أكتب اليوم وأنا أعيش تفاصيل اليوم الرابع من الحرب الإسرائيليّة على جنوب لبنان ومدينة صور. لا أملك الكثير من الأدوات الشعريّة. أملك ذاكرة، إدراكاً، عاطفة، عيناً ما زالت ترى الناس وهي تنظم خوفها وصمودها على سطور الشوارع والأرصفة، وسمعاً يلاحق أصوات الناس وصراخ الأطفال.
البارحة نجوتُ من الموت. كنت وفريق قناة العربيّة نغطّي الأحداث الميدانيّة في منطقة "المساكن"، قضاء مدينة صور. كنّا على سطح أحد الفنادق نراقب القرى وهي تقاوم الحزام الناري الذي يلفّ خاصرتها. اضطررنا إلى الاقتراب من السماء إلى حدّ ما، كي نلامس الصورة الكاملة، كي نقاوم انقطاع الإرسال وتعاسة خدمات الفندق، الذي يحتضن موظفيْن لم يجيدا سوى الايماء أو الكلام باقتضاب.
الكتابة عن الأيام الأربعة مربكة، فكلّ تفصيل مهم. الثابت أنّي وأسرتي نقاوم عبر البقاء، والدي من خلال تواجده في الصيدليّة ودعمه لجميع المرضى والنازحين دوائيّاً ومعنويّاً، خالي في قسم الطوارىء الذي يرأسه في إحدى المستشفيات التي يتعرّض محيطها لجروح عصيّة حتى الآن عن التقطيب، وأنا من خلال عملي الصحفي الميداني والمكتبي والعمل الثقافي.
المياه انقطعت عن بعض أحياء صور. نختبر مع الأرض الصيام المرتجل، نختبر كباشاً مع الذلّ. هو تحدّ من نوع آخر، مبارزة على التحمّل، محاولة للابتعاد عن نارين: نار النزوح ونار الرضوخ
المياه انقطعت عن بعض أحياء صور. نختبر مع الأرض الصيام المرتجل، نختبر كباشاً مع الذلّ. هو تحدّ من نوع آخر، مبارزة على التحمّل، محاولة للابتعاد عن نارين: نار النزوح ونار الرضوخ، معظم الذين اشتهوا الحرب نزحوا هاربين، معذورين، من شدّة الخوف.
الموت خطف على الطريق أحد أوجه قرية البازوريّة المثقّفة، انقبض قلبه من شدّة التعب بعد 16 ساعة من النزوح، وابتلاع زحمة السير لهم. أهل المدينة ارتجلوا سهراتهم على كورنيش المدينة البحري، وبدأوا يتفرّجون على وهن الإسرائيليين الذين يحاربون من مسيّراتهم البرغوثيّة الخبيثة. نقاوم بالنكات وأكواب الشاي، وبعضنا من خلال نباريش النرجيلة وأغاني الزمن الجميل. ليلاً نترقب الأخبار. بعد تجربتي الميدانيّة أمس التي كلّلت بعبور صاروخ فوق رؤوسنا مستهدفاً مدخل منطقة الحوش، ومن ثم صاروخ آخر مستهدفاً المنطقة القريبة منّا. بتّ عاجزاً عن التمييز بين صوت السيارة وصوت الهواء وصوت الصاروخ الذي يكتب كالقلم على دفاتر القرى وطبيعتها الخضراء. صراخ الأطفال والنساء بعد كلّ غارة جعلني أشتم في سرّي كلّ الأطراف المتنازعة. نعم، "أنا بتاع شعر ونقد وحبّ"، كما يقال باللهجة المصريّة، لا أريد كالأغلبيّة حروباً مريبة. حبيبتي شيما كانت تحاول الاتصال بي بعد كلّ غارة. هي التي نزحت من الجنوب الى بيروت ووقّعت في الجبل مستقرّها بعد عناء مخيف مع شبحي الاكتظاظ والخوف، حين تهجّرت ولم تستطع معانقتي عناق الوداع. الحرب هذه علمتني أنّ الحبّ سلاح أبيض يرعب الصواريخ ورائحة البارود التي احتلت قرى رئتيّ، وكذلك فتات الشظايا التي غزت كالجراد عينيّ.
أكره كلّ المتحاربين، أحبّ القادة التاريخيين الذين حاربوا من أجل السلام. أحبّ محمود درويش الذي قال: "لا تندم على حرب أنضجتك". أنضجتني هذه الحرب، وجعلتني أولد من جديد، صفحة بيضاء
اليوم الرابع، أي اليوم، يسوده هدوء في صور. الناس تتبادل النكات والتحليلات، والخدمات الإنسانيّة، نازحون كثر خدموني سواء عبر وسائل نقلهم المتواضعة أو من خلال تعبيرهم عن أوجاعهم. الحال في المدارس يؤكد أنّ جميع البشر أميّون لم يدخلوا مدارس الإنسانيّة. صفوف الروضات تحوّلت لبيت لسبعة أشخاص. الحمامات صارت صحارى خالية من أي مساحة صحيّة وآمنة. الملاعب صارت ساحات لمراقبة الغارات البعيدة. كلّ وسائل اللهو والرفاهيّة تبخّرت. أستغرب كيف سيقبل الشتاء علينا وأنا لا استطيع التمييز بين صوت الرعد والجدار وصاروخ من مسيّرة؟
أكره كلّ المتحاربين، أحبّ القادة التاريخيين الذين حاربوا من أجل السلام. أحبّ محمود درويش الذي قال: "لا تندم على حرب أنضجتك". أنضجتني هذه الحرب، وجعلتني أولد من جديد، صفحة بيضاء رغم أنف نعوم تشومسكي ونقضه لهذه النظريّة. اليوم أكتب هذه المدوّنة وسأبقى نديماً لكتبي. أكتب النقد والأدب، أسمع أم كلثوم، أغازل حبيبتي أجمل النازحات، وأسخر من كلّ الشائعات.
أكتب لأنّ الحياة قطرة ندى أخرجت الغيم من حقده ورسمت الجنوب في ذاكرتي صامداً بوجه ارتجاجات القذائف وصراخ المعتدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 8 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...