قد يمثّل وقت الفراغ بالنسبة للمرء خارج قطاع غزة، بعد أسبوع عمل شاقّ، وقتاً ثميناً للراحة والاسترخاء. لكن في قطاع غزة، أصبحت العطلة القسرية لعنة يوميّة بالنسبة لسكان القطاع ونازحيه، وأمراً يجعل من صوت الزنانة أكثر حضوراً وسطوة من الفراغ الذي ولّده فقدان الحياة الطبيعية والعمل والدراسة والحياة الاجتماعية.
أكثر من مليوني غزي يواجهون، على مدار عام كامل، انقلاباً في روتين يومهم. "إن وقت الفراغ الذي لا يشعر صاحبه بأنه يجلب له أي فائدة، قد يخلق نوعاً من الاكتئاب والسخط على الواقع، تحديداً عندما يكون هذا الوقت مفروضاً بشكل قسري على المرء"، تقول الأخصائية النفسية والمجتمعية نسرين يوسف لرصيف22.
على صوت الزنانة، طائرة الاستطلاع التي لا تكاد تُرى في السماء لكنها أصبحت الصوت الثابت المرافق للحرب، تجلس بسمة بخيت (19 عاماً) في ركن صغير في غرفتها لتشغل وقتها في حياكة قطعة ملابس صوفيّة لشقيقتها الصغيرة حتى ترتديها مع دخول فصل الشتاء.
تقيم بسمة بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة. ومع استمرار الحرب المستعرة، أخذت على عاتقها حياكة قطع صوفية لمساعدة الأطفال النازحين، مستثمرة وقت فراغها الطويل في حرب لا يمكن تبيّن نهايتها.
جميعنا في غزة نحب الحياة ونحتاج للفرح
وفي الوقت نفسه، تمارس بسمة هوايتها في حياكة "الكروشيه"، بعد أن أنهت مرحلة الثانوية العامة، ولم تتح لها الحرب الالتحاق بالدراسة الجامعية.
"منذ بداية الحرب توقفنا عن الدراسة والعمل. جميع مناحي الحياة في غزة تجمدت، وأصبحنا نواجه وقت فراغ طويلاً لا فائدة منه. الأمر متعب جداً يدفعني للتفكير الذي لا يتوقّف في الحرب والمجازر. لذا، قررت استثمار وقتي بفعل مفيد"، تقول بسمة لرصيف22.
وتردف: "أقضي قرابة 8 ساعات في حياكة "الكروشيه". وجدت في هذا الوقت تطويراً لهذه الحرفة وفرصة للتفريغ النفسي من ضغوط الحياة التي نعيشها في ظل هذه الحرب القاسية".
دبكة في مدرسة لإيواء النازحين
وعلى مسافة ليست بالبعيدة، في مدرسة لإيواء النازحين، تعلو ألحان الدبكة الشعبية الفلسطينية. فقد قرر مؤيد جاد الله (19 عاماً) أن يكسر ملل حياة النزوح بالدبكة.
وكان قد نزح إلى المدرسة في مخيم النصيرات قبل ستة شهور. "منذ نزوحي، أصبت بحالة اكتئاب شديد. لم تقبله الأوضاع الإنسانية الصعبة التي ترافق النزوح القسريّ الذي فُرض عليّ"، يقول مؤيد لرصيف22.
ويتابع مضيفاً: "عشت لفترة طويلة حياة روتينية مملة، ووقت فراغ يمتدّ دون فائدة. وبعد أربعة شهور، توقّفت عن الحديث مع النازحين والقيام بالأعمال اليومية التي فرضت علينا كنازحين، كاستلام الطعام، وتعبئة غالونات المياه".
ويؤكد مؤيد بأنه أصبح على درجة عالية من العصبيّة نتيجة الضغط النفسي والكبت.
"كل شيء مأسوي في حياتنا الآن فرضته الحرب علينا. لكني قررت أن أتجاوز الأمر وأقوم بفعل مثمر. فانضممت لبعض المبادرات التطوعية الشبابية، التي تعلم فنون الدبكة الشعبية"، يقول.
يقضي مؤيد نحو أربع ساعات يومياً، ينفصل فيها عن واقعه المأسويّ باستثمار وقته في شيء يحبّه. فيصفه قائلاً: "أشعر بمتعة حقيقية من قتل وقت الفراغ الطويل. وقد قررت المبادرة إلى مشروع شخصي يعلم النازحين فنون الدبكة، حتى يبقى صوتها أعلى من صوت الانفجارات والموت والإبادة الإسرائيلية".
"كيف لصوت الموسيقى أن يعلو على صوت الموت؟"
في مدرسة النزوح نفسها، تحاول عازفة الكمان سما نجم (19 عاماً) استثمار وقت فراغها في تعليم النازحين العزف على الكمان، الذي بات رفيقها القريب في هذه الحرب.
أخذت سما الكمان بعد أن كان مركونا في خيمتها التي نزحت إليها من شمال غزة إلى جنوبها لمدة 9 شهور. نفثت عنه الغبار وآثار بارود الصواريخ وقررت خلق فسحة ما من الفرح على أرض النزوح.
فبدأت بتعليم الأطفال النازحين العزف على الكمان، في ظلّ عدم وجود مساحات آمنة للعب والترفيه، وحرمانهم من حقهم في التعلم.
"في فترات النزوح الأولى، كنت أقضي ساعات طويلة مع نفسي، أستعيد ذكرياتنا في المنزل وأبكي. حاولت كثيراً أن أعزف على الكمان، لكني كنت أستهجن الأمر وتصيبني غصة كبيرة، كيف لصوت الموسيقى أن يعلو على صوت الموت؟" تتساءل سما في حديثها لرصيف22.
حاولت كثيراً أن أعزف على الكمان، لكني كنت أستهجن الأمر وتصيبني غصة كبيرة، كيف لصوت الموسيقى أن يعلو على صوت الموت؟
وتتابع: "لكني قاومت الفكرة وعدت للمحاولة من جديد. تناولت الكمان وبدأت بالعزف الذي دفعني للاستمرار به تعطش النازحين للفرح ولتجاوز الهموم. جميعنا في غزة نحب الحياة ونحتاج للفرح".
وبالإضافة إلى تعليم الأطفال العزف في مدارس النزوح، تقوم سما بتنظيم أمسيات موسيقية بين مخيمات النازحين، تعزف فيها مقطوعات موسيقية وطنية، وتراثية، في محاولة للترفيه عنهم وتقديم ما يشبه العلاج النفسي بالموسيقى للمستنزفين من الحرب، على حد قولها.
تلتقي سما يومياً الأطفال في مدارس النازحين حتى تعلمهم الموسيقى، لا سيما الذين عانون من صدمات نفسية كبيرة بسبب تعرضهم للقصف المباشر. من هؤلاء من فقد جزءاً من جسده أو فرداً من عائلته. ثم تعود لتعزف في المخيم عند المساء.
مثلّجات وكوتشينة في الشمال
في شارع "الترنس" الأكثر شعبية في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، أعاد الناس- قبل التصعيد الأخير الذي تمثّل بتكثيف القصف وأوامر الإخلاء- حركتهم في السوق، يتجوّلون للتسوّق أو تناول بعض الأطعمة الشعبيّة والمشروبات، بعد فترات طويلة من شلل في الفضاء العام جرّاء الحرب المستمرة.
وفي زاوية صغيرة في الشارع، على أنقاض محل " أبو زيتون التجاري"، يجلس حمادة يوسف (30 عاماً) وصديقه ياسر حسن (28 عاماً)، يتناولان المثلجات ويلعبان أوراق "الكوتشينه"، في محاولة للخروج من الحالة النفسية القاسية التي يعيشانها بسبب الحرب.
يقول حمادة لرصيف22 إنه كان من المفترض أن يكون الآن خارج قطاع غزة مشاركاً في إحدى الدورات التدريبية في التسويق الإلكتروني. لكن الحرب حرمته منها وحرمته من عمله في شركة متخصّصة في المجال.
الخروج للترفيه وممارسة العادات اليومية بسلام وأمان أصبح أمراً معدوماً، في ظل شعور الناس بأن ممارساتهم قد تكون ضمن لحظاتهم الأخيرة قبل أن يسقط صاروخ إسرائيلي فوق رؤوسهم ويقتلهم
"قررت أن أكف عن المكوث فوق حطام المنزل وأستسلم للإحباط. نحن نحب الحياة كثيراً، ونظرتنا للحياة لا تزال إيجابية رغم الموت والدمار في كل ناحية وشارع وزقاق بغزة. الحياة سوف تستمر بكل تفاصيلها، حتى باللعب"، يقول حمادة.
ويردف: "أجد في لعب ورق "الكوتشينة" فرصة للتفريغ النفسي مع أصدقائي، بعد أن بكينا كثيراً. ثمة منا من فقد أهله أو منزله، وآخرون نزحت عائلاتهم إلى الجنوب وظلّوا وحدهم هنا".
يؤكد حمادة أنه يجد وقت الفراغ أمراً مميتاً. "قد أموت اكتئاباً بدل الموت من القصف الإسرائيلي. لذلك، قررت تمضيته بالتسلية مع الأصدقاء، نتبادل أطراف الحديث وذكرياتنا قبل الحرب. وفي الصباح أخرج إلى "الجيم"، الذي دمّره الجيش الإسرائيلي، ولم يُبقِ فيه سوى معدات بسيطة، لأفرغ حمولتي النفسية".
الفراغ كقاتل
"وجد الغزيون أنفسهم أمام واقع مرير فرضته الحرب. فمن كان يعمل توقف عن العمل، ومن كان يدرس توقف عن الدراسة. كما أن الخروج للترفيه وممارسة العادات اليومية بسلام وأمان أصبح أمراً معدوماً، في ظل شعور الناس بأن ممارساتهم قد تكون ضمن لحظاتهم الأخيرة قبل أن يسقط صاروخ إسرائيلي فوق رؤوسهم ويقتلهم"، تقول الأخصائية نسرين يوسف.
وتوضح أن لوقت الفراغ، بالنسبة للغزيين، تداعيات خطيرة قد تعرّض الشباب والمواطنين بغزة إلى الاكتئاب الحاد الذي قد يقود إلى الانتحار.
"وفي ظل التفكير بعدم جدوى الحياة في ظل تراكم الأخبار والقتل والتدمير في كل مكان، نلحظ تبني بعض الأفراد سلوكيات عدوانية مثل العنف الأسري، خاصة مع زيادة نسب البطالة وقلة فرص العمل لكلا الجنسين"، تضيف.
وبحسب منظمة العمل الدولية، فقد بلغت نسبة البطالة بين الغزيين جراء حرب الإبادة المستمرة، 79.9%.
وشددت يوسف على "ضرورة خلق بيئة تفاعلية من مبادرات موجّهة للأطفال والكبار، وتنظيم جداول للدراسة عن بعد للطلاب، حتى يشعر الطالب بأن ثمة مستقبلاً ينتظره، وحافزاً يخرجه من حالة الإحباط التي يعيشها. قد تهتم بعض المبادرات بممارسة الرياضة واليوغا والذهاب إلى البحر كونه متنفّس الغزيين الوحيد".
في البيوت ومخيّمات النازحين ومراكز الإيواء، ثمّة مئات الآلاف من الغزيين الذين قد لا يملكون حرفة أو هواية يمارسونها، فيعيشون روتيناً يومياً قاتلاً يبدأ بالاستيقاظ مبكراً للاصطفاف في طوابير المياه، ثم الركض للحصول على لقمة العيش. روتين محفوف بخوف لا يمكن وصفه من اللحظة التي يباغتهم فيها القصف، من أمر إخلاء جديد، ومن مستقبل شديد الضبابية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.