شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
صحة الغزيّين النفسية التي غابت خلف

صحة الغزيّين النفسية التي غابت خلف "أبطال يحبّون الموت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأحد 6 أكتوبر 202412:09 م

في طريق العودة إلى البيت عبر الشريط الساحلي جنوب القطاع، أو "المنطقة الآمنة"، وبعد مهمةٍ شاقة للعثور على وسيلة مواصلات، عثرنا على سيارة أثرية. فقد استبدل سائقو الأجرة سياراتهم بسيارات قديمة تقبل محركاتها بأي نوع من الوقود، حتى لو كان زيت طهي.

وفي "شنطة" السيارة كان يجلس عدد من الأطفال. ففي الحرب، يعمد السائقون إلى استغلال أي متسع في سياراتهم وشاحناتهم لنقل الركاب. فترى ركاباً في "الشنطة"، وراكباً بجانب السائق، وآخر مستلقياً فوق غطاء المحرك.

وكان أولئك الصغار قد آثروا أن يسلّوا أنفسهم بلعبة الحروف والأسماء خلال الطريق الطويل. ثمّ سمعنا واحداً منهم يقول: "اسمٌ بحرف الخاء"؟ فأجاب آخر: "خاء... خيمة"!

نظرنا في وجوه بعضنا بعضاً. خاء خيمة إذاً.

على مدار عام كامل، وهؤلاء الصغار لم يروا شيئاً غير الخيام والمساعدات وطوابير المياه والخوف والقلق.

كنا نحدق في وجوه بعضنا ونسأل: ونحن؟ ما الذي تحطم بداخلنا؟ ماذا فقدنا أيضاً، غير اللغة والأوصاف والحياة العادية؟

لا متسع لتفقّد الصحة النفسية

بعد ما عايشه الغزيون من نزوح وتشرد، في واقع لا تكف فيه أشباح الموت عن ملاحقتهم ليل نهار، وفي ظل الحياة غير المستقرة، وحالة الفوضى التي تعيشها منطقة جنوب قطاع غزة، أصبحت الأسئلة عن الصحة النفسية والحالة العقلية للسكان والنازحين أمراً هامشياً.

وعلى الرغم من ضرورة هذه الأسئلة الملحة، سيما في أوقات الحرب والكوارث الإنسانية، إلا أنها لا تجد متسعاً في رحلة الشقاء اليوميّة لتوفير الماء والطعام والملجأ الآمن.

كنا نحدق في وجوه بعضنا ونسأل: ونحن؟ ما الذي تحطم بداخلنا؟ ماذا فقدنا أيضاً، غير اللغة والأوصاف والحياة العادية؟

ولما كانت المتابعة النفسية موضوعاً غير أساسي لدى الكثير من الغزيين قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2024- نظراً لطبيعة النظام الديني والعشائري الذي كان يسود البنى الاجتماعية في غزة، ويضع الدين في كثير من الشؤون كبديل أكثر جدوى من الحلول العلاجية العلمية- لم تنشط مراكز ومؤسسات الطب النفسي في قطاع غزة، إلا من بعض المبادرات الممولة من مؤسسات المجتمع الدولي، وبرنامج واحد حكومياً يُعرف باسم "برنامج غزة للصحة النفسية".

ثم جاء السابع من أكتوبر، وما أسفرت عنه العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة من تدمير للمنظومة الصحية بأكملها، بما لا يسمح بتشغيل مستشفياتها ومرافقها وعياداتها إلا بشكل محدود لممارسة ما يعرف بـ"طب الحروب".

ولا يشمل "طب الحروب"، بالطبع، تشغيل قطاع الصحة النفسية أو العقلية، وهو القطاع العلاجي الذي كان مهمشاً ولم يشهد أي ازدهار قبل هذه الحرب.

وعليه، فإن قطاع الصحة النفسية والعقلية في غزة يمثل حالة معقدة، سيما خلال هذا العام الذي على وشك البلوغ.

لا السكان والنازحون يجدون متسعاً من الوقت لتفقد صحتهم النفسية، فضلاً عن أن المؤسسات والمراكز والمبادرات الناشطة في المجال خلال الحرب ليست كافية.

وقد يكون البرنامج الحكومي أي "برنامج غزة للصحة النفسية" الجهةَ الوحيدة العاملة في مجال الصحة النفسية خلال الحرب -والذي يعمل بشكل استثنائي من دير البلح- بالإضافة إلى بعض البعثات التي ترافق المنظمات الطبية التي وصلت غزة خلال الحرب.

وترى د. سماح جبر مديرة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة، أن جميع الفئات في قطاع غزة من رجال ونساء ومسنين وأطفال، "متأثرون بظروف الحرب المأساوية على المستوى النفسي".

أما الأخصائية النفسية هانية عبيد فتؤكد أن الأوضاع النفسية المزرية للسكان في قطاع غزة سيكون لها انعكاسات كبيرة على المدى البعيد. ولا يمكن التنبؤ بالكيفية التي سيتعامل السكان من خلالها مع تلك الانعكاسات بعد الحرب.

إن هذا التهور الأيديولوجي، الذي جعل من الفرد الفلسطيني في قطاع غزة مجرد بيدق في ساحة معركة، نزع في حقيقة الأمر الكثيرَ من النُّظم المعرفية والنفسية من وجدانه

الاضطراب بوصفه ضعفاً في الإيمان

وتزداد مخاطر التدهور النفسي والعقلي الناجم عن الحرب المستعرة ضد قطاع غزة منذ ما يقارب العام، في ظل حقيقة أن الغزيين، في غالبيتهم، يؤمنون أن طقوس العبادة والتذوت الروحاني هي الطريق للطمأنينة والراحة النفسية وربما للعلاج النفسي.

بل يذهب الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، أي اعتبار أن الاضطراب النفسي والعقلي هو إشارة على ضعف الإيمان.

وقد ساهم النظام البنيوي المعقد لمجتمع غزة في تكريس تلك النظرة إلى الأمراض النفسية بوصفها أعراضاً تافهة لا تصيب إلا ضعيفي النفوس، غير الملتزمين بعباداتهم، أو المنحرفين عن ثقافة مجتمعهم.

وقد عزز ذلك النظام المعقد، المكون من خليط من النظم العشائرية والدينية والأبوية، الشعورُ لدى السكان في غزة بأن الحياة برمتها بلا قيمة، إن لم تكن حالة من البحث الدائم عن الانتصار والبطولة، والامتثال لأوامر رجال الدين والحكم والجهاد.

أما الالتفات إلى الفرد ومشاكله وأزماته، بما في ذلك حالته النفسية، فهو قطعاً أمر سخيف لا فائدة منه، بل يستدعي أن يراجع هذا الفرد علاقته مع الله ورجل الدين، وأقرانه "الطبيعيين" في المجتمع.

"رجال يعشقون الموت كما تعشقون الحياة"

ومن مبررات الاستهتار وتسخيف الصحة النفسية والعقلية هو اعتبار أن الفلسطيني بغزة يولد في مهمة دينية. ولسوء حظه أنه يولد ضمن معسكر "رجال شجعان يعشقون الموت"، الذي ينافس معسكر "الأعداء الجبناء عشاق الحياة".

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد استخدم هذه المفارقة بوضوح قبل بدء العملية العسكرية ضد قطاع غزة، والتي جاءت بهدف منع تكرار هجمات السابع من أكتوبر، حيث قال: "إنها حرب أنصار الموت، ضد أنصار الحياة".

وهنا انقلبت الآية، فالخطاب الذي لطالما استخدمه الإسلاميون لتجييش المشاعر، وحشد الهمم ضد إسرائيل، يستخدمه الإسرائيليون للظهور كمظلومين يحاربون قوماً "انتحاريين"، وبالتالي يحق لهم ممارسة شتى أنواع التطرف والدموية في إبادة أولئك "المعتدين عشاق الموت".

 انتهى الأمر بالغزيين كنازحين في خيام في منطقة يحددها الجيش الإسرائيلي، دون أي حقوق، مع بنى نفسية وعقلية محطمة، لا يملكون حتى رفاهية الانتباه لها.

وعلى الرغم من وضوح صورة المظلوم الحقيقي، إلا أن تهوراً أيديولوجياً مارسته الحركات الاسلامية في قطاع غزة على مدار سنين طوال، أدى إلى نسف الرواية الفلسطينية، وتقديم الذرائع للاحتلال لممارسة الإبادة دون "اعتراضات كبيرة" من الرأي الدولي.

إن هذا التهور الأيديولوجي، الذي جعل من الفرد الفلسطيني في قطاع غزة مجرد بيدق في ساحة معركة، نزع في حقيقة الأمر الكثيرَ من النُّظم المعرفية والنفسية من وجدانه.

تلك النُّظم التي لا غنى عنها من أجل بناء مواطن فلسطيني قادر على فهم عمق الصراع مع الاحتلال وحقيقته.

كما أن ذلك التهور نفى عن الفلسطيني في غزة صفة الضحية المستنزفة نفسياً وعقلياً وهوياتياً أيضاً؛ ما دفع الجمهور العربي والإسلامي إلى اعتبار الغزي "رمزاً مقدساً للبطولة الدينية والقومجية"، يُحتفل به كأسطورة، بدلاً من التضامن معه كضحية للاحتلال.

حتى انتهى الأمر بالغزيين كنازحين في خيام في منطقة يحددها الجيش الإسرائيلي، دون أي حقوق، مع بنى نفسية وعقلية محطمة، لا يملكون حتى رفاهية الانتباه لها. وقد تتوارثها الأجيال الفلسطينية في غزة جيلاً بعد جيل، بعد أن كان من الممكن والمتاح أيضاً أن تشهد غزة حياة أخرى، غير الحياة المؤقتة في مجتمعاتِ استجابة طارئة، تعيش حالة انتظار طويل لأي حل سياسي قريب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image