معصوبة العينين، مكبلة اليدين، ومن خلفها علم إسرائيل، هكذا ظهرت المرشدة التربوية انتصار حجازي، من مدينة طمرة في الداخل الفلسطينيّ، في صورة "انتقاميّة" نشرتها الشرطة الإسرائيلية.
جاء ذلك بعد اعتقالها، وإثر تحريض وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عليها، بزعم احتفالها بأحداث السابع من أكتوبر. إذ شاركت في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024 مقطعاً من أرشيف حسابها في "تيك توك"، تظهر فيه بالتاريخ نفسه، قبل عام، أي يوم هجوم حماس، وهي ترقص داخل مؤسسة التعليم، وفي الخلفية كانت تتردّد أغنية " another good time".
بعد الإفراج عنها، ذكرت حجازي أنّها تعرّضت لتفتيش عنيف من قبل مجنّدة، وأنّ المسؤولين في مركز الشرطة طلبوا إحضارها إلى غرفتهم، ليقولوا لها: "أرقصي". لم تكن انتصار الشخص الوحيد في سلك التربية والتعليم، التي تتعرّض لمثل هذه الإجراءات التعسفيّة، إذ واجهت المعلمة صابرين مصاروة أيضًا تحريضاً وإبعاداً عن العمل، إثر مشاركتها في مسيرة العودة لإحياء ذكرى النكبة السادسة والسبعين.
منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر "وبين الفينة والأخرى، تختلق السلطات الإسرائيليّة أحداثاً كهذه، فهي طريقة ناجعة لتكميم أفواه الفلسطينيين في الداخل، لا سيّما المعلّمين والمعلّمات. وما حصل مع حجازي ليس حدثاً عابراً، بل مفصليّاً ترك أثراً عميقاً في نفوس المعلمين، الذين سيتوخّون الحذر على نحو أكبر، لتجنّب الوقوع في وضع مماثل"، يقول شرف حسان، رئيس لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، في حديثه إلى رصيف22.
منذ تأسيسها، عملت إسرائيل على مراقبة نظام التعليم الفلسطينيّ في الداخل، وتكثيف الخناق عليه عبر وضع المناهج التي تتواءم والسرديّة الإسرائيليّة في مواضيع كالتاريخ واللغة العربيّة والعلوم السياسىيّة. وقد ذهبت أبعد من ذلك، عبر شرعنة دور "الشاباك" (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) في التدخّل في المجال التعليميّ والتربويّ الفلسطينيّ. ولعلّ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024، كان درجة إضافيّة أخرى في سلّم الخطاب الانتقاميّ وفرض مرويّة القوّة والتفوّق العرقيّ.
مشروع قانون يضع المعلّم والمدرسة في قبضة "الشاباك"
أقرت لجنة التعليم في الكنيست الإسرائيلي مؤخراً، قانوناً جديداً يُلزم وزارة التربية والتعليم بأن تنقل، سنويّاً، قائمة بأرقام هويّات المعلمّين الذين توظّفهم في المدارس، لـ"الشاباك"، على أن يدقّق الأخير"بأي تقارير محتملة تدلّ على اشتباه بدعم المعلّمين أو تأييدهم للإرهاب".
ويمكّن القانون الشاباك من إقالة المعلمين والموظفين في جهاز التعليم، عبر إقصائهم وفصلهم إدارياً بدون قرار من المحكمة، في حال "أثبت تماهيهم مع الإرهاب".
يأتي هذا الإجراء تمهيداً لتحويله إلى قانون بعد التصويت عليه في الهيئة العامّة للكنيست، وإقراره والعمل به. ولا عجب أن جاء هذا القرار في لحظة مفصليّة في علاقة الفلسطينيّ في الداخل بالمؤسّسة الإسرائيليّة التي عملت منذ بدء حرب الإبادة على غزّة على إسكاته وتضييق هامش حريّة التعبير لديه، بصورة تبدو في كثير من الأحيان عبثيّة، كأن تُعتقل معلّمة بسبب رقصة.
هذا القانون هو تجلّ لسياسة العقاب الجماعي، إذ ينص كذلك على سحب الميزانيات من المدارس التي يُتّهم أحد المعلمين فيها بالتماهي مع الإرهاب
تقول المحامية سلام أرشيد من مركز عدالة القانوني، لرصيف 22: "لا شكّ أنّ هذا القانون سيزيد من الرقابة الذاتية لدى المعلم، التي كانت موجودة أساساً قبل الحرب. كما أنّ مصطلح "إرهاب" هو مصطلح فضفاض، وأي قول يختلف عن الرأي السائد في الدولة قد يعتبر تحريضاً، خصوصًا إذا كان قائله فلسطينيّاً".
ترى أرشيد أنّ هذا القانون سيزيد من ملاحقة المعلمين الفلسطينيين في الداخل، إذ ستُمنح إمكانية فصلهم "لأسباب سياسيّاً". وهذا ما حدث مع المرشدة حجازي، حينما سارع وزير التعليم بنشر منشور يبارك فيه اعتقال الشرطة لها، ويؤكد أنّها لن تخطو خطوة واحدة في وزارة التربية، إذا كانت "مذنبة".
"كما أنّ هذا القانون هو تجلّ لسياسة العقاب الجماعي، إذ ينص كذلك على سحب الميزانيات من المدارس التي يُتّهم أحد المعلمين فيها بالتماهي مع الإرهاب"، تضيف أرشيد.
من جانبه، يرى أشرف حسّان أنّ "الرقابة على جهاز التعليم الفلسطيني في الداخل، أنشأت ثقافة "الخوف"، ويقول: "يشعر المعلّمون بعدم القدرة على إبداء رأيهم، وأنه يجب أن يكون "مرضياً عنهم" لتحقيق تقدّم في مسيرتهم المهنية".
بحسب حسان، فقد تمّ عام 2009 إيقاف تدخل الشاباك "العلني" في جهاز التربية والتعليم العربي، وذلك بعد التماس قدّمته لجنة متابعة قضايا التعليم العربي ومركز عدالة الحقوقي. "لكن في الواقع، لا يزال تدخله قائماً خلف الكواليس حتى اللحظة. وها هو مشروع القانون يأتي ليُقونن ما بدا "غير مرئي".
ملاحقة المعلمين الفلسطينيين منذ "تأسيس إسرائيل"
لعلّ إسرائيل أدركت منذ نشوئها على أنقاض الوجود والرواية الفلسطينيّة، أنّ التعليم هو المدماك الأوّل في الوعي الفرديّ والجمعيّ، وبالتالي فهو محطّ خوف من الفلسطينيين الذين ظلّوا في حدود أراضيها بعد النكبة عام 1948. فبدأت إسرائيل منذ ذلك الحين بإحكام قبضتها على جهاز التعليم العربي، من خلال التحكم بالمناهج التعليمية وتغييب المضامين القومية، أو من خلال تعيين موظفين لا يُشكلّون "خطراً أمنيّاً" عليها.
"كنا نستمع إلى خطاب عبد الناصر أنا ومجموعة من المعلمين، دخل علينا نائب المدير، فصادر الراديو وهدّدنا بأنّ الأمر سيصل إلى المدير، وبالتالي إلى الحاكم العسكري. لم نُعفى من التهديد إلا بعد أن نفّذنا أمر نائب المدير بتبليط أرضيّة المدرسة كفعل عقابيّ"، يقول دكتور محمود مصالحة، الذي شغل منصب مدير مدرسة راهبات الناصرة في حيفا على مدار عشرين عاماً.
يتذكّر مصالحة كيف كان يُجبَر المعلمون الفلسطينيّون على تزيين الصفوف بمناسبة ما يسمى بعيد الاستقلال، حيث كانت المخابرات الإسرائيلية تستدعي أي معلم لا يلتزم الأوامر
ويردف: "بعد النكبة فُرض حكم عسكري على الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل حتى عام 1966. خلال هذه الفترة، كان الحاكم العسكري هو المسؤول عن تعيين المعلمين الفلسطينيين، ولم يتم تعيين المعلمين أصحاب المبادئ القومية الجليّة".
يتذكّر مصالحة كيف كان يُجبَر المعلمون الفلسطينيّون على تزيين الصفوف بمناسبة ما يسمى بعيد الاستقلال، حيث كانت المخابرات الإسرائيلية تستدعي أي معلم لا يلتزم الأوامر. حتّى أنه تعرض بشكل شخصيّ لسلسلة من التحقيقات، بسبب عدم انقياده للتعليمات المفروضة على المعلمين العرب آنذاك.
من الحاكم العسكري إلى الشاباك
يقول مصالحة إنّه رغم انتهاء العسكري، لم يتوقف تدخل الدولة بتعيين المعلمين الفلسطينيين، فقد انتقلت الصلاحية من الحاكم العسكري إلى "الشاباك".
كشف تحقيق لصحيفة "يديعون أحرونوت"، من خلال ملف سري للشاباك يعود لعام 1978، عن المراقبات الأمنيّة التي تعرّض لها المعلّمون والمديرون في المجتمع الفلسطيني في الداخل. تناول الملف كيف تدخّل "الشاباك" من خلف الكواليس، وكيف قام بتسريح العاملين في سلك التربية، وأدار سياسة "الرّاتب والعقاب". كما تطرّق إلى تدخلات "الشاباك" السريّة في إجراءات توظيف المعلمين وإزاحتهم في المناقصات لتعيين مدراء المدارس.
كما تم الاتفاق في حينه على "دسّ" ممثل عن جهاز الأمن العام في وزارة التربية، على أنّه موظّف فيه. وفقط في مطلع عام 2000 اعترف ممثلون في الدولة، أنّ موظفاً كبيراً في وزارة التربية كان في الحقيقة موظفاً في "الشاباك".
وقد تزامن هذا الملف السريّ مع توقيع اتفاقيّة كامب ديفيد، ومن القصص التي كشفها التحقيق إثر توقيع الاتفاقيّة، قرار موظّفين في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، "بيغن" إعادة "بعض الترتيبات في صفوف المعلمين الفلسطينيين"، بعد أن وصلهم بلاغ حول مربّ في مدرسة ثانوية في الجليل، قال لتلاميذه: "مع من يريد السادات أن يعقد اتفاق سلام؟ مع بيغن الفاشي الإرهابي؟ الذي قام بمجزرة دير ياسين؟”.
يؤكد مصالحة أنّ هذه "السياسات تهدف إلى تطبيق إرهاب فكري على المعلّمين الفلسطينيين. كي لا يتمكن المعلم من التعبير عن نفسه، حتّى أمام تلاميذه. وهذا ما يحصل اليوم أيضاً، وتحديداً في ظل الحكومة اليمينية المتطرفة".
ويضيف: "ما حدث مع انتصار حجازي هو البداية، وسيتكرّر مع مجموعة من المعلمين. إن لم يحدث شيء يردع هذه السياسة، فسوف يستمرون في العمل بها".
مدرّسون يشعرون بالاغتراب
يصف حسان الحالة التي يعاني منها مدرّسون كُثر في الداخل بـ"الاغتراب"، شارحاً: "ذلك حين يشعر المدرس بأنّه عاجز عن القيام بدوره التربوي، وبتأثيره على الوعي الاجتماعي والسياسي. وكون هذه القضيّة أساسية في واقعنا، أعتقد أنّ الرقابة تؤثر سلباً على انتماء الطالب، فمعلّمه لا يتكلم معه حول تاريخه ولا جغرافيته، ولا عمّا يدور برأسه حول الحرب المحيطة به".
يقول رأفت جمال، أستاذ اللغة العربية والتاريخ في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا، والتي تأسست قبل قيام إسرائيل، في حديث إلى رصيف 22: "تُتّبع سياسة "دسم السم بالعسل في المنهاج التعليمي العربي. فعلى سبيل المثال، يُسمح لنا بتعليم شعر محمود درويش. لكن نُمنع من تعليم أدب غسان كنفاني. والكثير من الأمور لا نستطيع قولها، فأيّ موقف يمكن أن يُعتبر تحريضاً، حتى لو كانت أغنية لجوليا بطرس أو فيروز".
قد يؤدي إلى عزوف بعض معلّمينا عن المواضيع الجدلية التي تتعلق بهويتنا الثقافية الجمعية. وبالتالي، هناك خطر في نشوء جيل أكثر انسلاخاً عن هويته الوطنية
أما عمرو إغبارية من مدينة أم الفحم، وهو أستاذ مدنيات، (وهي مادة تُدرّس مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان في إسرائيل) فيقول لرصيف22: "منذ نشأتها، دأبت وزارة التربية والتعليم في إسرائيل على إبراز وتعزيز الرواية الإسرائيلية الصهيونية مقابل طمس الرواية الفلسطينية".
ومن المعروف تزييف كتب المدنيّات للحقائق التاريخيّة المرتبطة بتاريخ الشعب الفلسطينيّ في أرضه، فتصف مثلاً أن البلاد قبل قيام إسرائيل "كانت خراباً"، وهو ما يتطابق مع مبدأ الصهيونيّة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". في تركيز على "وثيقة الاستقلال الإسرائيليّة" ويهوديّة الدولة، وتغييب لملايين الفلسطينيين وحقوقهم المدنيّة.
يخشى إغبارية من تداعيات القانون في تعزيز الفردانية في المجتمع الفلسطيني، قائلًا: "هذا القانون الظلامي يندرج ضمن موجة التحريض والتخويف التي يتعرض لها مجتمعنا الفلسطيني في إسرائيل منذ بداية هذه الحرب"، خاتماً بأنّ القانون "قد يؤدي إلى عزوف بعض معلّمينا عن المواضيع الجدلية التي تتعلق بهويتنا الثقافية الجمعية. وبالتالي، هناك خطر في نشوء جيل أكثر انسلاخاً عن هويته الوطنية. ويسعى فقط نحو الخلاص الفردي، مما يعزز ظواهر تفكك مجتمعنا الفلسطينيّ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعتينحبيت اللغة.
ادريس حسن -
منذ 11 ساعةسلام عليكم
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين