الهروب هو موضوع مركزي في العديد من الروايات التي تتناول قصص المهاجرين واللاجئين، لكنه في رواية "حكاية آدم بيرغمان أو كيف أصبح الرجل ريحاً"، للكاتب السوري دلير يوسف، والصادرة عن دار "خان الجنوب"، يأخذ طابعاً فلسفياً أعمق. الرواية ليست مجرّد حكاية عن رحلة مادية عبر البحار والهروب من الظلم السياسي والاجتماعي، بل هي رحلة بحث عن الهوية والحرية في عالم لم يعد يتسع لتلك القيم. من خلال شخصيات معقدة مثل شاكر، جيهان، جوان وغيرهم، تكشف الرواية عن أزمات المهاجرين وتناقضات نفوسهم في مواجهة واقع جديد.
شاكر وجيهان
شاكر هو المحور الذي تدور حوله الأحداث. يعكس شاكر مأساة الإنسان المغترب عن وطنه وعن ذاته، فهو كردي مكتوم القيد، يعيش في سوريا التي لا تعترف بهويته. هذا الاغتراب ليس فقط قانونياً أو اجتماعياً، بل هو اغتراب نفسي عميق. شاكر، الذي عاش طوال حياته محروماً من حقوقه الأساسية، يجد نفسه منبوذاً حتى في وطنه الأم. رغم زواجه وحياته مع جيهان، إلا أن شاكر يعيش حياة منعزلة، يملؤها الحزن واليأس، فلا مستقبل واضح أمامه، ولا طريق للهروب من العدم الذي يحيط به.
الهجرة بالنسبة لشاكر ليست قراراً اتخذ بدافع الأمل فقط، بل هي محاولة أخيرة للهروب من واقع قاسٍ يتجاوز قدرته على التحمّل. إنها تمثل آخر خيط يتعلق به، لكن مع تقدمه في الرحلة، تتضح له حقائق أكثر قسوة. أوروبا، التي طالما رآها كملاذ للهروب، تتحوّل إلى مكان يعكس مشاعر الفقد والضياع. هذه التجربة تجسّد سؤالاً مركزياً في الرواية: "هل يمكن للإنسان الهروب من نفسه، أم أن الهجرة هي مجرد محاولة للهرب من مصير محتوم؟".
جيهان، شخصية محورية في حياة شاكر، تقدم مثالاً عن التضحية والحب في سياق معقّد. هي ليست مجرّد زوجة تنتظر عودة زوجها، بل تمثل الوجه الآخر للصراع الذي يعاني منه المهاجرون. جيهان تعيش في انتظار دائم، وهي التي دعمت قرار شاكر بالهجرة رغم أنها كانت تدرك ما يترتب عليه من ألم وانفصال، لكنها لم تكن تملك خياراً أفضل. بيعها للمنزل لدعم رحلة شاكر يعكس الانهيار الرمزي للقيم التقليدية المتعلقة بالأسرة والمنزل في مواجهة الضرورات الاقتصادية والسياسية.
رواية "حكاية آدم بيرغمان أو كيف أصبح الرجل ريحاً"، للكاتب السوري دلير يوسف، ليست مجرّد حكاية عن رحلة مادية عبر البحار والهروب من الظلم السياسي والاجتماعي، بل هي رحلة بحث عن الهوية والحرية في عالم لم يعد يتسع لتلك القيم
تمثل جيهان القوة الداخلية التي تميز المرأة في مثل هذه الظروف. فهي تواجه ألم الفراق ووحشة الحياة بمفردها، وفي الوقت نفسه، تتحمّل مسؤولية طفلها القادم. هنا تتضح معاناتها بين حبها لزوجها وشعورها بالمسؤولية تجاه نفسها وطفلها. هذا الصراع يبرز قوة شخصيتها التي تتجلى في صمودها أمام ألم الفراق وقسوة الظروف. هي مركز أساسي يضيء جوانب إنسانية مهمة في الرواية، وهي تظل، برغم كل شيء، تمثل رمزاً للصمود والتضحية.
جوان: الهروب من الذات والمجتمع
جوان، الشخصية المثلية في الرواية، يمثل جانباً مختلفاً من صراع الهجرة، فهو لا يهرب من القمع السياسي الذي يعاني منه ككردي فقط، بل يهرب أيضاً من القيود الاجتماعية المتعلقة بهويته الجنسية. جوان يعيش حالة مستمرة من الاضطراب النفسي، حيث يجد نفسه محاصراً بين رغبته في الحرية والخوف من العواقب التي قد يواجهها في مجتمعه التقليدي.
الهجرة بالنسبة لجوان تمثل الفرصة الوحيدة للتحرّر من تلك القيود الاجتماعية، لكن مثل شاكر، يجد أن الهروب قد لا يمنحه الحرية التي كان يسعى إليها. أوروبا التي كان يراها كمكان للتحرّر والتحقيق الذاتي تتحول إلى فضاء يعكس تعقيدات جديدة، ويجسّد شخصية تعيش على الهامش، تبحث عن هويتها في عالم لا يعترف بها، وهو بذلك يعكس معاناة العديد من الأفراد الذين يجدون أنفسهم في صراع دائم مع مجتمعاتهم التقليدية ومع أنفسهم.
البحر: الحلم والموت المعلقان، الريح: الفناء والتحرّر
البحر في الرواية ليس مجرّد مكان لعبور الجغرافيا بين سوريا وأوروبا، بل هو رمز متعدّد الطبقات. البحر هو الفاصل بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل. الشخصيات التي تخوض الرحلة عبره تشعر كما لو كانت تسير على حافة الهاوية. البحر يمثل الحلم الأوروبي الذي يسعى إليه المهاجرون، ولكنه في الوقت ذاته يمثل الخطر المحتمل والموت الذي قد يبتلعهم في أي لحظة.
تستغلّ الرواية البحر كرمز للغموض واللايقين. الهجرة عبر البحر ليست مجرد مغامرة جغرافية، بل هي رحلة نحو المجهول. شاكر وجوان وآخرون يخوضون هذه الرحلة وكلهم أمل أن يصلوا إلى "أرض الأمان"، لكن البحر قد يتحول إلى مقبرة للأحلام. هنا، يكشف البحر عن كونه الحد الفاصل بين الحياة الجديدة والموت، وبين الحلم المتخيل والواقع القاسي.
"الرجل الذي صار ريحاً" ليس عنواناً عادياً، بل يحمل دلالات رمزية عميقة تعبر عن حالة الفناء والوجود في آن واحد. الريح، التي يتحول إليها شاكر في النهاية، تمثل التحول النهائي من كائن مادي إلى كيان غير ملموس. هي تمثل الفناء الذي ينشده الإنسان للهروب من قيوده الجسدية والنفسية، لكنها في الوقت نفسه ترمز إلى التحرر من كل تلك القيود.
في لحظة من اللحظات، يتحول شاكر من رجل إلى ريح، وبهذا يتجاوز حدود المكان والزمان والجسد. الريح في الرواية ليست مجرّد رمز للحرية، بل هي أيضاً تعبير عن الفناء والضياع. شاكر، في محاولته للبحث عن الحرية، يجد نفسه يضيع تماماً في تلك الرحلة، لتتحقق نبوءته بأن يصبح "ريحاً". إنها حالة من التلاشي التي تعبر عن الاغتراب النهائي الذي يعاني منه الإنسان في عالم لا يمنحه الانتماء أو الأمان.
البحر في الرواية ليس مجرّد مكان لعبور الجغرافيا بين سوريا وأوروبا، بل هو رمز متعدّد الطبقات. البحر هو الفاصل بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل. البحر يمثل الحلم الأوروبي الذي يسعى إليه المهاجرون، ولكنه في الوقت ذاته يمثل الخطر المحتمل والموت الذي قد يبتلعهم في أي لحظة
الإنسان في رحلة الأبدية
تطرح الرواية نقداً سياسياً حاداً لنظام الأسد في سوريا الذي يمارس القمع والتمييز العرقي ضد الأكراد وغيرهم من الأقليات. شخصية شاكر تمثل الآلاف من الشباب الذين يعيشون بلا هوية أو حقوق في وطنهم. لكن الرواية لا تقتصر على نقد النظام السوري، بل تتجاوز ذلك لتقديم رؤية أوسع عن النظام العالمي.
الهجرة هنا ليست طريقاً للحرية كما قد يتخيلها البعض. الرواية تقدم أوروبا كمساحة مليئة بالتناقضات، حيث يجد المهاجرون أنفسهم في حالة من "البرزخ" بين الماضي والحاضر، بين الوطن الجديد والقديم. أوروبا التي كانت تمثل حلماً بالحرية تتحول إلى مكان آخر للضياع، حيث يعاني المهاجرون من استغلال أو انعدام القدرة على الانتماء.
تتناول الرواية أيضاً قضايا فلسفية تتعلق بالوجود والهوية. البحر والريح كلاهما يمثلان عناصر فلسفية تتعلق بالحرية والموت. الرواية تطرح تساؤلات وجودية حول ما إذا كان الإنسان يستطيع تحقيق حريته حقاً من خلال الهجرة، أم أن الهروب هو مجرد محاولة للهروب من النفس والواقع.
"حكاية آدم بيرغمان أو كيف أصبح الرجل ريحاً" هي رواية تذهب إلى أعماق الوجود الإنساني، حيث تتداخل فيها السياسة، الفلسفة، والنقد الاجتماعي لتقديم رؤية متعددة الأبعاد عن معاناة الإنسان في ظل النظام السياسي العالمي. الرحلة التي يخوضها شاكر وجوان وآخرون ليست مجرد رحلة للهروب من القمع، بل هي رحلة لاكتشاف الذات والمواجهة مع الواقع الجديد.
الرواية تدعو القارئ للتفكير في مصائر المهاجرين، لكنها في الوقت نفسه تسلط الضوء على أزمة الهوية والانتماء. الإنسان في هذا النص هو كائن تائه بين الرياح، يبحث عن ملاذٍ في عالم يبدو أنه لم يعد يتسع له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه