يمرّ الشرق الأوسط الآن بلحظة مفصلية؛ فثمة حديث متكرر عن قرب انهيار النظام القديم، وعن نظام جديد لم ينشأ بعد، ولا أحد يعرف على وجه التحديد كيف سيكون. والنظام الجديد هذا ربما بدأ قبل سنوات، أي قبل هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وما أعقبه من حرب على غزّة، ثم توسعها مؤخراً إلى لبنان.
على مدار عقود، ظل الإسرائيليون والأمريكيون يحلمون بإعادة بناء المنطقة. ولكن كل المحاولات التي بُذِلت حتى الآن كانت لها نتائج معاكسة تماماً لما كان متوقعاً. وكما يبدو فإننا أمام منعطف جديد الآن للإستراتيجية ذاتها، لكن ما هي الخطة؟ وكيف يمكن فهمها وربطها في ضوء المتغيرات الحالية؟
العرض الأول لخطّة "النظام الجديد"
يمكن تسجيل يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2024، باعتباره يوم الإعلان الرسمي عن خطة "النظام الجديد"، وهو اليوم الذي شهد حدثَين يمكن بشكل وثيق ربطهمها ببعضهما: الأول هو خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإعلانه مبادئ ما أسماه "النظام الجديد"، والثاني بعد وقت قصير من الخطاب حيث تم اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، في عملية سمّوها في إسرائيل باسم "النظام الجديد".
على مدار عقود، ظل الإسرائيليون والأمريكيون يحلمون بإعادة بناء المنطقة. ولكن كل المحاولات التي بُذِلت حتى الآن كانت لها نتائج معاكسة تماماً لما كان متوقعاً. وكما يبدو فإننا أمام منعطف جديد الآن للإستراتيجية ذاتها، لكن ما هي الخطة؟ وكيف يمكن فهمها وربطها في ضوء المتغيرات الحالية؟
تحدّث نتنياهو عن خطة أسماها "اللعنة والبركة"، وقدّم خريطتَين: في إحدى يديه، حمل خريطةً تحمل اسم "اللعنة والإرهاب"، تظهر إيران ووكلاءها، وتوسعها في الشرق الأوسط، ومدى تهديدها للاستقرار الإقليمي. وفي الأخرى، حمل خريطةً أطلق عليها اسم "البركة والسلام"، وهي الخريطة نفسها التي عرضها قبل عام بالضبط على المسرح نفسه، والتي توضح كيف سيتغير الشرق الأوسط بعد اتفاق التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وقال: "السلام سيجعل الشرق الأوسط جنّةً. يجب الاختيار بين لعنة العدوان الإيراني، ونعمة المصالحة بين اليهود والعرب".
ولا يحتاج المرء إلى أن يكون عبقرياً ليفهم أنه بحسب نتنياهو لا يمكن تحقيق خطة البركة خاصته، دون إتمام خطة اللعنة، أي السلام في الشرق الأوسط، مع أو مقابل القضاء على إيران ووكلائها في المنطقة.
وربط خطة نتنياهو بالتحركات العسكرية، يظهر جلياً على أرض الواقع، إذ يبدو أنه حاول على مدار العام السابق أن ينفّذ خطة "اللعنة"، فانطلق في حرب غير محدودة على غزّة، ومنها إلى حرب جديدة على لبنان، وليس مستبعداً أن يكون الهدف التالي الميليشيات الإيرانية في العراق، والحوثيين في اليمن، وبهذا تكتمل الصورة.
في الوقت نفسه، ليس واضحاً إلى أي مدى ذهب في نتنياهو في خطة البركة أو السلام، ولا تخفى على أحد رغبته العميقة في التطبيع الذي أراده قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولا يزال يريده حتى الآن، وبحسب نظريته فإن النظام الجديد الذي يطمح إليه، مفتاحه ما يُسمّى تحالف أو اتفاقيات أبراهام، أي "تحالف الدول المعتدلة التي ستقود الشرق الأوسط في مقابل إيران وشركائها"، كما يصفه.
ربما لا يزال نتنياهو يعتقد أنه قادر على تحقيق التطبيع وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية دون الدفع قدماً بالعملية الفلسطينية، في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة الدفع بتلك العملية كمفتاح لاستقرار الشرق الأوسط. ففي المفهوم الأمريكي، الطريق إلى "نظام جديد" يمر عبر التطبيع مع السعوديين، لكن نتنياهو يتجاهل تماماً حقيقة أن مفتاح الصفقة السعودية يكمن في توفير أفق سياسي للفلسطينيين.
ويراهن نتنياهو على تنفيذ خطته من دون تنفيذ "حلّ الدولتين"، وهي الأيديولوجيا التي طرحها علانيةً في كتابه "رجل تحت الشمس"، ورهانه أن هناك على الأقل خمس دول من دول التحالف الإقليمي، تعادي حماس وحركة الإخوان المسلمين، وهي الدول التي استجابت لدعوة واشنطن بالانضمام إلى ما يسمّى "مبادرة بايدن"، التي في إطارها يتم تنسيق النشاطات أمام إيران، كما تجسّد في ليلة هجوم إيران في نيسان/ أبريل الماضي، لكنها أيضاً ستتحمل المسؤولية عن إدارة قطاع غزّة، بما في ذلك وضع قوات برّية هناك، وهو ما لا يزال يشكّل عائقاً.
ليس أول نظام جديد
"خطة النظام الجديد" للشرق الأوسط ظهرت في عالمنا سابقاً، إذ كانت الفكرة موجودةً لدى الأمريكيين بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، الحرب الكبرى ضد الإرهاب؛ فبعد غزو أفغانستان بحجة العثور على بن لادن وزعماء القاعدة، استهدفت إدارة بوش العراق في عهد صدام حسين، بسبب أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي لم يثبت وجودها حتى يومنا هذا.
ولاحقاً في أثناء حرب لبنان الثانية بين إسرائيل وحزب الله في صيف عام 2006، والتي كانت محاولةً فاشلةً لتقليص المكوّن العسكري للمنظمة الشيعية اللبنانية، وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس، تلك الحرب بأنها بداية "شرق أوسط جديد"، ثم ظهرت الفكرة مرةً أخرى، في أثناء إدارة أوباما في مواجهة موجة ما يسمّى "الربيع العربي".
يراهن نتنياهو على تنفيذ خطته من دون تنفيذ "حلّ الدولتين"، وهي الأيديولوجيا التي طرحها علانيةً في كتابه "رجل تحت الشمس"، ورهانه أن هناك على الأقل خمس دول من دول التحالف الإقليمي، تعادي حماس وحركة الإخوان المسلمين
لماذا تم ربطها باغتيال "نصر الله"؟
أُطلق في إسرائيل على عملية اغتيال نصر الله، اسم "النظام الجديد"، ويمكن تفسير هذا بأن الأخير كان يُعدّ اللاعب القويّ في تحالف إيران، وأن إزاحته قد تمكّن من تغيير المشهد، وقد تحدّث بنيامين نتنياهو، مباشرةً بعد الاغتيال، عن فرصة "لتغيير ميزان القوى في المنطقة لسنوات"، ويمكن فهم أن إسرائيل تعدّ المرحلة الحالية فرصةً جيدةً للغاية لا ينبغي تفويتها لتوجيه ضربات حاسمة ليس فقط إلى حزب الله، بل أيضاً إلى إيران و"محور المقاومة" الذي تقوده، والذي يضمّ حماس وحزب الله والميليشيات في العراق وسوريا، فضلاً عن حركة الحوثيين في اليمن.
في الافتراض الإسرائيلي، فإن اغتيال نصر الله، إلى جانب الضرر الذي لحق ببنية قيادة حزب الله وقدراته العملياتية، يشكّل نقطة تحول محتملةً في الشرق الأوسط، وعلى المستوى الإستراتيجي. فبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان الاتجاه يميل إلى تحقيق إنجازات لحماس والمحور الإيراني، لكن "التطورات الأخيرة أثبت أن تغييراً ما يحدث".
والافتراض هو أنه إذا تمكنت إسرائيل من إلحاق ضرر جسيم بـ"محور المقاومة"، فإن إنجازها سوف يلقى ترحيباً هادئاً من الولايات المتحدة، والسعودية والإمارات اللتين تخشيان إيران أيضاً، وحاربتا حركة الحوثي، فمن ناحية تريد إسرائيل أن تثبت للعالم أنها استعادت الردع بعد إهانة هجوم تشرين الأول/ أكتوبر، ومن ناحية أخرى تنتهزها فرصةً لما تزعمه عن "تغيير الواقع في الشرق الأوسط مستغلةً تخبّط النظام الإيراني".
وبينما تعمل إسرائيل بشكل أحادي على قلب موازين القوى في الشرق الأوسط، فإن دول الخليج ستراقب وتنتظر على الهامش، وهي على استعداد لإعادة الانخراط إذا ظهر نظام جديد بالفعل. والسبب في ذلك هو أن حملة إسرائيل للقضاء على وكلاء إيران، حماس وحزب الله، تتوافق مع مصالح حكومات الخليج، بحسب ما تذكر هادلي غامبل، في مقالها في "سيمافور".
هل نجحت إسرائيل في ذلك؟
هذا الاستنتاج مبكر للغاية، ولكن المؤكد هو أن المحور الذي تقوده إيران يعاني من الاضطراب، ويبدو أن إسرائيل حققت بعض المكاسب التكتيكية المهمة، ولكن قدرتها على تحويل هذه المكاسب إلى مكاسب إستراتيجية من خلال الدبلوماسية، تبقى أمراً غير واضح.
وبحسب المحلل بول سالم، من معهد الشرق الأوسط في حديث إلى موقع "بي بي سي"، "لا يتعلق الأمر بالخريطة، بل يتعلق بتوازن القوى بكل تأكيد. فعلى مدى العشرين عاماً الماضية، كانت إيران ووكلاؤها (حماس وحزب الله) من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، تفرضان التعادل على بعضهما البعض، وهو ما يعني وجود ردع متبادل. ولكن هذا التوازن تحطّم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والآن تحاول إسرائيل أن تكون لها اليد العليا".
بينما رأت داليا شيندلين، مؤلفة/ زميلة في مؤسسة "سينتشري إنترناشيونال"، في حديث إلى موقع "بي بي سي"، أنه "من المبكر جداً أن نحكم على الأمر. وأعتقد أن الحديث بعد أسبوعين أو سنة سوف يجعلنا نعرف ما إذا كان هناك احتلال جديد للجنوب اللبناني، وفي الوقت نفسه صراع مع إيران، ولكنني لا أعتقد أنهم يحاولون إعادة رسم الحدود في الشرق الأوسط".
فرص تحقيق "النظام الجديد"
تحقيق النظام الجديد في الشرق الأوسط الجديد ليس وشيكاً كما يعلن كثيرون في إسرائيل، إذ لم يتم القضاء بعد على حماس ولا على حزب الله، وإمكان حدوث انقلاب إستراتيجي وتشكيل تحالف إسرائيلي-عربي تحت رعاية أمريكية لا يزال رؤيةً بعيدة المنال.
تحقيق النظام الجديد في الشرق الأوسط الجديد ليس وشيكاً كما يعلن كثيرون في إسرائيل، إذ لم يتم القضاء بعد على حماس ولا على حزب الله، وإمكان حدوث انقلاب إستراتيجي وتشكيل تحالف إسرائيلي-عربي تحت رعاية أمريكية لا يزال رؤيةً بعيدة المنال
ولكن بحسب ما أعلن نتنياهو والتحركات الإسرائيلية الحالية، يمكن فهم أن الهدف هو الدفع نحو بناء حِلف دفاعي إقليمي مع الولايات المتحدة والدول العربية التي يصفونها بـ"المعتدلة"، كمعسكر واحد في مقابل ما يسمونه "محور الشرّ الجديد"؛ روسيا، والصين، وإيران.
لكن المسألة الفلسطينية لاتزال عائقاً، فعندما رسم نتنياهو ملامح هذا التصور عشية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وفي خطابه الأخير في الأمم المتحدة، سارع السعوديون إلى توضيح أن الشرط الأساسي لتحقيقه هو تعزيز المفاوضات بشأن القضية الفلسطينية.
وهذا يظهر الفجوة بين الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية للنظام الجديد؛ فإسرائيل تهدف إلى تحقيق التغيير من خلال العمل العسكري، وإضعاف محور "إيران" لإجباره على الموافقة على شروطها أو فرض واقع جديد، أما الإستراتيجية الأمريكية فتهدف إلى التسوية، وتتعهد باستقرار المنطقة.
التفاعل بين الحرب والأهداف الإستراتيجية معقّد، ولكن بالنسبة للولايات المتحدة، أصبح الشرق الأوسط الكبير بمثابة لوحة للتغيير، يتم استخدامها من خلال أدوات الحرب. وفي هذا الإطار، لا تشكل الحرب نتيجةً حتميةً بل رافعةً لتحريض التحولات السياسية والإقليمية، وتعزيز صعود تحالفات وائتلافات جديدة، وإعادة تعريف الحدود.
وفي السياق، كتب فيليب جوردون، الذي خدم في إدارة باراك أوباما من عام 2009 إلى عام 2015، أولاً كمساعد لوزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية ثم كمنسق في البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج في مجلس الأمن القومي، في كتاب صادر عن مجلس العلاقات الخارجية في 2020، بعنوان "الوعد الكاذب بتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط" ، أن "سعي أمريكا إلى تحقيق أهداف قصوى في الشرق الأوسط، يترافق غالباً مع فهم ضئيل للظروف المحلية وافتراضات متعجرفة حول فعالية القوة الأمريكية لإعادة تشكيل الحكومات والمجتمعات الأجنبية. والنتيجة هي رحلة سريعة الخطى وخالدة عبر أرض العواقب غير المتوقعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...