عتمة شاملة التهمت مدينة صور بعد أسبوعين من اجتياح اسرائيل السابع للبنان. أن تكون في حضن الضوء، نظرك في مرمى النشرات الإخباريّة، مسمعك في مرمى الأخبار العاجلة التي يتلوها المذيعون في المحطات المختلفة، وفجأة ينطفئ كلّ شيء، وتشعر أنّك في أحشاء الحرّ والعتمة. هذا هو الرعب.
المدينة تحوّلت إلى مدينة أشباح، الشوارع فارغة، العتمة تقهقه باسم النسمات، مدّ البحر وجزره يأكل من أجزائنا، النخيل المزروع على الكورنيش البحري يخشى إعلان موت أوراقه وثماره دون أن يكون هناك من يصلّي عليه من المدنيّين.
في بطن العتمة اكتشفت أنّنا نحن المقيمين الصامدين في المدينة، كنّا على الأرجح مشاريع أنبياء. 12 عشر ساعة في بطن الظلام. أهو تناص زمنّي ديني مع قصّة النبي يونس؟ أو التاريخ، كما قال العمّ كارل ماركس، يعيد نفسه على شكل مأساة ومهزلة؟
في هذه الحرب تعلّمنا من عدوّنا الهمجي المجرم مصطلح " الحدث الصعب". العتمة في مدينة صور كانت حدثاً صعباً، انطفأت فيه أرواحنا المطمئنة. خسرنا ساعات من القراءة والعمل، وساعات من النقاش. أنا ووالديّ كنّا نتحايل على الوقت، صاحب المولّد قرّر إغلاق خطّه الهاتفيّ كي لا يسمع احتجاجاتنا. تركنا رهن فيلم رعب لم نكن مستعدين له. هدوء حذر، يخرقه دبيب قذائف من هنا وهناك.
12 عشر ساعة في بطن الظلام. أهو تناص زمنّي ديني مع قصّة النبي يونس؟ أو التاريخ، كما قال العمّ كارل ماركس، يعيد نفسه على شكل مأساة ومهزلة؟
استفدتُ من صفتي كصحفي ووصلت إلى مصدر في مؤسّسة كهرباء لبنان، اعتمدت على الهوت سبوت كي أتلقّى بضعة "ميغابايتس" من هاتف أبي لأتصل عبر واتساب بمصدر مسؤول، وكانت الصاعقة: "خروج صور وخطوط الخدمات التي تمدّ المؤسسات، لكنّه طمأنني أن الحلّ سيأتي عبر ضغط المعنيين...". غفونا في غرفنا الملتهبة. كنت منفصلاً، نسيتُ أنّنا تحت اجتياح، كنت في زقاق موطن اسمه الغياب.
المدينة حين تفقد ضوءها تفقد ذاكرتها، لا أعرف لماذا، منذ الصغر كلّما سمعت كلمة نسيان أتذكر العتمة، وفي هذا اليوم الموحش كنا نغرق في النسيان، نسيان بطعم ليل أرغمنا عليه.
حين عادت الكهرباء لم يحتفل كثيرون في اليوم التالي. أخبرني "صافي" صاحب المقهى: "إجت الكهربا يا أستاذ!". قالها بلغة شاحبة، لم يعد ما يسعدها، حتّى الأمان بات رفاهية غير مضمونة.
احتفاء بالكهرباء ومجيئها أهدتني اللحظة قراراً مشتركاً بيني وبين حبيبتي شيما لنعلن ارتباطنا. أعلان "الحبّ تحت النار" لم يكن سهلاً. كانت الشجاعة تتطلّب منا أن نكسر الجغرافيا الصامتة الهادئة التي تفصل بيني وبينها، أنا مقيم صامد في صور، جنوب لبنان، وهي نازحة مرغمة في البترون، شمال لبنان. حين بدأنا تلقّي المباركات من رسائل وتعليقات من أصدقاء وصحفيين وشعراء وأقارب، كنت أردّ على ناس مميّزين في حياتنا بعبارات شكر، أختمها بتوقيع افتراضيّ "شيما ونبيل".
العتمة والقصف أحبّا بعضهما البعض وأنجبا هدوءاً مرعباً في مدينة كانت الألمع على الخارطة السياحيّة. إذا ما نظرنا الآن إلى الآثار والملعب الروماني الفارغين الآن، سنعتقد أنّنا نعود إلى مرحلة الفناء، مرحلة ما قبل قابيل وهابيل.
أفكّر الآن وأنا أكتب هذه المدوّنة، هل حقّاً الحروب تأتي لتذكّر آدم بندمه على ملامسة تلك الشجرة اللعينة؟ أم نحن نخترع الحروب لأنّنا ضجرنا من الهدوء والسكينة؟
في مسلسل "غداً نلتقي"، يلعب المخرج والممثل السوري رامي حنّا شخصيّة الأرستقراطيّ الذي أكله البطر، يبحث عمّن يقتله كي ينجو من الكمال ويفرّ نحو البرزخ، يرث القاتل كلّ الكمال ويهنأ بجريمته الكاملة.
يجلس أبي، الصيدلاني الذي دخل عامه السبعين، قرب صيدليّته على كرسيّ بلاستيكيّ بلون الكراميل، يشرب من غليونه، ينصت إلى فيروز، يزهد في تلك النسمات التي تعيده إلى 6 حروب صمد خلالها في مدينة صور ليخدم الناس ويطبّبهم. أبي يتذكّر كيف اغتيل معروف سعد واستدعي احتياطيّاً إلى الجيش، وكيف اغتالوا كمال جنبلاط بينما كان يجري امتحاناته الجامعيّة، ولا ينسى أبداً كيف دعس رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي شارون على القانون الدولي وغزا لبنان، من جنوب الليطاني إلى العاصمة بيروت.
أشعر أنّنا وقطاع غزّة كيانان منفصلان عن العالم، وأن عام 2024 هو ثلاثة أعوام مدمجة في عام واحد، الغريب أنّنا بدأنا اعتياد الآخر على اعتياد المشهد، نكتب فقط كي لا نكون ضمائر مستترة في جملة لا معنى لها، نكتب لأنّنا نكره السكون ونتجنّب الصخب، لا بل نرفضه.
تحضرني الآن جداريّة محمود درويش، هل نحن بالجغرافيا والتاريخ والتربة والشجر والحجر كلّنا على سرير موت مؤجل؟ هل هزمنا موت الفنون جميعها؟
اليوم أتمنّى أن تنتهي الحرب، لأعرف كيف سأعود، هل ستنتج العتمة والقصف شخصاً جديداً سواي؟ أم سأكون "أنا" بما أنا عليه الآن: مجرّد حدث عابر لتراكمات سياسيّة لا أعرف سوى القليل من أبجديّتها
في هذه الحرب عدتُ أكثر من 50 سنة إلى الوراء، إلى حقبة لاوجودي، حقبة عدم تشكلي في النطفة والبويضة. اكتشفتُ حبّي لمنظّمة التحرير الفلسطينية. ياسر عرفات، تجذبني كوفيّته وبندقيّته، لو كان هنا لقاتل معنا وصمد معنا... لكنّي مسحور بكاريزما خليل الوزير (أبو جهاد)، متمنيّاً لو يستطيع الخياط بعد الحرب تفصيل بدلة لي كبدلاته العسكريّة.
أكتب كلّ هذا والعتمة تهددني في أيّ لحظة بإرخاء الستارة. مرعب جدّاً أن يتكرّر خوفنا من العتمة، أن تتراكم مخاوف الطفولة وتنفجّر في عزّ النضج والوعي. مرعب أن نهرب من الواقع عبر الجنس، الفنّ المطوّق بعتمة التديّن وظلمة التكفير.
أكتب مجدّداً لأنّي لست خائناً، ولأني أكره بشدّة عبارة "مش وقتها هلّق"، كلّما أضأت هذه العتمة بموقف من هنا وهناك، أو كلّما كتبت رأياً سياسيّاً يتسبب بانخفاض عدد الاصدقاء على فايسبوك من 5000 إلى 4990.
نحن لسنا أرقام، هذا ما أقوله لنفسي قبل أن غفو على صفحة رواية أو كتاب. نحن لسنا دروعاً بشريّة أو عقليّة لمشاريع سياسيّة مهترئة. نحن ثورة على الظلام، على الدماء وعلى الحروب التي لم نستفد من دمائها شيئاً.
اليوم أتمنّى أن تنتهي الحرب، لأعرف كيف سأعود، هل ستنتج العتمة والقصف شخصاً جديداً سواي؟ أم سأكون "أنا" بما أنا عليه الآن: مجرّد حدث عابر لتراكمات سياسيّة لا أعرف سوى القليل من أبجديّتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 8 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.