قطع الطبيب الحبل السرّي، وربما رماه في القمامة. هذا الحبل الذي تقاسمت عبره وطفلتي الدم والغذاء، انتهت وظيفته فأصبح في لحظة واحدة نفايات طبيةً. هذا الكائن الصغير بات يتنفس وحيداّ ويصرخ، ثم يصمت عندما يلتصق بي. كأنه سحر. إنها تعرفني... منذ تلك الثواني الأولى تعرفني، تعرف رائحتي، صوتي وحرارة جسدي، أما أنا، من أنا؟ فلا أعرف نفسي... أعرف فقط أنّي صرت أمّاً، وأشعر بأنه منذ ذاك اليوم، جزء كبير مني وُلد، وجزء كبير غادر بعيداً بعيداً.
بعد سنتين أسأل السؤال نفسه: من أنا؟ أجد تعريفاً بسيطاً: أنا أمُّ خائفة. بنى القلق في صميمي طبقات حتى صرت برجاً مظلماً، نائياً ومخيفاً. أرهبني العالم منذ سنوات بوباءٍ تفشّى، ما زالت بقايا تاجه ملتصقةً على جدران برجي المتعفّن، وفيما كنت أمسح شوائبه كي أتنفس، كي أفتح شبّاكاً للهواء، أتتني ريح من أعتى ما رأيت. حطّمت نوافذي والأبواب... لقد بدأت الحرب في غزّة. صرت أرى صوراً من خلف الشاشات أقبح من أقبح مخيّلة، وثّقتها ذاكرتي أرشيفاً. أحاول اليوم أن أرمي تلك الصور بعيداً، أحرق أرشيفها، أنثره رماداً يطير إلى غير عودة، لكنني أعجز. أعجز لأني هنا، في لبنان، في حربٍ مستنسخة جديدة، فكيف تطفئ النار ناراً؟
كنّا صغاراً حين كان يُغير الطيران المعادي على مدينتي بعلبك في البقاع اللبناني. مرّ أكثر من أربعة وعشرين عاماً وما زال مشهد اهتزاز النوافذ في بيتنا وأصوات الطائرات الحربية قريباً، أذكره جيّداً
كنّا صغاراً حين كان يُغير الطيران المعادي على مدينتي بعلبك في البقاع اللبناني. مرّ أكثر من أربعة وعشرين عاماً وما زال مشهد اهتزاز النوافذ في بيتنا وأصوات الطائرات الحربية قريباً، أذكره جيّداً. أذكر كيف كنت أهرع مع أخي الأصغر من الطابق الثاني إلى الطابق الأرضي في المبنى حافية القدمين. يغير الطيران فيصبح بيتنا كرةً نشعر بها كأنها تعلو ثم تهبط، ثمّ يأتيني حضن أمّي، تأتيني تمتمتها بصوتها الخافت، أهدأ. كان حضنها أماناً، وكان عقلي الصغير يصدّق كلماتها المطمئنة المتماسكة الهادئة، ألم تكن أمي خائفةً حينها؟ بلى. كانت تدّعي القوة كي لا نخاف.
يقول علماء نفس الطفل ومدرّبو التربية في نصائحهم، إنّه لا يمكن لطفلك أن يكتسب ما لا تملك. كيف أعطتني أمي طمأنينةً إذاً؟ كيف غمرتني فارتاح قلبي وهدأت أنفاسي؟ اليوم أكذب على طفلتي. أخبرها في كلّ مرة بأن أصوات الانفجارات التي تسمعها ليست مهمةً، تتبدل مع حال الطقس فتكون قوارير غازٍ تنفجر حين يكون مشمساً، أو تكون رعداً قبل المطر حين يكون في السماء غيم. أتصدّقني؟ ربما. عيناها المتلألئتان تخبرانني بأنها لا تحب تلك الأصوات في كل حال.
أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أدرك أن غريزتي ليست فقط أن أحمي روحي وحدي، بل أن أحمي روحي المتشعبة، تلك التي أزهرت حين قطع الطبيب الحبل السرّي. أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أكبح خوفي كي أحمي عشّي والخيارات شحيحة. أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أتناسى كل نصائح التربية التي قرأتها وسمعتها لأنها تثقلني، لأنها اليوم ليست لي، ليست لنا، ليست للكثير من الأمهات المرهقات اللواتي يبحثن عن مأوى. يتحدث مدرّبو التربية مثلاً عن أهمية الروتين اليومي للطفل ودوره في تحقيق توازن في النمو العاطفي والمعرفي والاجتماعي بالإضافة إلى إتاحته فرصاً لاكتساب الطفل مهارات جديدة. يحتاج الروتين إلى عاملين أساسيين، إلى زمانٍ وإلى مكان. كيف يصبح الروتين حين ينسلخ الطفل من غرفته وسريره، من منزله وألعابه دون تمهيد ويجد نفسه في أماكن مختلفة جديدة... في عالمٍ جديد. كيف يهدأ وأمّه تبحث عن ملابس نومه في أي حقيبة وضعتها، عن لعبته المفضلة؟ هل بقيت في المنزل أم جلبتها في حقيبة يدها "زركاً" في اللحظة الأخيرة؟ كيف يصبح روتين طفلتي حين أعيش في غربة عن نفسي ومشاعري وعن الزمن؟ يؤلمني أن أتذكر روتيني في بيتنا لأني لم أختر أن يصبح ذكرى، يؤلمني أن أفكّر في المستقبل، وأهرب من الحاضر البائس.
كيف أصنع روتيناً هارباً من محطات الزمان والمكان المتحركة؟ في ظلّ تلك المتاهة أقيّم نفسي أمّاً عاجزةً، فيزداد شعوري بالذنب. أحاول أن أكبحه فأرضخ لرغبات طفلتي وأعطيها الكثير مما كان قليله فقط في بيتنا مسموحاً. يؤلمني أن أشعر بالغربة عنها أيضاً، أشتاقها... أشتاق أن نلعب دون قلق، أن نلعب بحق، أشتاق أن أغمرها، أن نضحك بحق.
أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أدرك أن غريزتي ليست فقط أن أحمي روحي وحدي، بل أن أحمي روحي المتشعبة، تلك التي أزهرت حين قطع الطبيب الحبل السرّي. أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أكبح خوفي كي أحمي عشّي والخيارات شحيحة. أن أكون أمّاً في الحرب يعني أن أتناسى كل نصائح التربية التي قرأتها وسمعتها لأنها تثقلني، لأنها اليوم ليست لي، ليست لنا
وفيما أنا أكتب عن روتين طفلتي المهتزّ رأساً على عقب، تحمل الكثير من الأمهات أغراضهنّ، ويهرعن من مكانٍ إلى آخر هرباً من القصف وبحثاً عن سقفٍ يحميهن وأطفالهنّ من مطرٍ قادم. وفيما أنا أكتب، يستمر استنساخ الموت والجرائم من أرضٍ إلى أخرى، ويتباهى العالم بذكائه الاصطناعي الذي ينمو في رحمه، ويتصل فيه بحبلٍ مقزز يحتوي على تفتت القيم الإنسانية. يتباهى العالم بجنينه القادر على تحريك الصور القديمة الجامدة، وعجزه عن وقف الصورة القبيحة اليوم. يتباهى بإمكانية تجميل الوجوه وتصفيف الشعر بكبسة زر. يتباهى بقدرته على الإجابة عن أي سؤال؟ أيّ سؤال فعلاً؟ أيعرف الذكاء الاصطناعي ما يدور في رأس أمّ تحمل طفلها من مكانٍ إلى آخر؟ أيعرف أنواع الموت الذي يتعرّضن له كل يوم؟ أيعرف نوع الخوف الذي يشعر به الأطفال في الحرب؟ أيعرف الذكاء الاصطناعي كيف يقطع الشّوك المتربص في جدران برجي المخيف وكيف أزرع الأزهار من جديد؟ أيعرف كيف يدخل الهواء العميق إلى رئتي من جديد؟ أيعرف كيف أخلق فرحاً مزّيفاً في داخلي أعطي منه جزءاً لطفلتي فينقص شعوري بالذنب؟ العالم كان غيره قبل أن يصبح كلّه اصطناعيّاً... قبل أن يصبح آلةً، والآلات لا تنصف! لماذا نشكو إليها أمرنا؟
قطع الطبيب الحبل السرّي، فأزهرت روحي... على الرغم من شحيح الماء في برجي، زهرها يمتد بين الأشواك على الجدران. أرويها بقبلة من طفلتي، من غمرة، من ضحكة... تضيء عيناها المكان. أجد زماني ومكاني. ذكاء العالم الجديد لن يفهم ما أقول، طالما أن هناك حبلاً سرّياً يلتفّ حول عنق جنينه الغبيّ الغبيّ، الذي لن يستطيع التوقف عن الصراخ بعد المخاض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع