منذ اندلاع الأحداث الضارية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، والجميع يتابع مشاهد تدفن الرقي والسموّ الإنسانى. البعض خرجوا في تجمعات ومسيرات احتجاجاً على ما حدث ويحدث، شعوب كاملة حتى الآن ما زالت تحاول الضغط على الحكومات لينصتوا ويوقفوا هذه المجازر، وهناك أيضاً من ظل يصرخ لفترة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون نتيجة لصراخه حتى الآن، فمنهم من تعب أو فقد الأمل ومنهم من زال يصرخ.
هناك فنانون أيضاً دفنوا القضية داخلهم ليخرجوها في صورة صرخة فنية وتعبير يدهشنا، وهو ما فعله الفنان وليد عوني، مؤسس فرقة الرقص المعاصر الحديث بأوبرا القاهرة، ليقدمه في العرض الراقص "صدى جدار الصمت" الذي شاهدناه في حفل افتتاح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الدورة 31، والذي أقيم من 1 إلى 11 أيلول/سبتمبر الماضي.
بدأ العرض بأجساد الراقصين المستلقية كَنومِ الموت على خشبة المسرح تغطيهم الملايات البيضاء، في إشارة واضحة للجثث، في صدارة المسرح عدة بلوكات بانوهات متحركة، والتي كانت في مشهد البداية متلاصقة كشاشة عرض، والمادة الفيلمية المعروضة عبارة عن موج بحر، يتغير الموج من حركة هادئة ليصبح موجاً ثائراً، ومع الموسيقى التي تشبه منبه الاستيقاظ في الهاتف. تنهض الجثث (أجساد الراقصين الممدة) ببطء، فنرى الراقصين بوضوح، بملامح جادة، وملابس حدادٍ سوداء، يحولون الملايات في أياديهم لتصبح طفلاً رضيعاً. ثم يضعون الأطفال الرضع "الشهداء" في مقدمة المسرح ويبدأ العرض.
ما سبق هو "أوفرتير" بلغة المسرح، وهو مشهد يسبق أو يفتتح به العرض المسرحي.
أنا لا أنساك فلسطيني
على مدار العرض، أي خلال خمسة وأربعين دقيقة تقريباً، في النقل من مشهد لآخر، كان يوازي ما نشاهده، نسمع إما مقطعاً من أغنية لفيروز، وإما صوت أم كلثوم، حسب ما يقتضيه المشهد. وكان مميزاً مدى ملاءمة ما تشاهده العين مع ما تسمعه الأذن، فاختيار المقطع المناسب لكل مشهد، عزز التكوين النهائي للعرض؛ فلم تكن هناك مجرد كلمات للأغاني تترجم ما يريد الرقص المعاصر إيصاله، لأنه حتى إن شاهدنا العرضَ دون سماع أي موسيقى، سيصلنا كمتلقين كل حركة يؤديها الراقصين، فكل المشاهد مفهومة على عكس ما يُشاع عن عروض الرقص المعاصر. وجرى الحال كذلك في هذا العرض، فما كنا نراه، نلمسه بقلوبنا قبل المشاهدة.
كيف لا يكون واضحاً وضوحَ الشمس، مشهدُ تهجير وترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه؟ فبمجرد تحريك بانوه من البانوهات يصبح بمنتصف خشبة المسرح معروضاً عليه شجرة زيتون تتساقط أوراقها الخضراء دلالة عن تساقط الضحايا/الشهداء، وحولها يطوف الراقصون (الشعب)
كيف لا يكون واضحاً وضوحَ الشمس، مشهدُ تهجير وترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه، فبمجرد تحريك بانوه من البانوهات يصبح بمنتصف خشبة المسرح معروضاً عليه شجرة زيتون تتساقط أوراقها الخضراء كناية ودلالة عن تساقط الضحايا/الشهداء، وحولها يطوف الراقصون (الشعب) حاملين أغراضهم، من مرتبة سرير، إلى أنبوب فرن تحمله امرأة، وهم عجائز ومصابون.
الجميع يجري بشكل دائري حول الشجرة، تعبيراً عن تهجيرهم من أرضهم، يتوقفون إثر صوت القصف، وعلى وجوههم إمارات الفزع، وينتهي الأمر باستشهاد أو موت الجميع، حتى الشاب الذي بقي للنهاية طالته رصاصات غدر العدوّ ليسقط جسده أرضاً، وهنا نستمع لصوت فيروز "أنا لا أنساك فلسطيني"، لتعبر عن صوت كل من غادر فلسطين، معلناً أنه لن ينسى أرضه ولا منزله.
مع صوت فيروز ونهوض الراقصين ننتقل للمشهد الذي يليه، وهو مشهد ينتهي بتشكيل الراقصين الرجال لجدار منيع، تحاول الراقصات من النساء العبور ولا يستطعن، ليرفعن أيديهن في اعتراض.
لوحة العشاء الأخير
الكثير منا تابع أولمبياد باريس، وما حدث في حفل الافتتاح، عن تمثيل لوحة "العشاء الأخير" للفنان الإيطالى ليوناردو دا فينشي. اعتبر البعضُ هذا التقديم مهيناً، في حين أن ردّ آخرون على هذا الرأي بأنه ليس بالضرورة أن يكون ما حدث إهانةً لهذا العمل الفني.
بعد هذا الانقسام أتى وليد عوني في عرضه مستغلاً صدى الآراء وأن اللوحة كانت مجال الحديث في أوساط كثيرة، وبطريقة بسيطة يجعل الراقصين يمسكون نفس الملايات، التي نكتشف أن الوجه الآخر منها ملون، ويلفونها حول أجسادهم كالزي الروماني القديم، ونجد ملاءة بيضاء يتم مدها كطاولة العشاء، ونرى خلف رأس الراقص الذي بالمنتصف شاشةَ العرض تعرض هالة قدسية تجعله ممثلاً للمسيح.
هنا تحديداً سألني من يجلس بجانبي خلال العرض "ما العلاقة؟"، وعَنى: ما علاقة هذا بفلسطين؟ قد يكون هذا استغلالاً لِلترند، ومحاولةَ إعادةِ قدسية اللوحة لمكانها، لأن وجود الشيء في سياق معين هو ما يُحدث الفارق، فالطبع الاختلاف والخلاف ليس على لوحة "العشاء الأخير" التي أصبحت من الكلاسيكيات، إنما الخلاف كان على السياق الذي تم تقديم هذه اللوحة فيه خلال حفل الأولمبياد.
أما في عرض وليد عوني فقد قُدّمت اللوحة في سياق مختلف، دالة على فلسطين، الأرض التي وُلد بها المسيح. وفي مشهد آخر، جاءت صورة المسجد الأقصى في الخلفية وعلى الشاشة. وهنا إشارة إلى أهمية فلسطين للمسلمين والمسيحيين على حد سواء. وعن أهمية فلسطين تاريخياً وما مرّت به من أحداث، كمرور الصليبيين عليها، عبّر وليد عوني عن طريق ارتداء أحد الراقصين خوذة فضية ممسكاً بسيف، وأمامه من يحاربه. هنا تحديداً انتهى المشهد بصوت أم كلثوم وآهاتها في الأغنية الشهيرة التي لحنها محمد عبد الوهاب "إلى فلسطين خذوني معكم".
من التعبيرية للرمزية
في "صدى جدار الصمت" يمر وليد عوني وفرقته، على عدة مدارس فنية مختلفة؛ فشاهدنا المدرسة التعبيرية متجليةً في مشهد تتدلى فيه فساتين أعراس من شواية المسرح، ثم ترتديها الفتيات، وبعد الرقصة المعبرة عن الزواج والرومانسية ووجود علاقة حميمية، تتقدم الفتيات نحو مقدمة الخشبة وبأداء يشبه تعسر الولادة، يخرجن من بطونهن أزهاراً و وروداً بدلاً من الأطفال، تعبيراً عن أنهن يلدن "شهداء".
في حين أن المشهد الذي يليه هو كتلة من الرموز متضافرة مع الواقع؛ تظهر صور النساء الفلسطينيات الصارخات (صور حقيقية) على الشاشة الخلفية، ونرى أحدهم ممثلاً شخصاً كفيفاً يدخل بهدوء ويدور في فضاء الأحداث دون أن يفعل أي شيء آخر، وهو رمز واضح وصريح لمن يتعامون ويصمتون أمام الأحداث الضارية، في حين أن على يمين المسرح وقفت فتاة مرتدية فستاناً أخضر وتتدلى من رأسها قماشة حمراء، وهي ألوان علم فلسطين، وأمامها راقص يمثل إسرائيل التي تلقي بصواريخها، ورمزت إلى الصواريخ في المسرحية سهامُ ريش.
وفي خضم كل الرمزيات هذه، يتم الدفع بطاولتين عليهما جثتان (شاب وفتاة)، الجسد مصاب ويذهب نحو الثرى، ولكن الروح تستيقظ وتلتقي بالحبيب.
في نزهة المحاكم الدولية
على رغم أن كل لوحة ومشهد بالعرض لها أهميتها وتأثيرها المختلف، إلا أن المشهد الذي تابعنا فيه وجود خيمة تدلت من شواية المسرح بالمنتصف، والراقصون يدخلون بكراسٍ حمراء اللون يجلسون بشكل فريقين وبأيديهم أكياسٍ مادّين الأيادي لطلب الطعام، أي أبسط حقوق الإنسان، كان له تأثير مختلف وحاد علينا كمشاهدين.
صوت فيروز التي تشدو بأغنية "سافرت القضية"، عبر عما عاصرناه جميعاً، وكيف أن يتم مناقشة القضية الفلسطينية كما لو كانت مجرد نزهة أو محفلاً وليست مجازر يُطالب بوقفها. أهمية الصورة في أن الراقصين على كراسيهم بأداء الصراع الكلامي غير المسموع (أداء حركي فقط) كانوا وكأنهم السياسيون والرؤساء وهم يناقشون القضية، في حين أن نفسهم الراقصين بمدّ أيديهم لطلب الطعام وإلقائهم أوراق القضية، جسدوا الشعب المكلوم. وأمام كل هذا تدخل فتاة ترتدى فستاناً مصنوعاً من أكياس الحلوى، بيديها عربة تسوّق مليئة بمنتجات من تلك التي يجب مقاطعتها. وهنا إشارة إلى محاكمة غير عادلة لفلسطينيين لم يجدوا ما يأكلونه أو يشربونه، وحين وصلت أيديهم لشيء مما يُعد ضمن منتجات المقاطعة أكلوه وشربوه، بينما انتقدهم بعض الناس في العالم العربي.
الجميع يجري بشكل دائري حول الشجرة، تعبيراً عن تهجيرهم من أرضهم، يتوقفون إثر صوت القصف، وعلى وجوههم إمارات الفزع، وينتهي الأمر بموت الجميع، حتى الشاب الذي بقي للنهاية طالته رصاصات ليسقط جسده أرضاً
على رغم أن أغنية "سافرت القضية" هي من إنتاج عام 1968 إلا أن كلماتها عبرت عن المشهد الحالي بشكل ملموس وكأنه يحدث اليوم، مما جعلني بعد مشاهدتي "صدى جدار الصمت" أن أستمع لها مرة أخرى وأرى أمام عيني اللوحة التي رسمها وليد عوني، فالأغنية وأداء الراقصين بهذا الشكل يكملان بعضهما بعضاً.
ثلاثة مشاهد ختامية
مع كل مشهد بالعرض تظن أنه قد تم عرض كل جوانب القضية الفلسطينية، ولنكتفي بهذا القدر ونتوقف هنا، لا نريد البكاء، لا نريد التعبير عن القضية بالمبالغة في الصراخ والدموية، ولكن عوني آثر أن يعطينا شحنة مشاعر كاملة بتسلسل منطقي في المشاهد دون ضغط على المتفرجين. إضافة إلى ذلك، نجد في هذه المرحلة المتأخرة من العرض المشهدَ الذي منه تمّ التقاط صورة ملصق العرض، وهو عبارة عن اثنين من الراقصين، نصف جسدهم العلوي عارٍ، ممسكين بجرافتين ضخمتين، وفي المنتصف فتاة ترتدي ألوان علم فلسطين، نجدها تُدهس بين الجرافتين، وكأنه ما حدث لفلسطين في الواقع.
وما حدث خلال الأحداث أن صحافيين عدة قُتلوا أثناء نقلهم لمشاهد الموت، ولم يغيبوا هؤلاء عن مسرح عوني وفرقته.
يدخل الراقصون مرتدين بدلة الحماية الزرقاء المكتوب عليها "PRESS". كلٌّ منهم على وجهه كرتونة، وكل وجه من الكرتونة عليه صورة مختلفة لصحافي، في إشارة إلى أنه إن إختلفت الوجوه والأسماء، وازدادت الأرقام، فلن تتغير الأحداث، بل هي مستمرة.
وهنا نصل إلى الجدار؛ يحرّك الراقصون البانوهات التي يشبه جزءها السفلي البلوكات الخرسانية، ويضعونها بمنتصف خشبة المسرح لتقسمه طولياً إلى نصفين، يتسلقه الراقصون ويمرون من اليسار إلى اليمين لرؤية الأصدقاء والعائلات، ثم يمرون من اليمين إلى اليسار. وبعد التكرار، يتم هدم الجدار ولكن ما زال الاجتماع بالأحباب صعباً مريراً.
وفي حين أن هذه الحركة ظلت مستمرة بالخلفية إلا أن بالمقدمة كان هناك بانوهان على الشاشة، كل واحد منهما عليه صورة شجرة، وما بين الشجرتين عُلّقت أرجوحة، تلهو عليها طفلة، ما أحالني إلى مشهد في فيلم "فرحة" من إخراج دارين سلام، حين كانت فرحة وصديقتها تتأرجحان بنفس الصورة التي كانت بالعرض؛ أرجوحتان معلقتان على الشجر العتيق، وبدأت أحداث نكبة فلسطين عام 1948. مرت السنوات وها نحن اليوم نعاصر ما حدث في الماضي ولم نشهده.
على رغم قسوة المشهد الواقعي، وبراعة التعبير الفني عن هذه القسوة إلا أننا خرجنا من الأوبرا بأمل انتهاء كل هذا، لا سيما أن أغنية النهاية التي كانت لفيروز، كانت ما زالت ترنّ في آذاننا: "راجعون".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.