا
ونفتديها بالعزيز الأكرم
من عمرنا، وجهدنا
الغناء والبكاء
هذا السؤال، هذه الحالة من التنافس في حب الوطن، كانا بالتحديد هما المحور الأساسي الذي دارت حوله حلقة برنامج "الدحيح" الشهير تحت عنوان "أم كلثوم في باريس" الصادرة بتاريخ الثاني من أكتوبر عام 2024، من تأليف الكاتب أحمد الفخراني ومن إخراج محمد طارق، وبالطبع من تقديم أحمد الغندور.
الغريب هذه المرة في تصدّر برنامج "الدحيح" للمشهد هو البكاء! غريب جداً أن يشترك غالبية مشاهدي الحلقة في وصفهم للدموع وهي تهطل من أعينهم، بدون سبب واضح يمكن الإمساك به والتعبير عنه
نتحدث هنا عن حلقة عرضت بعد ما يقارب من ستة عقود من تاريخ الحفلة المنوط بها الحلقة، وسبعة عقود من شدوها أول مرة قصيدة "صوت الوطن". حلقة لم يناقش بها الغندور وفريق إعداده رحلة أم كلثوم، طفولتها الريفية، صناعتها لمجدها و نجاحها وتربّعها على عرش قلوب المصريين والوطن العربي كله، بل كان لب الحلقة أساساً هو تقريباً آخر عشر سنين في رحلتها الطويلة. تشريح نفسي وطني لـ "الست" و دافعها الوطني الداخلي القوي، الذي جعل سيدة في العقد السادس من عمرها قادرة، بحماس شباب مبهر، على المقاومة بسلاحها الخاص: الغناء.
بُثّت الحلقة، وفي ليلة واحدة تقريباً وصل عدد المشاهدات لمليون مشاهدة، وتصدّر مرة أخرى الغندور التريند. ولكن الغريب هذه المرة في تصدر برنامج "الدحيح" للمشهد هو البكاء! غريب جداً أن يشترك غالبية مشاهدي الحلقة في وصفهم للدموع وهي تهطل من أعينهم بدون سبب واضح يمكن الإمساك به والتعبير عنه. وفي أضعف الإيمان، من لم يبك، نجح بجهد كبيراً في أن يحبس هذه الدموع مع هذا الكم الهائل من المشاعر المختلطة الذي صاحبته لمدة 45 دقيقة كاملة، والتي هي بالتأكيد من أطول حلقات برنامج "الدحيح" منذ بداياته منذ تسعة أعوام، فماذا حدث؟ ما كل هذا البكاء على حدث مرّ عليه أكثر من خمسين عام؟
قلق وجودي بالتأكيد! كيف تأمن وأنت وسط الدمار؟
أم كلثوم بتقف في المؤتمر الصحفي، وبتقول من غير أي مرواغة: "أنا جايه باريس لواجب وطني، أنا جاية أدعم الجنود المصريين في معركتهم ضد العدوان": جزء من حلقة أم كلثوم في باريس- برنامج "الدحيح"
استنكر وعلق الكاتب الصحفي محمد الباز-واختصاراً لمنشوره على تطبيق التواصل الاجتماعي فيسبوك- بـأن حالة البكاء الجماعي التي انتابت متابعي الدحيح "من طلاب الإعدادي والثانوي" ما هي إلا "قلق وجودي وهزال وعي يحتاج علاج عاجل". يرى الباز أن برنامج الدحيح استغلّ ضحالة ثقافة متابعيه ولعب على مشاعر القلق -غير المبرّر في نظره- بحيث طال هذا التأثر عامّة الشعب و"الطبقة النخبوية"، إن صحّ هذا التعبير.
وكأن من المعيب أن يطال "القلق الوجودي" أحداً، بل إنه من الغريب فعلاً هو عدم مشاركة أي شخص في هذا القلق الموجود عند الشعب المصري حالياً! من يأمن على نفسه وأسرته وبلده التي حفرت في قلبه منذ آلاف السنين، حتى قبل ميلاده، في ظل خطوط النار التي تحيطها من كل اتجاه؟ كل جانب حدودي لمصر يعرضها لخطر، شرقاً وغرباً وجنوباً، يحيطك الخطر وعدم الاستقرار. أحداث السابع من أكتوبر، إبادة غزة، الاجتياح الحالي لـجنوب لبنان، ضرب ايران للكيان المحتل، حرب عالمية تقترب يوماً بعد يوم وأنت في قرارة نفسك تعرف أنك القادم، أنك الهدف الأهم في تحقيق مخططات وأجندات تسعى للاستيلاء على أرضك وطمس هويتك وتزييف تاريخك المكتوبين والمعروفين من آلاف السنين.
بأم أعينك رأيت تقاعس "المؤثرين" العرب عقب أحداث الحرب على غزة في أواخر العام الماضي، كيف لزم الكثير منهم الصمت، ومن نطق أخيراً، جاء بخطاب بارد عن "قدسية كل الأرواح"، مساوياً بين الضحية وجلادها
وأسوا نقطة في قلقك، وهو السبب الأهم في بكاء الناس أثناء المشاهدة، هو أفكارك التي جاهدت كثيراً حتى تتجاهلها في ظل الأحداث السياسية المتوهجة حولك؛ هو حالة التقاعس التي تراها في أعين غالبية النخبة والعامة. أنت لا ترى بيننا وبين نخبتنا الحالية أم كلثوم جديدة. تدرك أنه ليس هناك في عصرنا الحالية سيدة في الستينيات من عمرها ستكون قادرة على شنّ حملة تبرع فنية لمساندة الجيش المصري في التسليح، أو مساندة الاقتصاد بشكل عام. أنت بأم أعينك رأيت تقاعس "المؤثرين" العرب عقب أحداث الحرب على غزة في أواخر العام الماضي، كيف لزم الكثير منهم الصمت ومن نطق أخيراً، جاء بخطاب بارد عن "قدسية كل الأرواح"، مساوياً بين الضحية وجلادها.
وصف الدحيح الطريقة "الكلثومية" في الغناء والحفلات بأنها "تجربة شعورية" تنجح بها الست من خلال استغلال مهاراتها الصوتية والأدائية في إدخال المستمع في حالة شعورية متكاملة، بسبب عملية التكرار المتنوّع متعدد النغمات، والمد والوقف التي تجعل المتلقي أسيراً لها. و بذكاء وحرفية شديدة استطاع كاتب الحلقة أحمد الفخراني، ومخرج برنامج "الدحيح" أن يعتمد نفس الأسلوب في تقديم الحلقة. وضعنا الغندور وفريقه في حالة من التوحّد الأرسطي مع أحداث "الحدوتة" التي يرويها.
والتوحّد الأرسطي باختصار هو أن يرى المتلقي نفسه مكان البطل، يشعر بما يشعر به ويمرّ بما يعانيه من أزمات، وفي النهاية يتطهّر من عقدة وأزمة البطل. وهذا سبب آخر لبكائنا، وددنا جميعاً -على مستوى ما- أن نكون أم كلثوم، نحمل بداخلنا نفس مقدار الحب للوطن، نتخذ نفس قراراتها الحادة الصارمة، أن نملك نفس اليد الطويلة القوية التي تخطط وتنفذ/ بدلاً من إحساس المثل المصري "العين بصيرة والأيد قصيرة" الذي يلازمنا منذ أحداث السادس من أكتوبر العام الماضي وحتى الآن، مع اجتياح جنوب لبنان وتهجير أهله، نفس السيناريو يتكرّر، والله وحده يعلم ما تخبئه الأيام القادمة لمصر.
الأمل الذي خبا
"اليوم تشدو كوكب الشرق في عاصمة النور باريس، وغداً بإذن الله تشدو في القدس المحررة": المذيع جلال معوض في افتتاحية حفلة أم كلثوم في باريس عام 1967
بالتأكيد بكينا، وسنبكي في كل مرة تداعب أي "حدوته" حبنا للوطن وخوفنا عليه ورغبتنا في حمايته ولو سنفتديه بعمرنا وجهدنا. لا شك أن الدحيح اختار التوقيت واللهجة وطريقة التقديم المناسبة لطرح قصة السيدة أم كلثوم و"سنوات المجهود الحربي"، بما يتناسب مع "الترند" الحالي، الحرب على جنوب لبنان، الذكرى الأولى لأحداث السابع من أكتوبر، ذكرى حرب أكتوبر المجيدة نفسها التي هي عنصر أساسي في الحكاية. حاجتنا الماسة إلى أي أحساس بالنصر والعزة والكرامة ورغبتنا في تقديم تغيير حقيقي.
والغريب حقاً أن يرى البعض هذا التقديم نقطة ضعف لا قوة، ويدين من تأثر، على أساس أنها حكايات "معروفة" سُردت في هذا الوقت بالتحديد حتى تتلاعب بمشاعرنا. متى كان الهدف الأساسي من الفن هو الإتيان بما هو مجهول وسرّي؟ ألا تعتمد الدراما في الأساس على ستة وثلاثين تيمة مكرّرة، وهذا لا ينفي أبداً عملية الإبداع؟ نعم روى الدحيح قصصاً معروفة، بطريقة فنية مسلية ذكية، حتى يربطها بواقعنا الحالي، أي أنه قدّم، بشكل مختلف، معالجة جديدة لقصة معروفة، مناسبة للعصر الحالي والأحداث التي تدور به، وهو أساسيات عملية المعالجة الدرامية الناجحة.
بالتأكيد، بكينا ولسنا نخجل من هذا، وسنبكي في كل مرة يضغط عمل فني على حبنا لبلدنا.
النبرة الذكورية المتعالية على أن تكون "ست" هي من حقّقت هذا النجاح، وأنه بالتأكيد لم يكن نصر أكتوبر المجيد بسبب جهود "ست مغنية"، وأن الحرب لم ولن تنتهي إلا بالقوة الذكورية الفحولية
الست… سيدة عصرها حقاً
"ترد عليه عزيزي، وتقوله بالفرنسية: أنها بالصلاة على النبي، جاية فرنسا علشان تساهم في المجهود الحربي لبلادها. والله لو مش عاجبه نعتبر الاتفاق ملغي، وراحت مدوره للموسيقيين وقالتلهم لموا الآلات يا ولاد". جزء من حلقة أم كلثوم في باريس- برنامج الدحيح
الاعتراضات على حلقة الدحيح لم تكن في الجانب التنظير الفني التاريخي فقط، ظهر كذلك على سطح منشورات التواصل الاجتماعي نغمات الترحّم على الشيخ كشك الذي نكّل واستهزأ بالست أم كلثوم وبفنها، واستنكرت هذه الآراء على حلقة الدحيح تمجيدها لدور "مجرّد مغنية"، في حرب مستمرة محركها الأساسي هو العداء الديني بين المسلمين واليهود، وأن هذه التفاهات والإلهاءات هي سبب الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي وصل كالمعتاد لتخوين الغندور وتلحيده والتنكيل به وبمصادره الغربية الكافرة.
سيناريو متكرّر مع كل حلقة للبرنامج تتصدر الترند، وهناك كذلك النبرة الذكورية المتعالية على أن تكون "ست" هي من حقّقت هذا النجاح، وأنه بالتأكيد لم يكن نصر أكتوبر المجيد بسبب جهود "ست مغنية"، وأن الحرب لم ولن تنتهي إلا بالقوة الذكورية الفحولية.
كلها انتقادات وجهت للغندور وحلقته على أنها حالة مبالغ فيها بالتمجيد بسيدة بالتأكيد لم تكن بهذه القوة.
الحقيقة أن هناك سبباً شخصياً آخر دفعني، أنا سيدة مصرية، إلى التأثر والبكاء من الحلقة، هو فكرة أن هذا العمل البطولي الوطني نبع من "ست"، بل من "الست". هذه السيدة المصرية القوية التي تعرف جيداً مقدار أهميتها، حجم قوتها وقوة تأثيرها، في ظل الظروف التي تشارك بها الجنود المصريين تجرّع ألم فشل النكسة، مفاجأة الهزيمة غير المتوقعة، ما سبّب اكتئاباً جمعياً وعار هزيمة يرافق الجميع أينما ذهبوا، حالة من الصدمة الجمعية جعلت كل المبدعين والفنانين، وحتى عامة الشعب، يراجعون أفكارهم وعقائدهم. جنود فقدوا الأمل والأفكار الانتحارية تجول في عقول الجميع. يظهر وسط كل هذا سيدة مسنّة، بطاقة وأمل في النصر، تقود حملة تبرعات شعبية، مستغلة فيها كل ما تملكه من إمكانيات. وأثناء هذه الحملة لم ينجح أي مؤثر خارجي أن يجعلها تحيد عن هدفها. لا المال، ولا الانتقادات، ولا تهديد سلامتها الشخصية ولا حتى موت الزعيم الذي تؤمن به ،كان قادراً على تشتيت انتباهها عن هدفها. كيف لا أفخر بكوني أشترك أنا وهذه "الست" في جنسنا وحبّنا المشترك لنفس الوطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...