"أهلًا بيك في الدايرة/في قصص دايرة/مين قالك إني فاضيلك أحايلك/مين قالك إني أحب مجايبك". (من أغنية "دايرة" للفنان زياد ظاظا).
قبل ساعات من افتتاح الدورة السابعة من مهرجان الجونة، يوم أمس 24 تشرين الأول/أكتوبر 2024، والتي جاءت بعد صراعات لعودته أساساً، فوجئ الجمهور بالإعلان عن وقف عرض فيلم الافتتاح "آخر المعجزات". قيل إن ذلك "لأسباب رقابية". جاء الإعلان في بيان أخرجته إدارة المهرجان، بعد انتشار أنباء عن رفض جهاز الرقابة على المصنفات الفنية منحَ التصريح بعرض الفيلم.
لم يعلق أحد. لم يوافق أحد على الحديث بعد كل تلك "القصص الدائرة" بتعبير زياد في الأغنية، لا وجود سوى للصمت التام عن الأسباب التي أدّت إلى ذلك. لكن هذا الصمت أعقب قصة قصيرة حزينة يمكن أن تكون كاشفة عن الفيلم، ثم السينما، وربما اللحظة التاريخية التي نعيشها. نحاول أن نحكيها هنا سريعاً إلى جانب معرفة لماذا اختار المهرجانُ الفيلمَ أساساً؟ وكيف تصرّف المهرجان سريعاً؟
اقتُبست فكرة الفيلم عن قصة لنجيب محفوظ "خمارة القط الأسود". كتب السيناريو مارك لطفي وعبد الوهاب شوقي، وانفرد الأخير بإخراجها على اعتبارها باكورة إنتاجه المنفرد بعد العمل لسنوات مساعدَ مخرج في العديد من الأعمال، من أفضلها مسلسل "منورة بأهلها"، الذي يبدو أنه بشكل أو بآخر كان في عوالم شبيهة على الأقل بصرياً.
لماذا مُنع فيلم معروفة قصته من البداية؟ وهل مرت أسئلة الرقابة على المنتجَين المشاركَين: مارك وأمجد، أم إن هناك أسباباً أخرى أعمق أو أكثر بساطة بكثير من غضب الأزهر الذي حَمل على عاتقه منع الفيلم؟
يعرف المهتمون بالأدب قصة "خمارة القط الأسود" لأديب نوبل الذي يبدو أنه لا يزال لديه الحظ الأوفر في إعادة إنتاج قصصه سينمائياً. وطبعاً لن تكون هذه هي المرةَ الأخيرة التي يؤخذ من ذخيرته الأدبية المجانية للحكاية والمجاز الذي يصلح لكل زمن. وتلك هي الملاحظة الأولى أن القصة ذاتها من البداية للنهاية طُرحت أبعادها العامة من قبل. ما يبدو مميزاً ومغرياً في تلك اللحظة هو وجهة نظر صنّاعها المعاصرين للحكاية اليوم، لكنهم برغم ذلك لم يخلقوا شيئاً تُفاجأ به الرقابة أو يصدمها تماماً.
تحكي القصة حياة يحيي الذي يجلس في خمّارة، يستقبل مكالمة هاتفية يدّعي خلالها أحدُهم أنه أحد أولياء الله الصالحين، ويخبره أنه الشخص المختار. سريعاً يتوهّم البطل ذلك ويصدّق نفسه من تلك المكالمة "الميمونة". بناءً على ذلك التصديق الفج، يصدّقه العامة كالعادة، قبل أن يكتشف الرجل أنه قد تم خداعه من أحد الأصدقاء. سريعاً ما يتحوّل المقدس إلى مدعاة للسخرية. يصبح البطل (يحيي)، صاحب المسمى النبوي الذي يعمل محرراً في صفحة الوفيات بالجريدة صاحبَ كرامة، ويصبح بسرعةٍ الأكثرَ حماقة بين الجميع.
تساعد حياة الرجل البائسة على تمنّي تلك المعجزة حتى قبل وجودها؛ إذ يبدأ الفيلم، الذي يخرج في ثلث ساعة فقط، من اللحظة التي يوبّخه فيها مديرُه بعد أن أخطأ في كتابة اسم شيخ صوفي شهير. بُعد ديني سريع قد يصبح مجازاً للتساؤل عن اللحظة التي أصبح الأبطال فيها يحتاجون إلى معجزة تنجيهم من الواقع. يتجاوز البطل الأديان للاعتماد على الأسطورة نوعاً ما.
الفيلم من بطولة خالد كمال، يشاركه في البطولة أحمد صيام، عابد عناني، وضيفة الشرف غادة عادل، من إنتاج أمجد أبو العلاء، مارك لطفي، باهو بخش، وعادل عبد الله، وتوزيع شركة "ماد سيلوشن". هذه الأسماء في الفيلم تقول إنه قد تم التفكير فيه جيداً من الناحية الإنتاجية. والملاحظة الأخرى أن مارك لطفي الذي شارك في الكتابة وأمجد أبو العلاء المنتج، كلاهما لديهما رهانات ناجحة في السوق العربي في السنوات الأخيرة، وهو ما يجعل مستبعداً تماماً أن يخرج الفيلم في نسخة نهائية يمكن أن تُغضب الرقابة.
تلك الأسباب المبدأية، على رغم بساطتها، لا تدعي بسذاجة بالطبع أنها تكفي للطمأنينة، لكنها تطرح أوّلياً فكرة أننا لدينا أشخاص قد فكروا مراراً في عدم الوقوع في ذلك الخطأ العابر. بل إن الفيلم كان قد مر على المراحل الرقابية التي تنجيه من تلك المفاجأة الصادمة التي تسبق عرضه بيوم واحد. وذلك يأخذنا إلى النقطة الأكثر أهمية: لماذا مُنع فيلم معروفة قصته من البداية؟ وهل مرت أسئلة الرقابة على المنتجَين المشاركَين: مارك وأمجد، أم إن هناك أسباباً أخرى أعمق أو أكثر بساطة بكثير من غضب الأزهر الذي حَمل على عاتقه منع الفيلم؟
فيلم "آخر المعجزات" يتبع الأسلوب ذاته الذي لاقاه فيلما "الملحد" و"التاروت"، وهما الفيلمان اللذان مُنعا رقابياً في الأشهر الأخيرة، ولم يتحدث صنّاعها بعد المنع سوى في كتابات سريعة للدعم غير الفعّال. وهو ما يمكن تفهّمه في إطار الحفاظ على بيع الفيلم وتوزيعه جيداً دون أن تتسبب أشياء جانبية في أزمة أو حتى في ظلم خطاب مخرجه الذي يحتاج إلى تحليل فيلمه أكثر من أن يصبح ضحيةً لأشياء ليست فيه، فمهما بحثنا في داخله لن نجد ما يضطرنا لوقف عرضه سياسياً أو جنسياً أو دينياً. وكما قال الفنان زياد ظاظا: "يا باشا فتّشنا وفتّش فتّش/مش هتلقى أي حاجة هتفيدك".
خطأ لا تُحتمل خفّته
رحلة الفيلم نفسها ملفتة للنظر، فقد ظل الفيلم في موجة من الذهاب والمجيء حتى آخر اللحظات، لتحدّد الإدارة إن كان يشارك في المهرجان أم لا. من ذلك تدخلت المنتجة والمديرة الفنية الجديدة للمهرجان ماريان خوري لتأييد وجود الفيلم في المهرجان، ثم قررت بأنه سيكون فيلم افتتاح هذه الدورة. وكانت تلك نقلة كبيرة للصنّاع بالطبع في مهرجان استطاع في دورات قليلة أن يُحدث زخماً واهتماماً عربياً واسعاً، نتيجة اختياراته والجهد المبذول فيه من قِبل كثيرين، على رأسهم من حمل المهرجان منذ بدايته، العراقي انتشال التميمي الذي لم يعد موجوداً في هذه الدورة بصفة رسمية.
البعض اعتبر اختيار ماريان للفيلم كفيلم افتتاح الدورة بأنه يعود إلى محبة كبيرة في صنّاعه الشباب أكثر من جودته؛ هناك ملاسنات تناقلها بعض من شاهدوا الفيلم قالو إنه لا يُفهم سبب ذلك الاختيار أساساً. حتى تتأكد تلك النظرة القاسية نسبياً بأن لماريان أسباباً أخرى وجيهة للاختيار، على رأسها أنه الفيلم المصري الوحيد الذي يملك وجوهاً لامعة على الشاشة يمكن أن تجلب جمهوراً للمشاهدة في أول عروض المهرجان، مثل بطله خالد كمال وغادة عادل التي تظهر بشكل قصير وسريع.
هناك فيلم وحيد غيره يمتلك نفس الصفات، وهو فيلم "آخر رسالة" القصير، لشيرين رضا. لكن الإدارة مالت إلى "آخر المعجزات" كعمل ترى أنه أكثر جاذبية في سياق افتتاح المهرجان، كما أن مخرجه في عمله الأول قد قدّم عرابين محبة مبشّرة بأعماله الأخرى.
قبل كل ذلك، كانت قد لجأت إدارة مهرجان الجونة في العام السابق إلى التفكير خارج الصندوق بافتتاح الدورة من خلال فيلم قصير، وهو تفكير له وجاهته ربما، لملاحظة أن الجمهور يوم الافتتاح تحديداً لا يود أن يتابع فيلماً طويلاً؛ فإلى جانب الفعاليات التي تحدث في يوم الافتتاح، يودّ الناس مشاهدة فيلم شيق ومسلٍّ وقصير، وهي أشياء حققها فيلم "آخر المعجزات"، كما حققها فيلم "60 جنيه" الذي افتتح الدورة السابقة، وكان سيرة ذاتية للفنان زياد ظاظا الذي بدأنا المقال بكلماته.
عندما استُبعد "آخر المعجزات"، أعلن المهرجان سريعاً أنه سيعرض فيلم السعفة الذهبية "الرجل الذي لم يستطع أن يبقى صامتا" (THE MAN WHO COULD NOT REMAIN SILENT)، وهو فيلم قصير للمخرج نيبويشا سلييبسيفيتش، من إنتاج كرواتيا، وفرنسا، وبلغاريا، وسلوفينيا، مدته 14 دقيقة، يتابع قصة ركاب قطار أوقفتهم ميليشيا عسكرية في عام 1993 في البوسنة والهرسك، خلال عملية تطهير عرقي. ومن بين 500 راكب، رجل واحد فقط يجرؤ على التصدي لهم. يبدو أن الفيلم قد حقق معناه، فلم يستطع أن يبقى صامتاً لدرجة أنه قرر أن يفتتح المهرجان بصوت عال!
أما سؤالنا فهو باقٍ: لماذا منع المهرجان الفيلم؟ أو منع الأزهرُ الفيلم؟ أو منعت الرقابةُ الفيلم؟ الجميع يمتنع عن الحديث. ولا يبدو أحد من الجميع يهتم بحرقة قلب مخرج يرى عمله الأول يتعرض للظلم لحسابات خارج مشاعره. لكن من بين كل الأسباب التي تناقلها الصنّاع والمتخصصين في الداخل، كان الأكثر منطقية هو أن إدارة المهرجان أعلنت أن "آخر المعجزات" سيكون فيلم الافتتاح قبل أن تُخبر الرقابة بذلك، وهو ما أثار حفيظة جهازَ الرقابة الذي يجب إخبارَه بذلك قبل الإعلان بالموافقة. وسريعاً ما قررت الرقابة أن يذهب الفيلم ليحصل على موافقة الأزهر، وهي تعلم الوقت الذي سيحتاجه ذلك بعد أن يكون الافتتاح قد فات، لأنه لم يمنع، بل عُطّل فقط بـ"كتف قانوني".
فيلم "آخر المعجزات" يتبع الأسلوب ذاته الذي لاقاه فيلما "الملحد" و"التاروت"، وهما الفيلمان اللذان مُنعا رقابياً في الأشهر الأخيرة، ولم يتحدث صنّاعها بعد المنع سوى في كتابات سريعة للدعم غير الفعّال
يبدو الأمر أشبه بـ"قرصة ودن" لعدم تجاوز موافقة الرقابة تحت أي ظرف. ولا يبدو أن الرقابة تتحمّل ذلك الخطأ على أي حال. لكننا الآن، إن صح ذلك، فنكون أمام موقف مرتبك أيضاً: المخرج لا يتحمل شيئاً أيضاً، ولا يبدو أن إدارة المهرجان كانت تقصد أن تتجاوز الرقيب أو تتعمد تجاهله، لكنها من بين كل الأطراف تتحمل ضريبة حدوث ذلك لو كان ذلك السبب فعلاً.
كل ما نتمناه أن يمر ذلك سريعاً، ولا يؤثر على باكورة إنتاج مخرج الفيلم، ويأخذ الفيلمُ دورته للعرض في ما بعد. ما ينبغي هو أن يتمّ الحديث عن الرؤية والخطاب داخل الفيلم، وليس النميمة التي لجأ الكثير إليها لكي يفهم أولاً وأخيراً أن الأزهر بعيد عن ذلك، فيتحمّل الأزهر تلسيناً منذ الأمس، دون وجاهة كبيرة، كما تحمّلها كثيراً في مواقف سابقة، وتجاهل الجميعُ تبرئتَه في ما بعد.
أفلام أخرى في الطريق
الجدير بالذكر أن رصيف22 سيتابع لاحقاً تغطية المهرجان من خلال الكتابة عن عدد من الأفلام التي يراها ملفتة، في مهرجان يشهد عرض حوالى 83 فيلماً، كما توسع في برنامج "سيني جونة"، الذي يوفر فرصاً للتعلم والتعاون لصناع الأفلام الشباب، إذ يقدم جوائز تصل قيمتها إلى 360 ألف دولار، ويتنافس عليها 21 فيلماً من 13 دولة عربية وتسع دول غربية.
يضم المهرجان أيضاً عدداً من الشخصيات السينمائية المرموقة، مثل الممثلة الهندية نانديتا داس التي تترأس لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة، والمخرجة اللبنانية إليان الراهب، التي تترأس لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية الطويلة، والممثلة المصرية منة شلبي، بالإضافة إلى الممثلة المصرية أمينة خليل، والممثل المصري أمير المصري، عضواً في لجنة تحكيم الأفلام القصيرة. كما سيشارك نخبة من كبار السينمائيين العالميين في فعاليات المهرجان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...