شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تفسير منامات النازحين

تفسير منامات النازحين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمهاجرون العرب

الثلاثاء 15 أكتوبر 202412:10 م

قد لا تدرك وأنت تغلق باب بيتك بمفتاحك، وتتجه إلى السوق لشراء لوحة تعلّقها على حائط منزلك الذي تحاول ترتيبه كما تحب، أن هذا الحائط قد يتحول يوماً إلى ركام، وأن المفتاح الذي تحمله قد لا يجد باباً لفتحه مرة أخرى. بينما تبني مكتبتك، وترتّب أزهارك على الشرفة، وتضع صور أطفالك في ألبوم تحفظه على رف الخزانة، ثم تذهب إلى عملك لاستكمال بناء حياتك وتربية أطفالك في منزل حميم، يحتضنهم ويخزن ذكرياتهم حتى يكبروا، قد لا يخطر ببالك أنك ستغادر هذا البيت بروح مكسورة يوماً، نازحاً بلا مأوى، بعد سنوات طويلة من التعب. لعلك لن تعود إليه إلا في منامك، وقد تخيفك حتى العودة في الحلم.

منامات عالقة بين الوطن والمنفى

يكثر الحديث بين اللاجئين في أوروبا عن منامات مرعبة تتكرّر باستمرار، وغالباً ما تتمحور حول عودتهم المفترضة إلى سوريا وما قد تجرّه هذه الزيارة من نتائج كارثية. في تلك الأحلام، يجد البعض أنفسهم إما معتقلين أو مجبرين على الانخراط في الخدمة العسكرية، أو يعانون من فقدان جواز السفر الأوروبي، دون معرفة أي وسيلة للخروج من البلاد. في تلك اللحظات المروّعة، يتساءلون بخوف: "كيف جئت إلى هنا؟ ولماذا؟". هذا الحلم تحديداً سمعته مراراً في ألمانيا، وخاصة من اللاجئين الذكور الذين فرّوا هرباً من الاعتقال أو التجنيد الإجباري.

أما أنا فتبدو مناماتي أكثر رفاهية، وتحمل دلالات نفسية مختلفة. يتكرّر لدي حلمان بين الحين والآخر، الأول أن أكون في سوريا، وتحديداً في مدينتي التي ولدت وترعرعت فيها، "سلمية". في هذا الحلم، أرى نفسي دائماً واقفةً أمام خزانة ملابسي، أستخرج منها ما تركته هناك من إكسسوارات وملابس وكتب، لكي أحضرها معي إلى ألمانيا. أما الحلم الثاني، فيدور حول ذهابي إلى الشارع الذي كان يعمل فيه الشاب الذي أحببته من طرف واحد في سنوات مراهقتي المتأخرة، حيث كنت أختلق الفرص لأرى ماذا يفعل، وكأنني عميلة في مهمة سرية لمراقبة نشاطه.

يكثر الحديث بين اللاجئين في أوروبا عن منامات مرعبة تتكرّر باستمرار، وغالباً ما تتمحور حول عودتهم المفترضة إلى سوريا وما قد تجرّه هذه الزيارة من نتائج كارثية

خزانة ذكرياتي أنا والنساء النازحات

قد يكون حلمي الأول انعكاساً لشعور عميق بالانفصال، وحلماً غير واعٍ بالعودة إلى سوريا، موطن الطفولة وذاكرتي الأولى. ربما يرمز الوقوف أمام خزانة الملابس إلى الحنين، ليس فقط إلى المكان، بل إلى الجذور نفسها، رغم أنني لا أشعر بهذا الحنين بوعي كامل في حياتي اليومية الحالية. الخزانة، بما تحمله من أشياء تركتها ورائي، قد تكون استعارة لحياتي الماضية بكل ما فيها من ذكريات، ثقافة، وعلاقات. ربما هو اشتياق لإعادة إحياء تلك الأجزاء من حياتي، والتي بقيت مرتبطة بها عاطفياً رغم كل شيء.

ربما يرمز سحب الأشياء من الخزانة، في عمقه، إلى محاولتي ربط الماضي بالحاضر، رغبةً في الاحتفاظ بشيء من هويتي السابقة قبل أن تتبدّل هنا في ألمانيا. قد تكون هذه الأشياء الصغيرة هي وسيلتي للتكيف مع حياتي الجديدة أو محاولة للموازنة بين القديم والجديد.

كان شراء الإكسسوارات والأقراط من "باب توما" طقساً حميمياً، له رومانسيته الخاصة بالنسبة لي، وكأنها لم تكن مجرد أشياء بل رموز لعلاقة أعمق مع المدينة. أما الكتب، فقد كانت لي طقساً شهرياً مقدساً؛ كلما استلمت راتبي، غمرني شعور بالفرح والدافع لزيارة جرمانا أو باب شرقي، حيث كنت أبحث بين رفوف المكتبات عن عناوين جديدة أقتنيها. عندما أفكر في شراء الكتب آنذاك وفي العشرينيات من عمري، أجد تفسيراً آخر غير مجرد شغفي بالقراءة. ربما كانت هناك رغبة غير واعية في أن أتماشى مع الصورة التي وضعني فيها من كانوا يقولون لي: "أنت من مدينة سلمية، مدينة الفكر؟".

تلك الجملة كانت تحمل في طياتها توقعات كبيرة، وكانت الكتب طريقتي للتأكيد على هذا الانتماء والمكانة الفكرية التي ارتبطت بالمدينة. أما الملابس، رغم ظهورها المتكرّر في مناماتي، فلم تكن يوماً بنفس الأهمية، لكنها ربما تمثل حاجتي لشعور أعمق بالاستقرار في حياتي الجديدة.

ربما أحتاج هذه الأشياء لأعيد بناء حياتي هنا، أو لأسترجع الماضي الذي اضطررت لمغادرته، وقد تشير هذه الخزانة المليئة إلى رغبات مكبوتة أو أحلام غير محققة، وهي إشارات تحتاج إلى استكشاف أعمق، وربما إلى تدخّل محلّل نفسي لاكتشاف ما يختبئ خلف هذا الحلم المتكرّر.

أما الحلم الثاني المتعلق بـ "الكراش"، فقد سألت الذكاء الاصطناعي عن تفسير ذلك من منظور علم النفس. لماذا أعود في مناماتي إلى ذلك الشارع أحياناً، رغم أنني لا أرغب ولا أتمنى أن أكون مع ذلك الشاب في الوقت الحالي؟ هو مجرد ذكرى جميلة، لكنني لا أستطيع تخيل مشاركته حياته واهتماماته، وهو أيضاً، لست أنا فتاة أحلامه.

أعطاني الذكاء الاصطناعي عدة احتمالات ورأيت فيها وجهة نظر معقولة جداً. قال لي: "تعكس المنامات رغبتنا في استرجاع لحظات أو مشاعر من الماضي. الشاب الذي أحببتِه يمثل جزءاً من تجربة حياتك، وعودتك إليه في الحلم قد تشير إلى رغبتك في إعادة اكتشاف تلك اللحظات أو التفكير فيها. ربما لديك شعور غير مكتمل أو لم يتم حله بشأن ذلك الشاب. عودتك إلى ذلك الشارع يمكن أن تكون وسيلة للاحتفاظ بتلك الذكريات، ربما يعكس رغبتك في فهم مشاعرك أو تسوية الأمور العاطفية التي تركتها وراءك. وقد يكون القلق بشأن المجهول أحد الأسباب، حيث يمكن أن تكون العودة إلى ذلك الشارع تعبيراً عن القلق أو التوتر بشأن المستقبل. تكرار الحلم يشير إلى أنك تبحثين عن الأمان والراحة في مكان كان مألوفاً لك في وقت مضى".

أنا الآن لا أستطيع العودة إلى وطني ومدينتي، ولا أستطيع فتح خزانتي، ولا الذهاب إلى الشارع الذي يعمل فيه "الكراش" السابق. كما لا يمكنني الذهاب إلى دمشق، المدينة التي أحببتها وعلمتني وقست عليّ، ونحتتني. ربما لولا تجربتي فيها، لما كنت قادرة على تحمّل قسوة الحياة هنا في ألمانيا، التي أراها مُتعبة عشرات المرات مقارنة بحياتي في سوريا. لكنني اخترت الرحيل عن وطني، وقرّرت مغادرة مكان الراحة، حيث كان لدي عمل براتب ممتاز ومنزل مستأجر جميل. لذلك، يجب أن أبتلع لحظات الحنين، ولا أشعر أنني أستحق الشكوى، لأنني يجب أن أتحمّل مسؤولية قراراتي وخياراتي الشخصية.

كيف تشعر تلك النساء وقد خرجن ولم يستطعن إخراج ما يرغبن فيه من بيوتهنّ؟ كيف يشعرن عندما يقصف العدو الإسرائيلي بيوتهن، وتنهار فوق كل ما فيها من ذكريات ومشاعر؟ تنهار لتدمّر كل قطعة ثياب ربما وفّرن ثمنها لأسابيع، أو قطعة أثاث ربما اشتركن في جمعيات شهرية لتأمين ثمنها؟

لكن الآن، عندما أفكر بالنازحات من لبنان أو غزة أو سوريا، كيف خرجن مرغمات تحت ضغط الظروف القاسية، تزداد رغبتي في الصراخ، ولا تتوقف الأسئلة عن الانفجار في عقلي: كيف تشعر تلك النساء وقد خرجن ولم يستطعن إخراج ما يرغبن فيه من بيوتهنّ؟ كيف يشعرن عندما يقصف العدو الإسرائيلي بيوتهن، وتنهار فوق كل ما فيها من ذكريات ومشاعر؟ تنهار لتدمّر كل قطعة ثياب ربما وفّرن ثمنها لأسابيع، أو قطعة أثاث ربما اشتركن في جمعيات شهرية لتأمين ثمنها؟

صورهنّ وصور أولادهنّ، هدايا الأحباء، والزوايا الأقرب إلى قلوبهن في بيوتهن، حيث كنّ يجلسن لشرب القهوة بعد الانتهاء من واجب ما، أو على الأريكة الأحب إلى قلوبهن، والنباتات التي زرعنها واعتنين بها وسقينها لسنوات. أفكر أيضاً في رجال أفنوا أعمارهم في توفير المال لبناء منزل، وهم الآن نازحون في مدرسة أو شارع ما، بعد سنوات طويلة من التعب والأحلام والتفكير في بناء المستقبل لهم ولأبنائهم.

الانكسار الخفي: معاناة الرجال في المنفى والنزوح

هنا في ألمانيا، لا يوجد من ينام في المدارس أو في الشوارع، ولا يجوع أحد. لقد وجدت العائلات الهاربة من سوريا بيوتاً (في أغلب الحالات)، دعماً مالياً وتأميناً صحياً. أفضل المدارس والمستشفيات في العالم، وجودة حياة لا بأس بها، وأتجرّأ على القول إن الكثيرين أتوا إلى ألمانيا اختياراً، بحثاً عن مستقبل أفضل، حيث أن هناك العديد من الناس الذين تركوا حياة لم تكن سيئة في سوريا، ولم يكونوا تحت ضغوط أمنية أو تهديدات بالقصف في ذلك الوقت. هؤلاء أتوا ووجدوا ألمانيا الرائدة اقتصادياً وعلمياً، لكنهم لم يجدوا راحة البال.

لاحظت أن العديد من الرجال السوريين في أوروبا يعانون من تراجع كبير في تقدير الذات، بعد أن فقدوا مكانتهم وحاجة عائلاتهم إليهم من الناحية المادية، وما يتعلق بمفهوم الحماية الذي كان يقدمونه كأزواج أو آباء. بسبب العوائق اللغوية والاجتماعية والاقتصادية، وأحياناً بسبب العنصرية، لم يعد الأب قادراً على توفير منزل لعائلته، وقد يقضون سنوات طويلة في "الكامبات" حتى لو كانت جيدة، لكنها ليست منزلاً حميمياً. كما أنه لم يعد قادراً على التواصل مع معلمي أطفاله في المدارس، ولم يعد المعيل الأساسي لزوجته، التي لم تعد مضطرّة لتحمل غضبه أو إهاناته، إذا كان من النوع السلطوي. ببساطة، كزوجة وأم وإنسانة، القانون يحميها ويعيلها إن دعت الحاجة.

فقد العديد من الرجال أصدقاءهم، أعمالهم، والإنجازات التي حققوها في سوريا، ولم يعودوا قادرين على تحقيق نفس الأمنيات هنا في ألمانيا. هذا الانكسار أدى بالبعض إلى الاكتئاب، والانعزال عن المجتمع، وربما أصبحوا أكثر عنفاً مع عائلاتهم، وحدثت حالات طلاق عديدة نتيجة لهذا الانكسار الذي يرفض الكثير من الرجال الاعتراف به لعلاجه أو التعامل معه.

عندما أفكر في هؤلاء الرجال، لا يسعني إلا أن أربط تجربتهم بتجربة الرجال اللبنانيين الذين نزحوا مؤخراً عن بيوتهم. هؤلاء الرجال أيضاً أجبروا على مغادرة بيوتهم، وتركوا خلفهم ذكرياتهم، ممتلكاتهم، وحتى أحلامهم، والحديث عما تعانيه النساء والأطفال وكبار السن بعد اللجوء كبير وصعب ويحتاج أن أدرج له مساحة أخرى لأكتب عنه، لا تكفيني مقالة واحدة لأتطرّق إلى كل المشاكل وأتحدث عن كل الهموم.

العديد من الرجال السوريين في أوروبا يعانون من تراجع كبير في تقدير الذات، بعد أن فقدوا مكانتهم وحاجة عائلاتهم إليهم من الناحية المادية، وما يتعلق بمفهوم الحماية الذي كان يقدمونه كأزواج أو آباء

ذكريات تحت الركام

صبية لبنانية نزحت مع عائلتها من الجنوب، لم تكن من جمهور المقاومة ولم تكن راضية عن تدخّل حزب الله في الحرب بين حماس وإسرائيل بعد السابع من أكتوبر، لأنها كانت متأكدة تماماً أن النتيجة ستكون قصفاً إسرائيلياً وحرباً على لبنان. لم ترد أن يموت شباب الجنوب مهما كان انتماؤهم السياسي، ولم ترد أن يضطر أهل الجنوب إلى النزوح. كانت تكتب دائماً على موقع فيسبوك: "لا نريد أن نترك ضيعنا وذكرياتنا وبيوتنا".

في النهاية، اضطرت إلى الخروج، وكتبت منشوراً على فيسبوك يدمي القلب. تساءلت عن منزل عائلتها ولوحاتها التي رسمتها عندما كانت في الثانوية، وعن ألبومات صور طفولتها، وعن عدّة العمل التي اقتنتها كفنانة، تلك التي وفّرت ثمنها بجهد كبير لتشتريها من أوروبا وتحضرها إلى لبنان. تساءلت من يستطيع أن ينتشل ذكرياتها من تحت الركام، ويضعها في صندوق ويحضره إليها حتى لا تفنى تلك الذكريات.

أعرف أن منزل عائلتي ومنازل مدينتي كانت قد تكون عرضة للانهيار قبل عامين، عندما ضربت الهزة الأرضية سوريا وتركيا، لكن لحسن الحظ نجت بيوتنا. لا يزال بإمكاني، ولو في منام، العودة إلى منزل عائلتي، وفتح خزانتي، والنظر إلى ما تبقى من ملابسي وكتبي ولمسها افتراضياً، لكن من انهدم بيته وشارعه ومدينته، أين يذهب؟ أي قلب يستطيع أن يحتمل كل هذا الألم والخسارة؟ الحديث عن من فقد عائلته أو أولاده يتطلب قوة لا أدعي امتلاكها، ولكن حين تنهدم بيوتنا، وهي مخازن أسرارنا وذكرياتنا، ينهدم معها طريق العودة أيضاً. إنها ليست مجرد حجارة تُهدم، بل جزء من الروح، من الهوية، من المكان الذي كان يحتضننا ويمنحنا شعوراً بالانتماء والأمان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard
Popup Image