شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
محمود درويش وكيليان مبابي في مدينة صور

محمود درويش وكيليان مبابي في مدينة صور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الثلاثاء 22 أكتوبر 202410:39 ص

دخلنا الأسبوع الرابع من الحرب. كثيرون نخسرهم بأشكال مختلفة وتبقى الخسارة المكتوبة بلغة الموت هي الأصعب والأقسى. خسرنا حلّاق المدينة السعيد طلال طفلاً. نعم، ارتقى سعيداً، بشعره الخفيف الأبيض كثلج جبل الشيخ، وبشرته السمراء المجبولة بعصاميّة وكفاح وتعب، وقامة متوسّطة تختصر عمراً كاملاً من محبّة الناس له ومحبّتهم له.

عانينا على مدى أربعة أيّام من الخوف من العتمة، وتجاوزنا هذا الخوف بأمل وتذكّر مستمرّ لشوارع المدينة التي تكتب خطواتنا بالضوء، ولأرصفتها العتيقة المعطّرة بحضاراتها المزركشة برحلة الحرف ومغامرات أوروبا وقدموس.

أكتب اليوم بعد أن أهدتني الحرب السابعة تمسّكاً عظيماً بتاريخي، بأصل مدينتي، بنشأتي، محدّقاً بالآثار الصامدة، متخيّلاً أنّ الرومان الذين عبروا صور يختبئون في أنفاق مجهولة خوفاً من استهداف مدينتهم خرافية الجمال، متأملاً "قصر المملوك" حيث سكن المماليك الذين نجوا من مذبحة محمّد علي باشا، وبالغيوم التي تغيّر إيقاعها كي تمنحنا نسمات لم ننل منها حصتنا من الشرود والحنين والرخاء.

النازحون يشتاقون إلى صور. بعض الرسائل الصوتيّة التي تصلني من نازحين يدعمونني تجعلني أتخيّل ماذا لو استطاعوا أن يصيروا شعراء؟ هل سيكون جرس عبارتهم الموسيقيّ كتعابيرهم العفويّة؟ ماذا لو انتهت الحرب؟ هل سنتصافح جميعاً، أم سيحاسب واحدنا الآخر؟

قرأتُ مرّة أنّ المفكر المصري الراحل فرج فوده قد أهدى إحدى كتبه لأصدقا أطفاله الذين رفضوا حضور حفل عيد ميلاد أحدهم، بسبب مواقف آبائهم وما يظنونه به. وقتها كتب فوده أنّهم سيدركون يوماً ما فعله لأجلهم. منذ بداية الحرب وأنا أسأل نفسي: هل كلّ من يتكلّم بلغة مختلفة سيرفع على الأكف أم سيرثى في مقبرة النسيان؟

النازحون يشتاقون إلى صور. بعض الرسائل الصوتيّة التي تصلني من نازحين يدعمونني تجعلني أتخيّل ماذا لو استطاعوا أن يصيروا شعراء؟ هل سيكون جرس عبارتهم الموسيقيّ كتعابيرهم العفويّة؟ ماذا لو انتهت الحرب؟ هل سنتصافح جميعاً، أم سيحاسب واحدنا الآخر؟

أسئلة سالت على رأسي كالزيت بينما كنت أجلس على الرصيف منتظراً انتهاء ساعات التقنين، وانتهاء مقطوعة طيّارة الاستطلاع الهمجيّة الإسرائيليّة. كانت الشوارع فارغة، بياضها أعادني إلى نقد نعوم تشومسكي لفكرة " يولد الإنسان صفحة بيضاء"، الصفحة التي أبحث عنها منذ 27 عاماً وما زلت أقع في وحول التجارب التي تنجب تجارب أخرى.

الاسفلت نسي الغبار. حدّة الشمس التي أهرب منها قدر الإمكان متحايلاً وهاتفي لتتبّع شبكة الإنترنت الموجودة في بيت ابن عمي الواقع على مسافة مترين تقريباً، لكّن النعاس بدأ يغلبني في الأيّام الأخيرة، يختبىء في جسدي المنهك المفتقر دوماً لمياه باردة مثلجة تعطيه الطاقة والنشاط. جسدي صار كعلبة معدنيّة لا تحرّكها سوى عاصفة "جدار صوت" أو غارة إسرائيليّة همجيّة على قرية قريبة.

أستفيق متخيّلاً المدينة، بعد هذه الخضّة وهذا الصخب، ملعباً أخضر كبيراً، الجماهير فيه متحمّسون، يجلسون على الرصيفين الأيمن والأيسر، يصفقون لكرة تعطي ملامح فلسفة لا تأتي بإجابات. أتخيّل أنّ لاعب المنتخب الفرنسي كيليان مبابي يركض وينظر إليّ مبتسماً بحرارة. يريدني أن أنظر إليه، أن أشجّعه. يخبرني بعينيه الصغيرتين أنّ دموعه لم تنس تعاطفي معه حين خسرت فرنسا فرصة الفوز بكأس العالم عام 2022. لم تكن كرة القدم سوى نموذجاً فريداً ومزيجاً غريباً من الشعر والسياسة، هذا ما حاولت إيصاله لطيف مبابي بعد غارة إسرائيليّة عنيفة على قرية لصيقة بمدينتنا، جعلتني رهينة لشرود أقرب من كتابة قصيدة "جدارية".

أتخيّل لو أنّ محمود درويش يعيش الآن ما عاشه عام 1982. لا أستطيع حصر درويش بفلسطين، عظمته أنّه كتب فلسطين وطار نحو الرمز والفلسفة والإنسان والحب والرؤية والجنس.

"يطير الحمام يحطّ الحمام" هكذا أسمعه يردّد وهو يجالسني عصراً على كرسي بلاستيكيّ بلون النسكافيه، في فمه سيجارة جيتان، وبين أنامله قلم رفيع ينتظر أن أعطيه كتاباً لا أملكه "يوميّات الحزن العادي".

في هذه الحرب تحديداً، لن يكون محمود درويش صانعاً لقصيدة "سجّل أنا عربي" الذي قيل إنّه ضجر من طلب جمهوره تكرارها. أتخيّله صامداً صامتاً، يحيي ماضيه، يحاوله إبداع جزء ثان من "الجداريّة"، يكتب غيبوبته بيقظة عالية، أو ربّما يكتب غيبوبتنا ويسألني بنبرته المعروفة: "هل نحن في البرزخ يا نبيل؟ هل هزمنا موت الفنون جميعها؟". لن أستطيع إجابته، أتخيّلني متهرّباً من هذا الفخّ اللعين من خلال جولة اصطحبه فيها إلى شارع الآثار، أو إلى الكورنيش البحري، ليرى بأمّ العين كيف يقصف "العابرون بين الكلمات العابرة" الناقورة والمنصوري والبيّاضة والقليلة وزبقين، كيف ينهشون بالبارود المفخّخ حتى أنيابه سهول قرانا وزيتونها.

ماذا لو زار محمود درويش وكيليان مبابي مدينة صور؟ هل سيتذوقان طعام أبو ديب أم سيختاران قصائد "فتايل محفوظ" التي يشبه مذاقها "الومضة"؟ هل سيختاران الكورنيش البحريّ، أم الهروب إلى مقهى مغلق مهجور،  فيه فقط أثر من كانوا يستمتعون بلحظات ما قبل الحرب؟

لن يخبرني محمود درويش في هذه الحرب عن الصمود، بل سيطلب منّي الجلوس تحت شجرة لا تموت، نفتّش عمّن يحضّر لنا كوب شاي.

سينتظر انتهاء كيليان مبابي من مبارياته، ويحاول أن يناقش معي حتّى تنتهي الحرب، كيف سأرضي نفسي وأرضي شيما وأصبح مشجعاً متطرّفاً لريال مدريد؟

شيما التي إن لم أذكرها في كتاباتي تصاب أناملي بالشلل، تغدو مآذن مهجورة من الذكر الحكيم، هي سلاحي الوحيد رغم نزوحها، رغم الحرب، رغم الركام المتكاثر، رغم المآسي، رغم خسارتي لجوليا أجمل الملائكة، رغم خوفنا على المجاهدين المتروكين لحضن السماء ورحمة الجبهة.

لست ضدّ المجاهدين، أقولها كلّما منيت إسرائيل بخسائر ثمينة. حيفا التي تحترق تشعل أملاً في داخلي، تل أبيب التي ترقص مرتبكة خائفة، تهزّ داخلي المقهور على يوسف، ملاك غزّة، وأترابه الملائكة.

أربعون ألف شهيد وأكثر  في غزّة، أكثر من ألفي شهيد حتى الآن في لبنان. لسنا أرقام، نحن نحلم ونتخيل ونبدع تحت نار الحرب، نختبىء تحت طاولة المفاوضات الخشبيّة الحامية لنكتب مدوّنات عن الحب والحرب والحياة والعبث.

أسألني للمرة الأخيرة: ماذا لو زار محمود درويش وكيليان مبابي مدينة صور؟ هل سيتذوقان طعام أبو ديب أم سيختاران قصائد فتايل محفوظ التي يشبه مذاقها "الومضة"؟ هل سيختاران الكورنيش البحريّ، أم الهروب إلى مقهى مغلق مهجور فيه فقط أثر من كانوا يستمتعون بلحظات ما قبل الحرب؟

أكتب لاسدل الستارة بعد كلّ هذا التعب، أكتب كي ترتاح اللغة من كلّ شيء، من كل شيء، لا سيّما الحركة والصمت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image