في البدء، أريدُ أن أوجز خطاب تأسيس "جمعية الشعراء البيتوتيين" في العالم، ولا أعني الشعراء الذين يمضون أوقاتاً طويلاً في بيوتهم أو الذين يحلمون ببناء بيوت صغيرة على ركام بيوت هائلة، إنما أعني هؤلاء الذين يمتلكون نظرة أليفة لقصائدهم، الذين يؤكدون مراراً، وعن قصد، مفردة "البيوت الشعرية" بدلاً من "الأبيات"، ففي البيوت من التماثل والدفء والتماسك ما يجعلنا أشد قوةً تجاه عالم يحاول انتزاعنا نحو شوارعه الجرداء.
نخبُ عتمتنا بصحّة قمر آب
ترّحبُ جمعية الشعراء البيتوتيين بأي شاعر تغنيه الإقامة داخل بيوته الشعرية عن التسكع في أروقة الكرنفالات وفنادق المدن البعيدة ومجالس الندماء، بمعنى أن العزلة تتحقق بالاكتفاء داخل القصيدة، لا داخل الهيكل أو الحجر أو الفناء الكلي لبيته فحسب.
وبغية إضفاء مسحة من الجدية على الفكرة التي أرغب بتسويقها أو إشهارها، فإن الجمعية تشترط على أعضائها أولا أن تكون لديهم رغبة بإبقاء قصائدهم معتمة لفترات كافية، أي ألا تدفعهم الضرورة الملحة لأن يسلط النقاد أو القرّاء الضوء على تلك الوحشية الدفينة في كل ركن: ما تتمّ إضاءته عنوة يتم تشويهه.
إن البيت يعني عدم الحاجة للتلصّص نحو الجيران، بمقصد أن نمضي الوقت في تآلف مع إمكانياتنا وعيوبنا وثغراتنا، أن نحب عتمتنا ونشرب أنخابها الأخيرة بصحة قمر من أقمار آب، مزمع على الرحيل.
البيت يعني عدم الحاجة للتلصّص نحو الجيران، بمقصد أن نمضي الوقت في تآلف مع إمكانياتنا وعيوبنا وثغراتنا، أن نحب عتمتنا ونشرب أنخابها الأخيرة بصحة قمر من أقمار آب، مزمع على الرحيل... مجاز
شاعر بيتوتي
أنا شاعر بيتوتي. عشتُ في البيت أوقاتاً ممتعة أكثر مما عشتُ خارجه. في البيت تعرفتُ على بوذا وديوجين الكلبي والمعري وبشار بن برد. في البيت سمعتُ موسيقى مجهولة، شاهدت أفلاماً مصرية لا تستحق إهدار الوقت. تعرّضت للظلم وشعرتُ بالفرح المجيد. نمتُ واستمنيت وحلمت أن أصير أباً رحيماً وولداً متمرداً. في البيت الحجري القديم، عرفت ما هي أسباب تشييد البيوت من الخشب.
من سمات الشاعر الذي يلزمنا أن يصبح ربّة بيت
اللمحة الأولى التي أحملها عن بيتنا تعود لسن السادسة، حيث انتقلنا من المدينة إلى الريف. البيوت في الريف تضغط على الذاكرة. الظلام هناك أشد حلكة وأبهى. النجوم ونقيق الضفادع يعيداني كل مرة لتلك اللمحة، حيث يجول طفل ببصره في السموات ظانّاً أن بإمكانه أن يلوح لأحد هناك في الأعلى، وليس في الأعلى سوى الله جالساً فوق عرشه، يراقب ويدوّن كل ما نفعل، يسمع ما نقوله وما نفكر به. تلك التكنولوجيا الخطيرة التي يملكها الرب تجعلنا خائفين من طفولتنا، ولا عزاء لدينا سوى اللعب على ضفة النهر، وما اللعبة التي كنا نواظب عليها؟
إنها لعبة تشييد بيوت من الطين، صناعة دجاج وأبقار بأرجل مضحكة وأطفال دون عيون. نترك الطين يجفّ ليلة كاملة ثم نجيء في الصباح وندمر كل تلك البيوت لنصنع غيرها. ذلك هو حال طفولتنا و ذلك هو حال الدنيا أيضاً.
تاريخ بيت غير مكتمل
أجلتُ الكتابة عن البيت لسنوات، متيحاً لنفسي الآن الفرصة عن الكتابة، وقد تزامن ذلك مع مباشرتي ببناء بيتي الخاص بعد أن عشت طوال 34 عاماً في غرفة من غرف البيت الكبير. أملك الآن نصف بيت، جدران دون سقف، لكني أنظر له كما لو أنه بيت مستقبلي دافئ. كما لو أني أقيم فيه منذ الانتهاء من أساسه.
بيتي يشبهني في النظرة للعالم وللأشخاص. أسمعه ينهي حديثه معي بالكلمات التي أنهي بها حديثي مع رفاقي: "نعم سينتهي كل شيء، الأمور لن تسوء أكثر مما هي سيئة الآن. أنا معتم من الداخل، لا أود أن أقضي وقتي مع أشخاص غير ودودين". كلمات عديدة يقولها البيت غير المكتمل بطريقته، ويفصح عما في نفسي، بيوتنا تعبر منا بصمت وجسارة.
من المفيد التذكير بأن الخيال جزء من أجزاء البيت. تخيل مصباحاً غير موجود، طاولة شاغرة، باباً خشبياً وهو من الألمنيوم، تليفوناً أرضياً، أباً أو جداً أو عمّة في إحدى الزوايا تلقي خطاباً شعبياً عن أخلاق الأجيال اللاحقة، ومن المفيد أيضاً الاعتراف بأن البيت لا قيمة له دون خيال يسهم بإضفاء نظرة رومانسية لأثاثه، وإلا فما الذي يبهج في التلفزيون العاطل أو الشراشف العتيقة أو حتى الأحذية المهجورة في الخزانة؟ ما الذي يجعل كل ذلك ضرورياً سوى نظرتنا عن البيت وحديثنا معه؟
محظوظ ذلك الشاعر الذي يصنع إمضاءً على هيئة بيت
بيتي حتى الآن نصف مكتمل لكني أشعر بحاجته لي، أمرّ بالفعل يومياً لأسعده، أقضي أمسياتي على مقربة من عوالمه فيكتمل.
بيوت مستأجرة تعاني إلى الأبد
لن ينطوي بيت خارج بلادك على الشيم التي يحويها بيتك هنا. حتى وهو مقفل يبدو بيتك حنوناً كأب هرم يغمض عينيه. إنه بانتظارك حتى حين تعود ميتاً ويتم تمريرك منه، تهدل حمامة و يصرّ باب خشبي عتيق، وتتفتّح ياسمينة مهملة. كل ذلك يعني بأن البيت لن يكون مأهولاً إلا بك، أنت صاحبه الأزلي، وإن قُدّر للبيوت أن تعاني فالبيوت المستأجرة أكثرها معاناة، فهي معرّضة حياتها لابتذال معاشرة غرباء بين فترة و أخرى، ما يمنعها من أن تكون أليفة حتى وإن ادّعت ذلك.
و بالعودة إلى القصائد، فإنها قد تكون بيوتاً مستأجرة أيضاً، حين نزعم أننا قراؤها الوحيدون، ثم نهجرها لأمد طويل، ومن المؤلم ألا يعود الشعراء لقصائدهم الأولى، ألا يربتوا على أكتافها، ألا يداعبوا كلماتها الساذجة، ألا يحبوها كنوافذ بيوتهم التي رأوا منها العالم صغيراً وساذجاً ونبيلاً.
إن قُدّر للبيوت أن تعاني فالبيوت المستأجرة أكثرها معاناة، فهي معرّضة حياتها لابتذال معاشرة غرباء بين فترة و أخرى، ما يمنعها من أن تكون أليفة حتى وإن ادّعت ذلك... مجاز
شروط الانتماء لجمعية الشعراء البيتوتيين
قبل أن يقدمَ أي شاعر على الانضمام لجمعيتنا يتوجّب عليه قراءة الشروط بعناية و الموافقة عليها:
1‑ ألا يسعى للشهرة كما يسعى صناع الرأي في العالم، القصيدة الحنونة لن تصبح رأياً.
2‑ أن يحبّ بيته بإفراط بما يدعه لا يتآلف مع مكان آخر، أن يكتب فيه ومنه وإليه أن اقتضى الأمر. من سمات الشاعر الذي يلزمنا أن يصبح ربّة بيت.
3‑ لا تتلف قصائدك إلا في بيتك، لا تدع آخرين يعثرون على شيء يعود لك خارج بيتك. لا تضحّ ببيتك من أجل وطنك، لا تفعل العكس أيضاً. حافظ على بيتك كما لو أنك أسرع زواره مضياً إلى الخلود.
4‑ المرايا والصور في البيوت ضرورية، عند الامعان بهما تذكر أنك تخطئ في معرفة الماضي، لا تحلم أن تغدو شاعراً محبباً في بيت دون مرايا عديدة.
5‑ ألا ينظر لبيته القديم على أنه ماض. شعراء جيدون يعني أنهم يحملون معهم بيوتهم لأي مكان.
6‑ أن يفضلَ القيام بأي شيء في بيته، المشاهدة، السكر، المضاجعة، الاسترخاء، التفلسف، الانضمام لحلقة مناقشة، المشي طويلاً، الاختباء إلى صباح الغد.
7‑ بيت صامت ليس بيتاً سعيداً، وبعبارة أخرى: لا تتشرف جمعيتنا بانضمام شاعر لا يدندن في الحمّام.
8‑ على شعراء الجمعية أن يكتبوا في أشدّ غرف بيوتهم عتمةً، كي لا يغتروا بظلالهم.
9‑ قصائد الشعراء تعبر عن بيوتهم أكثر مما تعبر عن مصائرهم.
10‑ محظوظ ذلك الشاعر الذي يصنع إمضاءً على هيئة بيت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.