عرض للمرة الأولى بمصر الفيلم الفلسطيني النرويجي "الحياة حلوة" للمخرج محمد الجبالي، ضمن فعاليات أسبوع أفلام جوته السينمائي لعام 2024، وهو الأسبوع السينمائي الذي ينظمه معهد جوته الألماني كل عام بين محافظتَي القاهرة، والإسكندرية، للاحتفاء بالسينما الألمانية والعربية معاً، لدعم الصناعة السينمائية، عن طريق عرض مجموعة من الأفلام متنوعة الأطروحات والأنواع العديدة بين الوثائقي والروائي، القصير منها والطويل، فضلاً عن تنظيم لقاءات مع الكثير من صناع الأفلام، بهدف تعرف الجمهور عليهم بشكل أقرب ومناقشة أعمالهم. وقد أقيمت هذه الفعالية هذا العام اعتباراً من 17 إلى 24 أيلول/سبتمبر الماضي.
ومن بين الأفلام المعروضة هذه الدورة كان فيلم "الحياة حلوة"، وهو فيلم فلسطيني نرويجي مشترك، داخل قائمة الأفلام الوثائقية، فاز من قبلُ بجائزة أفضل مخرج في مهرجان الأفلام الوثائقية الدولي في أمستردام (IDFA).
يوثق الفيلم رحلة المخرج الشاب الفلسطيني، على مدار سبع سنوات، في شكل يوميات مجمعة؛ تبدأ رحلته بمنحة في الفنون من مؤسسة نرويجية، يتعلم من خلالها فن السينما الذي يشغله دائماً للتعبير عن هموم وطنه. وتعتبر هذه هي نقطة انطلاق الفيلم، بل وهي نقطة توضيح خطي في الدراما الرئيسية داخل تلك "الحدوتة" الموثقة، التي تبدو في البداية كخطوط منفصلة، بين هم الوطن وظروف الاحتلال، وهمّ دراسة السينما. ربما المزيج الذي حدث بينهما على مدار رحلة المخرج الحقيقية هو ما دفعه لتنفيذ فيلم يسرد فيه ذلك التدرج، فتلك الهجرة الأولية، منحته علوماً سينمائية متعددة، وفي الوقت نفسه منعته من العودة إلى بلاده من جديد، بسبب القصف الإسرائيلي وغلق المعبر الفلسطيني.
يوثق الفيلم رحلة المخرج الشاب الفلسطيني، على مدار سبع سنوات، في شكل يوميات مجمعة؛ تبدأ رحلته بمنحة في الفنون من مؤسسة نرويجية، يتعلم من خلالها فن السينما الذي يشغله دائماً للتعبير عن هموم وطنه
ومن ذلك المنع، قرر الجبالي ألا يعيش في بلاد غريبة بصفته لاجئاً، بل استمر في دراسة السينما بشكل أعمق، عن طريق الانضمام إلى مدرسة السينما، ومنها ترتبط الخيوط؛ فالمنع من العودة إلى البلاد كان دافعاً قوياً لاستكمال المسيرة الفنية، بل واستخدام المشاهد التي طالما سجلها بكاميراه المتواضعة داخل حي نشأته، والأسواق وأماكن اللعب في الشوارع والمحلات، ووقائع القصف الإسرائيلي على غزة، ليقدمها داخل فيلمه الأول "إسعاف".
عن عربة إسعاف مشوهة
تزداد الخيوط الموثقة، والتي بالضرورة تخلق دراما متدفقة في الفيلم، من وجود عنصر "فيلم داخل فيلم"، حيث يستعرض المخرج فيلمه "إسعاف" داخل المنتج الجديد "الحياة حلوة"، وذلك بعد أن حصل على منحة لإنتاج فيلمه الأول، واضطر حينها للسفر إلى كوبنهاغن للقاء المونتيرة التي ستساعده في مونتاجه، ثم حيلة الدعاية المبتكرة التي قرر خوضها، عن طريق استخدام سيارة إسعاف حقيقية تشبه الموجودة في غزة، مليئة بالثقوب والكسور نتاج القصف الإسرائيلي، ومن ثم تتحرك السيارة في محيط دار عرض الفيلم.
وفيلم "إسعاف" هو وثائقي أيضاً عن الحياة اليومية المليئة بالإصابات، وتلك العربة التي تحاول إنقاذ المصابين في الفيلم، مصابة هي الأخرى بجروح وقصفات تعبر عن وضع كل من وجدوا بداخلها. رُشح الفيلم لجائزة "السلام النرويجي" من بين 11 فيلماً مشاركاً، ونال الجبالي عنه جائزة "بي بي سي" للصحافي الشاب، وعُرض ضمن أيام مهرجان شيفيلد للأفلام، المنظم من قبل الهيئة الملكية للأفلام في عمان.
الحنين إلى غزة الدافئة
امتلأ فيلم "الحياة حلوة" بالتنوعات على مستوى الأطروحات، بين رحلة دراسة السينما، وكذلك رحلة رصد القصف ونتاجه على أهل غزة، وأيضاً رحلة صناعة فيلم. وتتداخل في الفيلم عناصرُ التوثيق مع الدراما، التي نتج عنها مشاهد موثقة عن دمار بلد بأكملها، بجانب صورة سينمائية هادئة عن القطب الشمالي وأماكن دراسة السينما.
ذلك التنوع الذي استخدمه أيضاً الجبالي في توصيل مشاعر لا تقلّ تنوعاً عما قدّم في الصورة، فعلى رغم توثيق القصف والمجازر، إلا أن غزة كانت دائماً تحمل الدفء والطمأنينة في نفس الجبالي، في مقابل هدوء الصورة السينمائية أثناء رصد القطب الشمالي، لكن ما يحمله من برودة قارسة في الجو، حملت معها معانيَ ضمنية أيضاً عن الوحشة والاغتراب، وغياب الدفء، وظهر ذلك بقوة أيضاً عند استخدامه خط ثالث موازٍ، وهو مكالمات الفيديو عن طريق الهاتف لأسرته بشكل مستمر، فلا يفوت الجبالي مجموعة مشاهد إلا أن يضع مكالمة فيديو لأمه.
وفي شريط الصوت الذي يسرد الحكاية كاملة بصوته، لم يتخلّ الجبالي أبداً عن صوت أمه، أو الحكي عنها، وربطها الدائم بغزة، بصفتهما شيئاً واحداً لا ينفصل أبداً، بل وحضورها داخل أحداث صناعة الأفلام جاء لتأكيد ذلك الحنين وشعور الغربة الذي لم ينقطع، بجانب بعض الفنيات التي استخدمها الجبالي في الصورة؛ على سبيل المثال، في كادر واحد يظهر فيه يتابع أحداث القصف على غزة، وبجانب شاشة التلفزيون، شاشة الهاتف المحمول، وصورة أمه أثناء مكالمة الفيديو حاضرة بمفردها.
حرص الجبالي على تقديم مشاهد للداعمين له أثناء رحلة دراسته للسينما، من باب الشكر والعرفان، بجانب توثيق مشاهد محاولاته للتأقلم مع الطقس البارد، لنجد الفيلم يُفتتح بالأساس على مشهد "محاولة التأقلم" في محاولة حقيقية منه لإدارة تحركاته على الزلاجات النوردية، وهي خير افتتاحية، لتوضيح عدم الانتماء، ولكن هناك سعي للعيش والتأقلم، لرصد ثنائية الدفء والبرد، بمفهومها الصوري وكذلك الشعوري.
يحمل اسم الفيلم في داخله أملاً في استشراق وتمني "حياة حلوة" بالفعل وهادئة؛ هدوء يتسق مع دفء البلاد، ويترك البرودة لأهلها، بجانب تحقيق جزء من الحلم الحقيقي بالفيلم
وأيضاً عدم استقراره في مكان واحد، الذي اضطره لقبول دعوات كثير من المهرجانات السينمائية، لأنه لم يستطع العودة إلى بلاده، فكان من الأفضل خوض رحلة تجوال بين المهرجانات، ليكون دائماً الوطن والاغتراب هما العناصر الأساسية في تحريك وتطور عنصر دراسة السينما وصناعة الأفلام، بصفتهما هموم شعورية حزينة، إلا أنها مفيدة على مستوى التعرف على الجبالي بشكل أكبر، وأيضاً مفيدة في إنتاج وثائقي جديد يتضمن كافة الخطوط والأوراق المبعثرة لترتبط سواءً بقصد أو بدون قصد، لكن ذلك لا ينفي أهمية الفيلم بصفته فيلماً شخصياً إنسانياً بسيطاً في أدواته السينمائية، لكنه يحمل معاني وخطوطاً درامية متضمنة ومترابطة بحق.
هل حقاً الحياة حلوة؟
ربما اختار الجبالي اسم فيلمه "الحياة حلوة" بهدف التهكم من ذلك التضاد الذي يظهره كمخرج قادر على زيارة بلدان مختلفة لعرض فيلمه، ودراسة الشيء الذي يحب، في مقابل مشاعره الدفينة ناحية فقدان البلاد وشعور الاستقرار، بجانب عرضه بشكل مستمر لمشاهد البيوت المدمرة التي لا تحمل أي حلاوة للحياة، لكنه في الوقت ذاته هو اسم يحمل في داخله أملاً في استشراق وتمني "حياة حلوة" بالفعل وهادئة؛ هدوء يتسق مع دفء البلاد، ويترك البرودة لأهلها، بجانب تحقيق جزء من الحلم الحقيقي بالفيلم، ربما يتمثل في دراسة السينما وصناعة أفلام توثق المعاناة الفلسطينية، لكن الحلم الأكبر هو العودة للبلاد، والذي اختتم الفيلم به، بل وفي أكثر الأماكن دفئاً بالنسبة للجبالي، وهو بيته وحضن أمه، فهو الحلم الحقيقي والخط الأكثر ظهوراً، وانتهاء الفيلم به يعني تحقيق الحلم الشخصي، وأن الحياة بالفعل حلوة وفقاً لأهداف المخرج وأحلامه البسيطة التي أنقذته ووثقت تجربته.
يُذكر أن أسبوع أفلام جوته يتضمن برنامجاً للأفلام الألمانية أيضاً، وهي عبارة عن ثمانية أفلام طويلة وخمسة قصيرة تم إنتاجها خلال العامين الماضيين، مع ترجمة عربية، ويُعرض معظمها لأول مرة في مصر.
أما برنامج الأفلام العربية، فيشمل سبعة أفلام طويلة وستة قصيرة من مصر ولبنان وفلسطين والسودان واليمن تحت عنوان "من العائلة... للوطن"، مسلطاً الضوء على موضوعات الأرشيف والذاكرة التي كانت محورية في صناعة الأفلام العربية خلال العامين الماضيين، في ظل سياق عام من الهجرة والحروب التي شهدتها العديد من الدول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.