شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"ضائعون ولا نعلم ماذا ينتظرنا"... سوريون عائدون إلى "الوطن" من جحيم الحرب على لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الاثنين 21 أكتوبر 202401:48 م

مع تواصل العدوان الإسرائيلي على لبنان لنحو الشهر، وتوسّع رقعة غاراته الجويّة على مناطق واسعة في الجنوب والعاصمة بيروت، ارتفع عدد النازحين/ات لأكثر من مليون وأربعمئة ألف هرباً من القصف والموت. سوريا كانت وجهة أكثر من 400 ألف منهم، ثلثاهم من السوريين/ات. علماً أن الغارات الإسرائيلية المستمرة قتلت، حتى 20 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، ما لا يقل عن 2464 شخصاً وأصابت 11530 آخرين، العشرات منهم من السوريين/ات.

خيار "العودة" من لبنان إلى سوريا، البلد الذي خرج منه هؤلاء السوريون قبل سنوات أيضاً هرباً من القصف والموت والاعتقال وغيرها من المخاطر الأمنية، لم يكن سهلاً لمعظمهم، لكن "الأبواب أغلقت في وجوههم" كما يقولون لرصيف22، ولم يعد لديهم حل سوى إلقاء أنفسهم للمجهول مرة أخرى حيث عبّر عدداً منهم عن أنهم "ضائعون ولا نعلم ماذا ينتظرنا".

"لم يبقَ لنا خيار آخر"

في منزل صغير في إحدى ضواحي دمشق الشرقية، التقى رصيف22 السيدة بتول، التي فضّلت رواية قصتها باستخدام اسم مستعار لاعتبارات السلامة الشخصية. خرجت بتول (45 عاماً) مع ولديها من سوريا عام 2014، بعد وفاة زوجها إثر القصف على منزلهم في غوطة دمشق الشرقية. عاشت العائلة في إحدى قرى البقاع، معتمدة على بعض المساعدات والأعمال البسيطة التي حاولت القيام بها في المنزل الذي استأجرته قرب بعض أفراد العائلة النازحين هناك أيضاً من سوريا.

"كان لديّ حينها الكثير من المخاوف. ماذا ينتظرني في سوريا؟ كيف سنعيش ونؤمن احتياجاتنا الأساسية؟ هل سيتأقلم أولادي مع الحياة هناك؟ والأهم هل يمكن أن يحصل لنا أي حدث أمني خاصة عند عبور الحدود؟"... حكايا سوريين عائدين إلى "الوطن" من جحيم العدوان الإسرائيلي المتصاعد على لبنان

"كانت عشر سنوات صعبة للغاية. لم نكن سعيدين على الإطلاق، وواجهنا الكثير من التحديات والتمييز في المعاملة، لكن لم يكن لدينا مكان آخر نلجأ إليه، فمنزلنا في سوريا مدمر بالكامل، ولا معيل لدي سواء هناك أو هنا. اعتقدت أن الحياة في لبنان على الأقل ستكون أكثر أمناً، خاصة أن ولديّ أصيبا بتبعات نفسية خطيرة نتيجة أصوات القصف والطيران التي عايشناها في سوريا على مدار عامين"، تقول بتول.

مع بداية التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان، لم تعتقد بتول بأنها ستفكر بالمغادرة. "كلهم يومين وبيمضوا"، كانت تحدّث نفسها. لكن اقتراب الغارات من منطقة سكنها جعلها تأخذ القرار بسرعة. "ما كان عندي استعداد نرجع نعيش نفس التجربة اللي عشناها بسوريا. شفت أولادي (ابنة عمرها 15 عاماً وولد عمره 17 عاماً) كيف صاروا يرتعبوا من صوت الطيران والضرب".

ومن العوامل التي دفعت بتول أيضاً لاتخاذ القرار، الصعوبات الهائلة التي بات السوريون يواجهونها في لبنان مع إغلاق الكثير من الأبواب في وجوههم، فعدد كبير من مراكز الإيواء التي افتتحت في لبنان ترفض استقبالهم، وهناك أصحاب بيوت باتوا يفضّلون إخراج السوريين وتأجير عائلات لبنانية عوضاً عنهم على اعتبار أنها قادرة على دفع مبالغ أعلى كبدلات إيجار. 

حزمت بتول أغراض العائلة القليلة، سلّمت المنزل المستأجر في البقاع لأصحابه، وقرّرت التوجه نحو منزل أقربائها في غوطة دمشق الشرقية، بعد أن شجعوها على العودة.

"كانت لديّ حينها الكثير من المخاوف. ماذا ينتظرني في سوريا؟ كيف سنعيش ونؤمن احتياجاتنا الأساسية؟ هل سيتأقلم أولادي مع الحياة هناك؟ والأهم هل يمكن أن يحصل لنا أي حدث أمني خاصة عند عبور الحدود؟" تضيف بتول، مردفةً بأن عاملاً حاسماً بالنسبة إليها في اتخاذ قرار العودة كان متعلقاً بكون ابنها وحيداً وبالتالي معفىً من الخدمة العسكرية. "لولا ذلك لكان من المستحيل أن أفكر في العودة إلى هذه البقعة الجغرافية، وأعرف عائلات سورية كثيرة في المنطقة التي كنت أسكن فيها، امتنعت عن الرجوع إلى سوريا بسبب التخوّف من موضوع الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، أو عاد نساؤها وأطفالها دون الذكور، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور"، تتابع.  

وقد سجّلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدة حالات اعتقال لسوريين عائدين من لبنان، على نقاط تفتيش مختلفة تابعة للقوات الحكومية خلال الأسابيع الفائتة. أما بالنسبة لمن هم في سن الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، ووفق شهادات حصل عليها رصيف22، يتم إخطارهم رسمياً بـ"تكليفهم بالخدمة" عند عبورهم النقاط الحدودية الرسمية، وإعطاؤهم مهلاً لا تتجاوز الأسبوعين للالتحاق بقطعهم العسكرية.

رافق الخوف بتول وأولادها حتّى وصولهم إلى وجهتهم في ريف دمشق، بما في ذلك الخوف من أصوات القصف والطيران التي لاحقتهم في الجزء الأول من رحلتهم، أو الخوف من عبور نقطة الحدود والتفتيش الأمني. "لحسن الحظ سارت الأمور على ما يرام، ووصلنا وجهتنا بخير وسلامة".

دفعت السيدة 250 دولاراً أجرة للسيارة التي نقلتها مع أولادها وحاجياتهم الأساسية، وقد جاؤوا قبل نحو أسبوعين عبر معبر العريضة في محافظة حمص. وتربط لبنان وسوريا ستة معابر حدودية نظامية، أكبرها وأهمها هو معبر جديدة يابوس/ المصنع، وقد تعرّض للقصف الإسرائيلي من الجهة اللبنانية نهاية الشهر الفائت، فبات العبور منه صعباً للغاية ومحفوفاً بالمخاطر بعد دمار جزء من الطريق الإسفلتي بين البلدين، ودفع ذلك كثيراً من النازحين لاختيار معابر أخرى من جهة محافظتي حمص وطرطوس رغم أنها تستغرق وقتاً أطول وتتطلب تكلفة أعلى خاصة بالنسبة للقادمين إلى دمشق وجنوب البلاد.

من هم في سن الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، ووفق شهادات حصل عليها رصيف22، يتم إخطارهم رسمياً بـ"تكليفهم بالخدمة" عند عبورهم النقاط الحدودية الرسمية، وإعطاؤهم مهلاً لا تتجاوز الأسبوعين للالتحاق بقطعهم العسكرية

رحلة حنان، وهي التي نزحت من ريف حماه مع زوجها وأولادها إلى لبنان قبل نحو تسع سنوات واختارت عائلتها الإقامة في ضاحية بيروت الجنوبية، لم تكن سهلة. تقول السيدة الخمسينية لرصيف22: "بعد أيام قليلة من بداية القصف على الضاحية اتخذنا قرار الخروج منها والنجاة بأنفسنا، ولم نأخذ معنا سوى حاجيات بسيطة جداً في حقيبة صغيرة. قرّر زوجي وابني البقاء في لبنان سبب خوفهما من حوادث اعتقال العائدين في سوريا، وعدت أنا مع ابنتي إلى منزل أهلي في دمشق. كانت رحلة صعبة للغاية ونحن نهرب من أصوات القصف والطيران، ونترك جزءاً من عائلتنا وراءنا، ونذهب نحو المجهول تماماً".

إلى أين يذهب "العائدون"؟

منذ بداية النزوح من لبنان إلى سوريا، افتتحت عدة مراكز إيواء في محافظات مختلفة ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية لاستقبال الوافدين. عموماً، معظم من اختاروا الإقامة في هذه المراكز هم من اللبنانيين، الذين بدورهم توجه قسم كبير منهم للإقامة في منازل أقرباء ومعارف، أو في منازل وفّرها المجتمع المحلي لهم، وبعضهم تابع رحلته نحو العراق، وتشير وزارة الداخلية العراقية إلى استقبال أكثر من 5000 شخص من لبنان عبر المطارات ومنفذ القائم الحدودي بين سوريا والعراق.

أما السوريون، فوجهة معظمهم كانت منازلهم في حال كانت ما تزال صالحة للسكن ويمكن الوصول إليها دون مخاطر أمنية، أو منازل أقربائهم ومعارفهم في مختلف المحافظات. ومن بين نحو 300 ألف سوري وصلوا من لبنان اتجه نحو 20 ألفاً نحو مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية شمال شرقي البلاد، ونحو ألفي شخص اختاروا العبور نحو مناطق سيطرة المعارضة في الشمال، رغم أن الأمر محفوف بمخاطر كبيرة، سواء بسبب طريق العبور، أو نتيجة التصعيد العسكري من القوات الحكومية السورية وعناصر حليفه الروسي في الأيام الأخيرة، والذي خلّف عشرات القتلى والجرحى.

وتحدّثت تقارير إعلامية عديدة خلال الأسابيع الفائتة عن رحلة طويلة ومكلفة جداً يتكبدها السوريون الراغبون بالعبور من لبنان نحو مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا، نتيجة تعرضهم للابتزاز من المهربين ومكاتب السفر التي تنظم هذه الرحلات والحواجز الأمنية العائدة لمختلف القوى المسيطرة على طريق الرحلة. ورد أن تكلفة هذه الرحلة للشخص الواحد بلغت نحو 350 دولاراً، بل وصل المبلغ أحياناً إلى 600 دولار.

"قرّر زوجي وابني البقاء في لبنان بسبب خوفهما من حوادث اعتقال العائدين في سوريا، وعدت مع ابنتي إلى منزل أهلي في دمشق. كانت رحلة صعبة للغاية ونحن نهرب من أصوات القصف والطيران، ونترك جزءاً من عائلتنا وراءنا، ونذهب نحو المجهول تماماً"

مستقبل غامض

وصلت السيدة بتول إلى سوريا، وما تزال تشعر بضياع كبير حتى الآن، وفق ما تقول. "بالتأكيد كنت على اطلاع شبه يومي على الأوضاع في البلاد، من خلال تواصلي مع أهلي وأصدقائي، لكن 'الشوف مو متل السمع'. حتى الآن لم أستوعب حجم التضخّم الذي حصل في السنوات العشر الأخيرة، وأعجز عن معرفة كيفية شراء أي من أغراضي وحاجياتي من السوق"، تضيف بابتسامة. خلال السنوات العشر الأولى من الحرب في سوريا، بلغ معدل التضخم أكثر من 3850% وارتفعت الأسعار 40 ضعفاً، والوضع مستمر بالتدهور عاماً بعد آخر.

رحلة طويلة ومكلفة جداً يتكبدها السوريون الراغبون بالعبور من لبنان نحو مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا، تكلفتها للشخص الواحد تراوح بين 350 دولاراً و 600 دولار.

تقلق السيدة أيضاً مما يُخبّئه المستقبل لابنيها. "تفكر ابنتي في متابعة دراستها، رغم أنها لم تلتزم مؤخراً بالدراسة في لبنان بسبب صعوبة وصول السوريين هناك إلى خدمات تعليمية مستقرة. أما ابني فسوف يسعى للعثور على عمل رغم أنه لا يتقن مهنة معينة، لكنه الآن مُعيلنا الوحيد بعدما استقر بنا الحال هنا، ونشعر بقلق شديد إزاء ذلك. فالجميع يتحدث عن صعوبة الحياة في سوريا، ومعدلات البطالة المرتفعة، وكيف أن الشباب بالكاد يحصلون على فرص عمل لائق، حتّى أن البعض يقول لنا بتهكم 'أنتو راجعين والعالم كلها عم تسافر'. بكل الأحوال، ومهما كانت الصعوبات، لا أفكر في العودة إلى لبنان، فما عشناه هناك كان صعباً للغاية. 'حاجتنا بهدلة'".

أما السيدة حنان، فلا تسعى للاستقرار بشكل نهائي في سوريا، فهي تقيم اليوم مع والدها ووالدتها في أحد أحياء دمشق، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور وأن تتمكن من العودة لتتابع حياتها مع كل عائلتها. "لا يمكنني أن أنفصل لوقت طويل عن زوجي، وهو يخشى من العودة، وأنا لا أريده أن يتعرض هو أو ابني لأي مخاطر أمنية أو إزعاجات".

تشير بتول في ختام حديثها إلى أنها، رغم كل ما ينتابها من مخاوف بشأن المستقبل، تشعر ببعض الارتياح لعودتها. "الناس هنا طيبة جداً وترغب بمساعدة بعضها بعضاً. ما إن يسمع أحدهم بأنني هاربة من الحرب في لبنان حتى يتبرع بتقديم أي نوع من المساعدة. في نهاية المطاف 'الواحد ما إله إلا بلده'".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image