في عالم يسعى فيه الجميع إلى المحافظة على الشباب والرشاقة، يظهر خوف متزايد من التقدّم في السنّ والشيخوخة، ويُعرف هذا الخوف بـ"رهاب الشيخوخة"، أو "جيراسوفوبيا" (Gerascophobia).
هذا الرهاب لا يتعلق فقط بالخوف من الشيخوخة كمرحلة طبيعية في الحياة، بل يمتد ليشمل الخوف من فقدان الطاقة، والقدرة العقلية والجسدية.
يعكس هذا الرهاب ضغوطاً اجتماعيةً متزايدةً في المجتمعات الحديثة التي تمجّد الشباب، وتربط بين الجمال والقوة، ما يؤدي إلى آثار نفسية واجتماعية عميقة.
الوحدة والنبذ الاجتماعي
بحسب دراسة بعنوان Why Do People Fear of Aging? A Theoretical Framework، فإن الخوف من الشيخوخة يُعرف على أنه مخاوف الناس بشأن التقدم في السنّ، مثل المخاوف بشأن التدهور في الصحة والأداء البدني، المشكلات المالية، التدهور المعرفي، التغيرات في المظهر الجسدي والخسائر الاجتماعية.
يجادل سعيد رحال، في دراسته، في أنّ كبار السن يعانون من الشعور المفرط بالوحدة بسبب انشغال الأبناء أو رغبتهم في ألا يصبحوا عبئاً، لذا ينعزلون تدريجياً عن التجمعات والمناسبات. من ناحية أخرى، يولد الشعور بالوحدة عند الانقطاع عن العمل، وتمثّل فترة التقاعد مرحلةً تحوليةً في حياة الفرد، حيث يترك الشخص بيئة العمل التي كانت تمثل جزءاً كبيراً من حياته اليومية، لا سيما وأن العمل لا يوفر فقط دخلاً، بل يشكل أيضاً شبكةً من العلاقات الاجتماعية التي تدعم الفرد نفسياً.
"بعد وفاة أبي وأمي، وانفصالي عن خطيبي، راودني قلق شديد، فكل هذه الأحداث جعلتني أطرح بعض التساؤلات التي تخصّ الوحدة في الشيخوخة: ‘هموت لوحدي؟ هل هيكون معايا فلوس لجليس يونسني؟ أو حتى للعلاج؟ هل هيكون لي شريك يسندني؟"
هذه المخاوف تعكسها سارة في حديثها إلى رصيف22، فتقول: "بعد وفاة أبي وأمي، وانفصالي عن خطيبي، راودني قلق شديد، فكل هذه الأحداث جعلتني أطرح بعض التساؤلات التي تخصّ الوحدة في الشيخوخة: ‘هموت لوحدي؟ هل هيكون معايا فلوس لجليس يونسني؟ أو حتى للعلاج؟ هل هيكون لي شريك يسندني؟’".
تتفق معها آية، التي تقول لرصيف22: "ازداد القلق لدي مذ احتفلت بميلادي الأربعين. شعرت بمخاوف الوحدة وبأن تخونني صحتي وأضطر إلى الجلوس في دار للمسنّين، بالإضافة إلى المخاوف المرتبطة بقلة المال في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، لكني حاولت توظيف خوفي بشكل إيجابي حيث واظبت على ممارسة الرياضة ومتابعة الطبيب بشكل دوري".
الشيخوخة والوضع الاقتصادي
تتناول دراسة صادرة عن المعهد الوطني لأبحاث الشيخوخة، بعنوان: Lower wealth linked with faster physical and mental aging، حالة الشيخوخة لدى الأفراد وعلاقتها بمستواهم الاقتصادي والمادي، تابع خلالها أندرو ستيبتو وباولا زانينوتو، أكثر من 5،000 شخص بالغ، تتراوح أعمارهم بين 52 عاماً فأكثر، لمدة 8 سنوات بدءاً من عام 2004.
تم تقسيم المشتركين إلى أربع مجموعات بناءً على ثروة الأسرة، وجاءت نتائج الدراسة لتفيد بأن الأشخاص الذين لديهم ثروة أقلّ معرضون لخطر الإصابة بالعديد من الأمراض، بما في ذلك أمراض القلب والسكري والاكتئاب، كما أن متوسط أعمارهم أقصر.
وقد تلعب بعض عوامل نمط الحياة دوراً في ذلك. على سبيل المثال، يكون لدى الأشخاص ذوي الدخل المنخفض، معدلات أعلى من التدخين، وقد أبلغ الأشخاص الأقل ثراءً عن انخفاض أكبر في استمتاعهم بالحياة بمرور الوقت، وزيادة أعراض الاكتئاب، بينما كان الأشخاص الأكثر ثراءً أكثر ميلاً إلى مواكبة الأنشطة الاجتماعية بمرور الوقت، بما في ذلك التطوع والحفاظ على الصداقات.
"التفكير في الشيخوخة يثير الخوف من فقدان الإحساس بالزمن والقدرة على ملاحقة التغيير، أي أن تكلّ روحك ونفسك عن مواكبة الجديد، وأن يقف إدراكك عند لحظة معينة من الزمن رافضاً أن يتجاوزها، وبمرور الوقت يزداد اغترابنا عن الواقع وننزوي في ركن مظلم وبارد في انتظار الموت"
يقول آدم (31 عاماً): "يشغلني وضعي المادي كثيراً حين أتقدم في العمر. أخشى أن أصبح بلا مال وقابعاً في ركن وحيد، ولا أحد بجانبي ولا أستطيع الإنفاق على علاج أو على أي مستلزمات حياتية ثانية، بالإضافة إلى معايشتي تجارب كثيرة ومختلفة جعلتني أخشى الوصول إلى هذه المرحلة".
ويضيف: "عموماً، مع خوفي من المرض أو الحاجة، أتذكر دعوة والدي: ‘يا رب أموت وتراب الشارع على جزمتي’، والتي تعني أني أتمنى الموت وأنا في كامل عنفواني وصحتي".
تشاركه نهاد، التي تعمل كاتبةً، المخاوف الاقتصادية نفسها عند التقدم في العمر، فتقول لرصيف22: "حين نتقدم في العمر يتقلص الدخل المادي سواء لعدم قدرتنا على العمل أو بالتبعية لانخفاض قيمة المعاش، وهو أمر مخيف بالفعل".
ثلاثية الحياة والشيخوخة والموت
بخلاف هذه المخاوف، فإن زين كمال، الذي يبلغ منتصف الثلاثينات، يشارك شعوره الخاص تجاه الشيخوخة فيقول: "بالتأكيد يثير التفكير في الشيخوخة عدداً من المخاوف؛ منها ما يتعلق بالجسد، من قبيل العجز المتنامي والحاجة إلى عون ورعاية، والفقدان التدريجي للقدرة على رعاية الذات، ومن ثم فقدان الكثير من الاستقلالية والخصوصية".
ويضيف: "أن تصبح مرتهناً في احتياجاتك إلى عون غيرك هو تطور مخيف، كما أن التفكير في الشيخوخة يثير الخوف من فقدان الإحساس بالزمن والقدرة على ملاحقة التغيير، أي أن تكلّ روحك ونفسك عن مواكبة الجديد، وأن يقف إدراكك عند لحظة معينة من الزمن رافضاً أن يتجاوزها، وبمرور الوقت يزداد اغترابنا عن الواقع وننزوي في ركن مظلم وبارد في انتظار الموت".
يضيف زين، لرصيف22: "الشيخوخة بالنسبة لي تعني أن تتراخى قدرتك على التعلم، أن تفقد شغفك بالجديد، وتصبح كل غايتك أن يمرّ اليوم، وأن ينتهي يومك بسلام، ما يعني أنك ستعيش يوماً آخر. الشيخوخة لا تصيب الجسد فقط إنما العقل والروح؛ لذا أتمنى أن أموت واقفاً، أن أموت وأنا أحمل شغفاً، ويراودني أمل، ولديّ أحلام ما زالت أملك الرغبة والقدرة على مطاردتها".
أما بالنسبة لمريم، فتقول إن أكثر ما يرعبها هو الموت: "أخاف الموت، لا أريده، برغم معرفتي الكاملة بأنه الحقيقة الوحيدة، لكن الشيخوخة بالنسبة لي هي جرس الإنذار بأن أيامي أصبحت معدودةً وقليلةً. لا أتخيل أن تنتهي حياتي وأصبح في الفناء والعدم. أريد أن أظل شابّةً لأطول فترة ممكنة".
عوامل عديدة
في الواقع، إن قلق الشيخوخة متجذر في الخوف من الموت، فطبقاً لتطوير نظرية إدارة الذعر للعالم الأمريكي إرنست بيكر، يرى عدد من علماء النفس أن البشر يتمتعون بوعي ذاتي فريد بشأن فنائهم، وأن هذه المعرفة ترعبهم، وتالياً يمكن أن تساهم الشيخوخة في زيادة هذا الرعب، باعتبارها التذكير الأكثر مباشرةً بالموت، لذلك فإن العلامات الجسدية للشيخوخة مثل تدهور الصحة تخلق الخوف من الموت بشكل أساسي.
في السياق نفسه، يطرح ماركوس توليوس شيشرون، في كتابه "في مديح الشيخوخة"، النظرية التالية: "ما أتعسه حقاً ذلك الرجل الذي لم يدرك عبر حياته الطويلة أن الموت ليس بالأمر الذي يتعيَّن عليه أن يخشاه، فالموت إما أن يدمِّر الروح البشرية تماماً، وهو في هذه الحالة أمر لا يستحق الاهتمام؛ وإما أنه يأخذ الروح إلى مكان تخلد فيه إلى الأبد، وهو في هذه الحالة أمر مرغوب فيه. وليس هناك احتمال ثالث، فلماذا يتعيَّن عليَّ إذاً أن أخاف، ما دامت الحياة بعد الموت سيّان؟".
يعلق الدكتور خليل فاضل، استشاري الطب النفسي وزميل الكلية الملكية في لندن، قائلاً: "بالنسبة إلى رهاب الشيخوخة عند صغار السن نسبياً، فله عوامل وأسباب وراثية أو جيناتية أو عوامل بيئية. بالنسبة إلى الجينات، هناك استعداد جيني للتوتر والقلق من التقدم في العمر، أما العوامل البيئية ففي الأغلب تكون بناءً على تجربة حياتية مثل العيش مع الوالدين ورؤيتهما وهما يتقدمان في العمر ويفقدان لياقتهما أو يتعرضان للأصابة بالأمراض، بالإضافة إلى العوامل الثقافية التي تختلف من فرد إلى آخر".
ويشير فاضل إلى دور الإعلام في ترسيخ هذا الرهاب والقلق بحيث تضخّم مسألة الشيخوخة، وتركز على الشباب والجمال والحيوية وتعظّم من مخاوف الشيخوخة التي تصوّرها بنظرة نمطية ودرامية للغاية: "كأنها ترسل رسالةً ذات نمط معيّن بأنك ستكون حبيس بيتك أو دار مسنّين ولا غير ذلك".
يضيف الدكتور خليل: "إن أعراض رهاب الشيخوخة عبارة عن خوف زائد ومستمر يتمادى إلى تجنّب المواقف والأحداث التي تذكّر الفرد بعمره، مع وجود توتر وهلع من الشيخوخة وربطها بأحداث وقعت لأحد الوالدين أو المقربين، وتتلخص هذه المخاوف في فقدان الاستقلالية في الحركة نتيجة المرض أو غيره، أو الوحدة والانعزال أو الضغوط المالية. أما حالة الفوبيا بوصفها الطبي، فتكون لدى الأفراد الذين يعانون بطبيعتهم من تاريخ مرضي أو تاريخ من الاكتئاب أو التوتر والقلق بالإضافة إلى صدمات الفقد".
"أخاف الموت، لا أريده، برغم معرفتي الكاملة بأنه الحقيقة الوحيدة، لكن الشيخوخة بالنسبة لي هي جرس الإنذار بأن أيامي أصبحت معدودةً وقليلةً. لا أتخيل أن تنتهي حياتي وأصبح في الفناء والعدم. أريد أن أظل شابّةً لأطول فترة ممكنة"
وبسؤاله عن علاج رهاب الشيخوخة، يقول: "بالطبع يوجد علاج، لكن أغلب من يأتون للعلاج النفسي يلخصون مخاوفهم في الفوبيا من الموت ومعظمهم في الثلاثينات والأربعينات من العمر، وهم يعانون من فوبيا الموت وعلاجهم يكون بالتحليل النفسي أو العلاج الدوائي أحياناً في الحالات الشديدة".
في الختام يقدّم فاضل بعض النصائح للتخلص من مخاوفنا أو على الأقل تقليلها، نلخصها في خطوات معدودة:
- القدرة على التكيّف، أي أن تصبح لديك القدرة على إيجاد تصور إيجابي حول الحياة والتقدّم في العمر.
- أن تعرف/ ي أنّ لديك الآن ثمرةً ناضجةً من سماتها الحكمة والخبرة وسنوات المغامرات والتجارب، والوعي بهذه الأمور يحقق درجةً عاليةً من السعادة.
- ممارسة الرياضة أو السباحة أو المشي لمدة نصف ساعة يومياً، بالإضافة إلى التواصل مع الآخرين.
- ممارسة الهوايات، المكالمات والسفر. أي ألا تنغلق/ ي على ذاتك.
- الاسترخاء الذهني والجسدي والقدرة على التحكم في التوتر.
- التركيز على الأمور الإيجابية وأن يكون نمط الحياة إيجابياً.
- في النهاية، إذا شعرتم بتفاقم الأمور، عليكم/ نّ الذهاب إلى طبيب نفسي واستشارته وطلب المساعدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...