ثمة حالة تمزج بين الاحتفاء والترقب، تصاحب دوماً الأعمال السينمائية المصرية التي تتخذ من التاريخ أو الحكايات الأسطورية موضوعاً لها، خاصةً أنها تمثل مخاطرةً إنتاجيةً وإبداعيةً يصعب التكهن بمصيرها. هذه الحالة رافقت خطوات فيلم "أهل الكهف" (كتابة أيمن بهجت قمر وإخراج عمرو عرفة)، منذ الإعلان عن بدء التحضيرات له وحتى خروجه إلى النور.
القصة السينمائية تستند إلى نص مسرحي للكاتب الشهير توفيق الحكيم، نُشر عام 1933، وهو في الأساس مُستلهَم من التراث الديني الإسلامي "سورة الكهف"، والمسيحي "النيام السبعة". بالتأكيد هذه المعلومة أضفت على الفيلم بعض الأهمية قبل عرضه، وأثارت جدلاً معتاداً حول جواز محاكاة القصص الدينية في عمل فني/أدبي. وقد سعى صنّاعه إلى تعزيز فرص الإقبال الجماهيري عليه بالحديث عن الميزانية الضخمة التي تعدنا بتصميم إنتاج وديكورات تناسب الحقب الزمنية المعنية.
لكن برغم امتلاكه مقوماتٍ مبشّرةً عدّة، فإن "أهل الكهف" في صورته النهائية، لم يأتِ على قدر التوقعات والآمال المعقودة عليه.
ما علاقة النص السينمائي بتوفيق الحكيم؟
كانت "أهل الكهف" واحدةً من أولى مسرحيات توفيق الحكيم، صاغها مستقياً ملامحها من القصة الدينية التي تُعدّ آيةً على الإعجاز الإلهي والقدرة على البعث، إذ تحكي عن مجموعة من المؤمنين المسيحيين الذين فرّوا إلى كهف هرباً من الاضطهاد الديني، وغلبهم النوم، وحين أفاقهم الله ظنّوا أنهم مكثوا في داخله أياماً معدودة، لكنهم فوجئوا بمرور قرون على سباتهم.
يمكن تلمس بعض التشابهات بين المسلسل الإيراني والفيلم المصري على مستوى الفكرة الرئيسية والبناء الدرامي، حيث تركز الحلقات الأولى من "أصحاب الكهف"، على الآلام والمآسي التي يتعرض لها المسيحيون ووقعها على رجال القصر المؤمنين سرّاً
التزم الحكيم بهيكل الأحداث الأساسية، لكن اهتمامه لم ينصبّ على المعجزة، وإنما على أثرها على هؤلاء البشر وما فعلته بحياتهم، فقد نسج حكاية ثلاث شخصيات (الوزيران: مرنوش ومشلينيا، والراعي يمليخا)، ومعهم الكلب (قطمير)، متخذاً من تجربتهم مساحةً لطرح تساؤلاته الفلسفية والاجتماعية حول علاقة الإنسان بالزمن، وما يدفعه للتشبث بالحياة، وأثر الحب على تحمّل الواقع ولامعقوليته: "مرنوش: حياة جديدة! ما نفعها؟ إن مجرد الحياة لا قيمة لها. إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلة وعن كل سبب لهي أقل من العدم، بل ليس هناك قطّ عدم. ما العدم إلا حياة مطلقة".
مثلما فعل الحكيم مع النص الديني، حاول صنّاع الفيلم الجديد وضع لمستهم الخاصة على الحكاية عن طريق إجراء تعديلات على بعض التفاصيل الواردة في المسرحية، وإضافة مجموعة من الأحداث والشخصيات الجديدة. يبدو هذا حقاً بديهياً لأي مبدع، لكن ما شاهدناه على الشاشة معالجة سطحية لا تضاهي عمق ما كُتب قبل نحو 90 عاماً.
بدايةً، تبنّى سيناريو الفيلم السردية الرائجة حول عدد أهل الكهف المقدَّر بسبع شخصيات، لكنه ركز بشكل أساسي على شخصيتين تُعادلان "مرنوش ومشلينيا" في المسرحية، هما القائدان سبيل (خالد النبوي) وبولا (محمد ممدوح)، وينتمي الأول إلى أصول عربية فيما يُعدّ الثاني رومانياً، وهذا التباين في خلفيتيهما لم يُستثمر سوى في الحديث عن عداء ظاهري بينهما، لكنه لا يشكل أي أهمية على مدار الأحداث.
حافظ السيناريو أيضاً على شخصية الراعي، إلا أنها ظهرت مفرغةً تماماً من أهميتها المذكورة في المسرحية، لأن "يمليخا" عند توفيق الحكيم كان رجلاً حكيماً أدرك حجم اتساع الهوة بينه وبين زمنه الجديد، فكان أول من عاد إلى الكهف بعدما قال: "هذا العالم ليس عالمنا... إنّا موتى، إنّا أشباح!"، فيما اقتصر دور الراعي (أحمد عيد) في الفيلم على تلطيف الأجواء الدرامية، دون امتلاك بصيرة لموازنة الأمور.
سعى السيناريو إلى تعويض هذا التغيير في شخصية الراعي من خلال خلق شخصية "خشب" (رشوان توفيق)، الذي يجمع بين صدق الإيمان وخبرة السنين، لكنه ظهر كرَجلٍ زاهد في الحياة، لا يوجد لديه أي صراع درامي أو دور مؤثر في خدمة الحكاية.
كذلك بدت غالبية الشخصيات الجديدة إما غير مكتملة البناء أو لا مغزى من تقديمها ضمن خطوط القصة، حيث نجد شخصيتَي نور ونار (محمد فراج) ضمن رجال الكهف، أحدهما مخلص في إيمانه والآخر عابث لا يحمل قناعات كبرى أو مهموم بقضية دينه المضطهد، ما يدفعنا للتساؤل: لماذا كان من بين هؤلاء الأشخاص المصطفين؟ ناهيك عن عدم وجود سبب ملموس لاختيار توأمين سوى إبراز التناقض بين طبعيهما، الذي يبدو جلياً بفضل مباشرة الأسماء، وهو الأمر المنسحب أيضاً على شخصية "إنسان" (أحمد بدير) الذي يقتصر دوره على سرد الحكاية.
الحال لا يختلف كثيراً مع شخصيات القصر التي أضافها النص السينمائي، بل إن منها من بدا محمّلاً بتفاصيل لا طائل منها، مثل الابن الشرعي للملك الذي يتحرش بشقيقته المتبناة "بريسكا" (غادة عادل). وكأنها تفصيلة مقتبسة من عمل آخر تمت الاستعانة بها لإضفاء بعض الإثارة على قصة حب باردة بين سبيل وبريسكا.
لكن يبقى الفارق الأهم بين الفيلم والمسرحية هو تباين الطرح والرؤية، حيث الحكاية عند توفيق الحكيم تنشغل بالصراع النفسي وحيرة الشخصيات بين ثنائيات الوهم والحقيقة، القلب والعقل، والحياة والموت، بينما يظهر الصراع بصورة مختزلة في خلفية أحداث الفيلم، لأن النص السينمائي مال إلى صراع مادي حول المتاجرة بالعقيدة الدينية واستغلالها لتثبيت مقاليد الحكم والسلطة، مؤسساً بمشهد افتتاحي يخبرنا بطريقة خطابية مدرسية أن "افصلوا الدين عن السياسة".
أهل الكهف أم أصحاب الكهف؟
في عام 1997، عُرض المسلسل الإيراني "أصحاب الكهف/رجال آنجلوس"، الذي أصبح واحداً من أشهر الأعمال التلفزيونية الإيرانية التي لقيت رواجاً في العالم العربي. تتبّع العمل حكاية ستة من نبلاء الإمبراطورية الرومانية وراعٍ بصحبته كلبه، جمعهم الكهف والعودة من جديد إلى الحياة. وقُسِّمت أحداث حلقاته إلى مرحلتي ما قبل المعجزة وما بعدها، في محاولة لرصد التحولات التي مرت على نشر الديانة المسيحية بشكل عام، وواقع شخصياته خصوصاً.
يمكن تلمس بعض التشابهات بين المسلسل الإيراني والفيلم المصري على مستوى الفكرة الرئيسية والبناء الدرامي، حيث تركز الحلقات الأولى من مسلسل "أصحاب الكهف"، على الآلام والمآسي التي يتعرض لها المسيحيون ووقعها على رجال القصر المؤمنين سرّاً والمحاطين بأجواء حافلة بالمؤامرات والدسائس. يسير النصف الأول من فيلم "أهل الكهف" على الخطى نفسها في تركيزه على المكائد التي تُحاك وعمليات التلصص التي بدت في إخراجها أقرب إلى كونها مسرحيةً أكثر منها سينمائيةً، بل إن شخصية الوزير "عرموش" (صبري فواز) تعادلها في العمل الإيراني شخصية "جوليوس"، مع اختلاف طفيف بين دوافع الشخصيتين في التخلص من أعدائهما.
لم يخصص الفيلم المصري مشاهد كثيرةً حول الاضطهاد الديني مثلما فعل المسلسل الإيراني. اتّجه عوضاً عن ذلك نحو تقديم مشاهد معارك تمنح العمل بعض الإثارة والجاذبية التجارية، معتمداً على التغيير الذي أجراه على خلفية بطليه الأساسيين، فهما هنا محاربان بارعان، وليسا وزيرَين كما ذكرت مسرحية الحكيم، أو مستشارَين كما جاء في النسخة الإيرانية.
على سبيل المثال، نرى على الشاشة محاولةً جيدةً لتقديم حلبة المصارعة الرومانية بكل ما تحمله من عنف ومتعة، ورغبةً في صناعة صورة مطابقة لما اعتاد المشاهد على رؤيته في أعمال أجنبية تتناول الفترة الزمنية نفسها، إلى درجة استخدام تقنية "الومضة الاستباقية" (flash forward) قبل بدء القتال، كأنها إعلان ترويجي قصير لما نحن على موعد لمشاهدته. بالطبع، هذا الخيار ليست فيه مشكلة في ذاته، لكن الأزمة تكمن في ما أفرده من مساحة زمنية لهذه المعارك، بشكل جاء على حساب الدراما وتطور الشخصيات.
أراد صنّاع "أهل الكهف" تقديم ملحمة تاريخية تجمع بين الحكاية الشيقة ذات البعد الأسطوري، والمعارك الدامية، والرسالة المتماسّة مع واقعنا الحالي، إلا أن المحصلة كانت عملاً باهتاً توافرت له الفرصة ليحرّك المياه الراكدة
حينما عاد أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة في النسخة الإيرانية، كان حال البلاد قد تبدل وباتت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية، لكن الناس كانوا منشغلين بقضايا مهمة مثل حقيقة الجنة والنار، ومدى إمكانية عودة الروح بعد موتها وتحللها، ومن ثم كان ظهور هؤلاء المؤمنين معجزةً أدت إلى منحهم لقب القديسين. تهافت الجميع على رؤيتهم، وبدأ قادة الحكم والكنيسة بالتخطيط لكيفية استثمار الأمر لتقوية نفوذهم وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. يقف القديسون مذهولين أمام محاولات استغلالهم، ويقررون في النهاية العودة إلى الكهف ثانيةً.
لا يولي سيناريو الفيلم المصري اهتماماً للأفكار المثارة حول قضية البعث، ولا ينشغل بإبراز أثر عودة هؤلاء القديسين في تغيير معتقدات عامة الناس، فهذا النص قرر تخصيص كل جهوده لخدمة قضية واحدة طوال النصف الثاني من الأحداث، هي استغلال أرباب السلطة للمعجزة الإلهية، لكن بنبرة إرشادية لا تختلف في شيء عن وعظية المسلسل الإيراني، إذ يرسم فيلم "أهل الكهف" صورةً شيطانيةً لإمبراطور والأسقف، مستعدَّين للإقدام على أي فعل من أجل تحقيق أطماعهما وفرض سيطرتهما على البلاد، وإن كانت طريقة الأول تمزج بين الجد والهزل. فضلاً عن أن حوار الشخصيات تمحور بغالبيته حول أزمة المتاجرة بالقديسين وأحلام البسطاء، بشكل جعل الجمل مكررةً هزيلةً لا وقع لها على الآذان.
يحاول هنا الفيلم تحقيق مقاربة مباشرة لما تفعله الجماعات الدينية ذات الأطماع السياسية، وتحديداً فترة حكم الإخوان المسلمين، لكن المحاولة جاءت بشكل نمطي ومباشر بحيث لا تترك أثراً في النفوس أو تحرّك العقول. المفارقة الغريبة أن المقطع الذي راج على وسائل التواصل الاجتماعي على لسان إحدى الشخصيات وهي تشير إلى ضرورة إلهاء الشعب عن الأزمات، بدا أكثر ارتباطاً بحالنا الآن من الحديث عن فترة حكم مضت.
أراد صنّاع "أهل الكهف" تقديم ملحمة تاريخية تجمع بين الحكاية الشيقة ذات البعد الأسطوري، والمعارك الدامية، والرسالة المتماسّة مع واقعنا الحالي، إلا أن المحصلة كانت عملاً باهتاً توافرت له الفرصة ليحرّك المياه الراكدة ويفتح الباب أمام المزيد من الإنتاجات المماثلة، لكن معالجته الضعيفة وإيراداته المتواضعة في شباك التذاكر لا تُنبئ بنجاح في المدى القريب أو حتى في المدى البعيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع