فتحت محادثاتي القديمة مع صديقتي مروة من صيدا، وكانت آخر رسالة بعثتها إليها أثناء حرب غزة: "أنا بخير وأهلي كذلك". واليوم، أرسلت لها: "كيف حالكِ مروة؟"، فجاء ردها بعد دقائق: "أنا بخير وأهلي كذلك".
كيف تغيرت الأمور بهذه السرعة؟ كيف تحوّلت صديقتي، التي كانت تتابع أخبارنا في غزة، إلى من يعيش في قلب المعركة الآن؟ كيف ننتقل في لحظات من مجرّد مشاهدين إلى ضحايا، من مساندين للغزاويين إلى من يحتاجون الدعم؟
منذ أسبوع، عاد الكابوس ليطرق أبوابنا من جديد. طائرات 16F والمدافع الإسرائيلية تحلق فوق المدن والقرى، بينما الغارات لا تتوقف. الناس بدأت تتأهّب لترك منازلها، تتجه نحو المجهول في رحلة مأساوية. المشاهد تعيد نفسها: أمهات تمسّكن بأطفالهن وهن يركضن للنجاة، شباب يحملون حقائبهم وأوراقهم، وعيون تائهة تبحث عن مأوى أو أمل وسط الخراب.
الطرقات مكتظة بالسيارات التي تمتد على طول الشوارع. الوجوه تعكس مزيجاً من اليأس ومحاولات التمسّك بالأمل. في قرية البازورية، يموت مسنّ بعد 16 ساعة من النزوح، إثر أزمة قلبية. في صور، يلتقط شابان صورة ويوجهان رسالة للعالم: "نحن باقون"، وفي الخلفية، أصوات سيارات الإسعاف تدوي، بينما يوجّه الصليب الأحمر اللبناني نداءات عاجلة للتبرّع بالدم. وسط هذا الدمار، تظل الحياة تفاجئنا بقدرتها على الاستمرار وضخّ الأمل، ما أراه الآن، وبالرغم من الصدمة، كان مشهداً مماثلاً لما عشناه بغزة: هل أخطأت القنوات الإخبارية حين كتبت لبنان بدلاً من غزة؟
لقد رأيت هذه الصور من قبل: القصف، الصراخ، النزوح، والصمت الثقيل الذي يخيم على وجوه الآباء، واليوم، يُعاد نفس السيناريو لكن في بلد آخر، على بعد أميال قليلة من غزة التي لم تلتئم جراحها بعد. هل هذا هو الحل الذي توصل إليه "العالم المتحضر"؟ استنساخ الكارثة في مكان آخر؟
كان عدد الشهداء في غزة يزداد بسرعة. السياسيون الدوليون يخرجون على شاشات التلفاز ليحلّلوا الوضع، يتحدثون عن "الوضع الإنساني"، يذكرون الأطفال، النساء الحوامل، المرضى والبنية التحتية المدمرة. كانوا يتحدثون عن "الحقوق" و"الشرعية". كنا نستمع ونتساءل: "هل يدرك العالم ما يحدث هنا؟ ربما ينتهي هذا قريباً". لكن الواقع كان دائماً مخيباً للآمال؛ العالم يتحدّث ونحن نواصل الموت، والآن، القصة ذاتها تتكرّر في لبنان، يخرج السياسيون للإدانة والاستنكار ويخرج المحللون لشرح موتنا.
كان عدد الشهداء في غزة يزداد بسرعة. السياسيون الدوليون يخرجون على شاشات التلفاز ليحلّلوا الوضع. العالم يتحدّث ونحن نواصل الموت، والآن، القصة ذاتها تتكرّر في لبنان، يخرج السياسيون للإدانة والاستنكار ويخرج المحللون لشرح موتنا
كان قاسياً علي رؤية خارطة جنوب لبنان بجانب خارطة غزة تحت مجهر التحليل العسكري. أصدقاؤنا الذين كانوا يدعموننا حين كنا في موقع الضحية، والآن هم من يحتاجون إلى المساعدة. رسائلهم على وسائل التواصل الاجتماعي مشابهة تماماً لما كنا نكتبه: "نريد مأوى، نحتاج دواءً، هناك سيدة تحتاج من يوصلها". كيف انقلبت الأمور وأصبحوا هم الضحايا؟
رفاق تحت القصف
صديقي هاني من بيروت، أرسل لي رسالة مليئة بالسخرية: "ها نحن الآن في نفس القارب. عمري ثلاثون عاماً وأجلس في صفوف الإعدادية داخل مدرسة النزوح. تعال لنهرب من على سور المدرسة". ضحكنا معاً رغم الألم. أصبحت السخرية هي ملاذنا الأخير في مواجهة هذا الواقع القاسي.
نحن، كفلسطينيين ولبنانيين، أصبحنا من أبناء الحروب، ووحدنا من نعرف المعاناة حق المعرفة، ووحدنا من نعرف كيف نبقى على قيد الحياة وسط هذا الخراب
كلانا يعرف جيداً العدو وأطراف النزاع والمفاوضات، كما نعرف المتاجرين بالدماء والمصالح. نعلم ما ينتظر الناس، الأطفال والقرى. لقد أصبحنا، نحن الغزيين واللبنانيين، خبراء في الحروب، لا لأننا اخترناها أو أحببناها، بل لأننا كبرنا بين أهوالها.
في غزة، لا نتمنى حرباً على لبنان. لا من باب المناصرة ولا بحجّة التضامن. نريد أن نعيش سوياً بسلام، تحت سماء واحدة. كانت تلك الحوارات ذاتها تتكرّر في غزة؛ كنا ننتقد كل الأطراف، ونتمنى أن تنتهي الحرب ليعمّ الأمان. لكن هناك من يستهويه صوت المدافع والطائرات، غير مكترث بما نمرّ به من دمار وألم، نحن الذين نحلم فقط بالنجاة.
استنساخ الألم
مرّت الأيام سريعاً، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات تقول: "لا تغطية إعلامية، لا معدات لرفع الأنقاض، الناس تحت الركام". كيف يحدث هذا؟ كيف تتحوّل الكارثة إلى واقع يومي بهذه السرعة؟ لماذا الجميع عاجزون عن إنقاذ من بقي على قيد الحياة؟ في غزة، كنا نعيش هذه اللحظات مراراً. المنازل تتدمّر فوق رؤوس سكانها، والناس يحاولون إنقاذ أحبائهم من تحت الأنقاض. الصرخات تملأ الجو: "أين المعدات؟ أين سيارات الإسعاف؟ أين المسؤولون؟"، لكننا كنا نعرف أن أحداً لن يأتي لإنقاذنا، وأننا وحدنا في مواجهة هذا المصير.
بعد ثلاثة أيام من اشتداد الحرب، وفي الليلة التي كنت أرى بها مناشدات الأصدقاء في لبنان، أشعلت سيجارتي ونظرت إلى السقف بصداع لا يفارقني. كل ما عشته في غزة عاد إلى ذاكرتي: صوت الطائرات، خطوات الهاربين، كل شيء يتكرّر. حماس البعض، ترقب الآخرين، والاستعداد النفسي الهش الذي كان يصاحبنا.
بعد ساعات قليلة، اكتمل استنساخ الكابوس. فُتحت المدارس والمساجد لاستقبال النازحين. وقفت متأملاً: نازحون جدد؟ لقد مضى عام منذ أن تركنا منازلنا في غزة، وما زلنا نعيش في مراكز الإيواء. كيف يتكرّر نفس المشهد بهذه السرعة بينما معاناتنا ما زالت ماثلة أمامنا؟
كل ما عشته في غزة عاد إلى ذاكرتي: صوت الطائرات، خطوات الهاربين، كل شيء يتكرّر. حماس البعض، ترقب الآخرين، والاستعداد النفسي الهش الذي كان يصاحبنا.
غزة ولبنان: ذاكرة واحدة
أرسلت لصديقتي مرة أخرى: "آسف، لن أكتب لكِ بعد الآن. لا أريد أن أجعلكِ تشعرين بما شعرت به عندما كنت خائفاً وجائعاً ومشرداً، بينما يسألني أحدهم 'كيف حالك؟' فأضطر إلى الإجابة: 'أنا بخير'. لكن الحقيقة أننا لم نكن بخير، ولا أنتِ الآن بخير. لن أسمح لكِ بتجرّع مرارة هذه الإجابة مرة أخرى".
اليوم، وبعد ما رأيت توافد النازحين في لبنان شعرت أنني نزحت من جديد. الكابوس الذي ظننا أنه انتهى يعيد نفسه، ولكن في مكان آخر. بنفس مشاهد البحث عن النجاة والناس الذين يواجهون مصيراً مجهولاً.
نحن، كفلسطينيين ولبنانيين، أصبحنا من أبناء الحروب، ووحدنا من نعرف المعاناة حق المعرفة، ووحدنا من نعرف كيف نبقى على قيد الحياة وسط هذا الخراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع