بعدد الخيبات التي مرّت في سنوات عمري الثماني والعشرين، بعدد الإنجازات التي حققتها ضمن هذا العمر، بكمية الكلمات الجميلة التي تصلني في كل يوم، وبعدد كؤوس الشراب التي مرّت أيضاً.
بعدد مرات التفكير بهذا الأمر خلال السنوات الثلاث الماضية، بعدد المرات التي شرحت فيها عن عملي عند كل مرة أجاوب فيها عن معناه، ولم أستطع إلى يومنا هذا أن يكون الجواب واحداً في كل مرّة. بعدد كل ما امتلكته خلال حياتي من قدرات، وبعدد كلمات التهاني و"الحمدلله عالسلامة" التي مازالت إلى اليوم تصلني عند رؤيتي في البلاد، بعدد الكتب والمقالات والكتابات التي قرأتها، وبعدد النصائح التي طُلبت منّي على نصوص قصيرة، وأنا أحاول التملّص منها لأني لا أملك هذه القدرة.
بعدد المرات التي تأخرت فيها عن أداء مهامي في عملي، بعدد المرّات التي بحثت فيها عن الأمان ولم أجده، بعدد المرّات التي لم أستطع أن أقول فيها "لا" عن كل ما يطلب منّي، بعدد المرّات التي خيّبت فيها أمل من أحبّوني في حياتي، وبعدد المرّات التي جلست فيها في بارات دمشق أستمع إلى قصص أشخاص لا أعرفهم.
بعدد المرّات التي قلت بها كلمة "بحبك"، سواء بالكذب أو الصدق، بعدد المرّات التي وقفت فيها على شرفة منزلي في القاهرة لأرمي نفسي، بعدد المرّات التي نشرت فيها الأمل والتفاؤل والابتسامات لمجتمعي، بعدد مرّات السنين الدراسية القياسية التي قضيتها في الجامعة، بعدد المرّات التي صلّبت فيها أمام الكنيسة القريبة من منزلي في دمشق وأنا مسلم، بعدد الأمنيات التي تدعو إلى النجاة التي كتبتها على كل شجرة أمنيات في دمشق، هل كل هذه المرات هي عمري الحقيقي؟
ما الذي يعنيه أن يكون العمر مجرّد رقم وما الذي يجب أن نقيس من خلاله عمرنا؟ هل هي التجارب؟! هل هي الخيبات؟! هل هي عدد المرات التي عشنا علاقة حب حقيقية فيها؟!
لطالما كان هذا السؤال يشغل مخيلتي، أناقشه بكل جديّة، ما الذي يعنيه أن يكون العمر مجرّد رقم وما الذي يجب أن نقيس من خلاله عمرنا؟ هل هي التجارب؟! هل هي الخيبات؟! هل هي عدد المرات التي عشنا علاقة حب حقيقية فيها؟!
قضيت من الوقت الكثير في محاولة منّي لأجد الجواب، وفي الوقت القليل الذي مرّ ولم أفكر فيه وجدت الجواب، أتاني بشكل غير متوقع.
أرتاد حانة أبو جورج بشكل مستمر، قليلة هي المرّات التي تمر دون أن أمرّ ولو لألقي التحية على أبي عصام، شقيق أبي جورج وصديق سهراتنا. منذ عدّة أيام، قصدت الحانة لأقابل صديقتي القادمة من طرطوس. غادرت ومشروبي لم ينتهِ، لذلك قرّرت أن أنهيه بصحبة أبي عصام الجالس بمفرده.
الحديث معه يعتبر إلى اليوم من أكثر الأحاديث المهمة التي بقيت لنا في هذه البلاد، أطرح عليه عدداً من الأسئلة ونتناقش في عدد من المسائل والحوادث التي تمر معه في الحانة ومع الزبائن، لكن في هذه الليلة قرّرت أن أدخل في تفاصيل أكثر عمقاً مع أبي عصام، وعند سؤالي الثالث له، بدأ بالإجابة ليتوقف عن الكلام لحظات وتخرج دمعة من عينيه، كانت هي المرة الأولى منذ معرفتي به تختفي الابتسامة لتحل مكانها الدموع ليكمل جوابه ويقول لي: "العمر يا يوسف هو رقم، شايف كل الكتابات يلي موجودة عالحيطان هي عمري بحسب عمري من وراها".
لقد أعطاني الإجابة التي أبحث عنها بأكثر طريقة صادقة من شخص يبلغ من العمر حوالي الثمانين وما زال يحاول أن يعطينا كل الحب التي تمنحه الحياة.
لقد كنت طوال الوقت أتحدث إلى كل من أعرفهم ليختاروا طريقاً آخر للهرب، أن يحاولوا في مرحلة ما بالتخلي عن مشاعرهم تلك التي تسحبهم إلى المكان الذي أسكنه اليوم، أن تكون حياتهم هي عبارة عن قرارات عقلية ولا شيء غير ذلك، أن يحاولوا، على الرغم من صعوبة الأمر، فصل حياتهم عن البقعة الجغرافية التي يقطنون فيها مهما بلغت من سوء، أن يبنوا حياتهم دوماً على وجود خط العودة ضمن أي مغامرة يختارونها، ألّا تسقطهم اللحظات السلبية في هذه الحياة، ألّا يهربوا من كل الصدمات التي ستعترضهم، وأن يذهبوا فيها للأقصى كيلا تتراكم، أن يعيشوا كل لحظة وكأنها بالفعل اللحظة الأخيرة في حياتهم. ألّا يخافوا من كلمة "لا" وألّا يتخلّوا عن الحرية مهما بلغت التضحية التي سيقدمونها، أن يعبّروا عن كل مشاعر عاشوها وألّا يبخلوا على أنفسهم بالسعادة، أن يختاروا طرقهم بأنفسهم لأن ضريبتها إن كانت جيدة أو سيئة هم وحدهم سيدفعونها، ألّا يجعلوا قرار أي شخص يؤثر في قراراهم.
نحتفل برقم أعمارنا لأن الحياة دائماً ما تحمل في طيّاتها متغيرات من السقوط من أعلى قمة إلى العودة والبدء من جديد وكأن شيئاً لم يكن.
الكثير من العبارات التي كنت سأكتبها مرتبطة بأن العالم الموحش لم يؤثر بي، ولكنني أنا الأثر الوحيد الذي سأصنعه، وأن هذه الخيبات هي من تصنعنا، وأن أبا عصام بكى عند حديثه عن ذكرياته وليس عند حديثه عن الحرب.
نقول دائماً في سوريا بأن عمرنا هو عمر الحرب، لا يتبادر إلى ذاكرتنا المرة الأخيرة التي وضعنا فيها الرقم الذي يدل على عمرنا سوى في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي وفي السير الذاتية، هل من المستحيل أن يكون تقديمنا إلى أي شاغر عمل مرتبط بما عشناه دون أن يكون عمرنا الصغير هو بالفعل ما يدلّ على خبرتنا؟!
منذ أيام احتفلنا مع صديقي بعيد ميلاده، قال لي عند سؤالي له بأنه لا يستطيع قياس عمره برقم، وأنه على الرغم من صغر سنه إلّا أن أحلامه هي مقياس عمره، لذلك فإن سيصنّف كرجل مسن نظراً لكون أحلامه ليس لها أي حدود.
نسعى دوماً إلى التقدم عبر كل ما مررنا به، لا نسأل عن أعمارنا. نحتفل بالرقم لأن الحياة دائماً ما تحمل في طيّاتها متغيرات من السقوط من أعلى قمة إلى العودة والبدء من جديد وكأن شيئاً لم يكن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 17 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...