حادثة تفجير أجهزة النداء (البيجر) التي وقعت في لبنان قبل أسابيع واستهدفت آلاف الأجهزة التي يستخدمها عناصر من حزب الله، والحديث عن خدعة تورّطت فيها شركة تايوانية وأخرى مجرية، أعادت هذه الحادثة للأذهان حادثة أخرى مأسوية شهدها تصوير أحد الأفلام في بيروت، في عام 1968، والذي كان يدور حول قصة مجموعة فدائيين فلسطينيين يقومون بعمليات ضمن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. كان الفيلم يتم تصويره في العاصمة اللبنانية ومناطق من جنوب البلاد نظراً لتشابه الطبيعة الجغرافية بين البلدين.
بعد فترة طويلة من التحقيقات الأمنية والقضائية، والثرثرات والتكهنات في لبنان، وجّهت أصابع الاتهام إلى الموساد الإسرائيلي بتدبيره حادثة التفجير التي وقعت في المشهد الأخير من الفيلم، فماذا حصل في ذلك التاريخ - الليلة الأخيرة من التصوير؟
إنقاذ درامي لبطل الفيلم
في حديث مع رصيف22، كان قد أجري معه قبل وفاته بأيام، قال أحد أبطال العمل، الممثل اللبناني المخضرم سمير شمص، الذي توفي في 11 آب/ أغسطس 2024، إنه من القلائل من فريق العمل الذين نجوا من الموت والحرق لأنه لم يكن في مكان التصوير وقت التفجير.
بين حادثة تفجيرات أجهزة البيجر وتفجير "المشهد الأخير" في فيلم "كلنا فدائيون" والنهاية المأسوية لفريق عمله الكثير من التشابهات وأوجه الترابط، أبرزها موقع الحدثين: لبنان، والمتهم الأول: إسرائيل، والمصير الغامض لتفاصيل القصة وملابساتها. هذا ما رواه لرصيف22 ثلاثة من أطراف الحادثة القديمة
روى سمير: "كان ذلك ليلة 5 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1968، أتذكر أنه كان يوم سبت، وكان لديّ عرض مسرحية البخيل مع الممثل الراحل شوشو وكان دوري ينتهي في الفصل الأول. فقررت الذهاب بعد انتهاء دوري لألتقي زملائي في الفيلم لأنه كان آخر يوم في التصوير. كان المشهد الأخير يُصوَّر داخل ملهى البورغاتوار في منطقة الحازمية (شرق بيروت)، ومن بعده سيحتفل جميع طاقم العمل".
شهادة الفنان سمير شمص لرصيف22 قبل وفاته.
أضاف شمص أن المشهد كان يدور حول دخول فدائي فلسطيني إلى ملهى في تل أبيب، داخله ضباط إسرائيليين، ومن ثم تفجيره انتقاماً لرفاقه الذين قتلوا على أيدي الإسرائيليين، وهو ما حصل في الواقع لا مجرد تمثيل.
عقّب الفنان اللبناني: "القدر المكتوب هو أن أبقى على قيد الحياة والسبب هو مخرج المسرحية نزار ميقاتي الذي أصرّ على بقائي حتى انتهاء الفصل الأخير من المسرحية من أجل الصعود لتحية الجمهور كما هي العادة في الأعمال المسرحية".
وأردف: "انتهت المسرحية عند الساعة الحادي عشرة والنصف من ليل السبت لأتوجّه بعدها إلى الحازمية للاحتفال مع زملائي بانتهاء التصوير. لكن، لدى وصولي إلى مكان التصوير كان المشهد مختلفاً تماماً".
قال إنه وجد سيارات الإسعاف والإطفاء تحيط بالملهى، ومجموعة كبيرة من الناس متجمهرين ونحيباً وصراخاً يملآن المكان، وجثثاً ومصابين يتم نقلهم من الداخل عبر سيارات الإسعاف والدخان يلف المنطقة. حين سأل عمّا حصل، أُخبِر أن انفجاراً ضخماً وقع في الملهى وأن معظم فريق العمل قتلوا وبعضهم أصيب بحروق بالغة.
بحسب شمص، أُصيب مخرج العمل، كاري كربيتيان، بسبب محاولاته مساعدة فريقه لكنه اختنق ومات فوراً فيما أحد أبطال العمل، الممثل سامي العطار، تعرّض لحروق بليغة ونُقل إلى مستشفى قريب لكنه ما لبث أن فارق الحياة بعد أيام فيها، وأيضاً ملكة جمال لبنان وبطلة العمل، منى سليم، تشوّهت كلياً وأصابت الحروق مساحة كبيرة من جسمها وبعد أشهر توفيت على إثر إصابتها. ولم ينجُ من الحادثة سوى الممثل سمير أبو سعيد الذي كانت مهمته تفجير الأسلحة.
تبيّن لاحقاً أن المتفجرات الخلبية التي كان ينبغي استخدامها في التفجير خلال المشهد جرى استبدالها بمتفجّرات حقيقة، ما أدى إلى هذا العدد الكبير من الضحايا (20 قتيلاً ونحو 11 جريحاً)، وفق ما ذكره لرصيف22 هوفيك غوغونيان، نجل سركيس غوغونيان أحد المصورين الذين قضوا في "المشهد الأخير".
أضاف هوفيك، الذي يقيم في فرنسا حالياً: "كنت في العاشرة من عمري في ذلك الوقت. وعندما كبرت قليلاً، أخبرتني والدتي أن صاحب الملهى جورج غصن قتل مع ابنة شقيقته الصغيرة التي كانت موجودة لأنها تحب الفنانين وأرادت رؤيتهم في الواقع خلال حفلة انتهاء التصوير. كذلك، قُتل المنتج المصري الكبير إدمون نحاس الذي كان يمتلك مع شقيقه أكبر وأهم ستديو تصوير في الشرق الأوسط - ستديو نحّاس".
وختم: "في بداية الأمر، قالوا لنا إن الحادثة ناتجة عن ماس كهربائي لكن هذا غير صحيح لأنه كانت هناك أشلاء وبقايا متفجرات. وبعد فترة طويلة، سمعنا أنه عمل مدبّر لكن ليس لديّ أية تفاصيل لأن هجرنا لبنان في منتصف الحرب الأهلية".
دولاب سيارة أنقذ علياء نمري وعائلتها
قصّة نجاة الفنانة الراحلة علياء نمري وزوجها الفنان عبدو نمري الذي كان معروفاً باسم "شرنّو"، لا تقل دراما عمّا سبق ولا عن ملابسات "المشهد الأخير".
شركة نحاس للإنتاج اتفقت مع شركة متخصصة بتصنيع المفرقعات الخلبية في إيطاليا وبأن أحدهم سرّب معلومات عن محتوى العمل الذي أثار غضب الإسرائيليين خاصة أنه كان من أوائل الأفلام العربي التي مجّدت "العمليات الفدائية" ضد إسرائيل، فاتفق الموساد مع الشركة الإيطالية لاستبدالها بمتفجرات حقيقية وعند تنفيذ المشهد يُقتل فريق العمل
روت هذه القصة لرصيف22 ابنتهما الممثلة اللبنانية القديرة ليليان نمري، موضحةً أن والدتها كانت تلعب دور أحد الفدائيين في العمل، وكان ينبغي أن تشارك في المشهد الأخير داخل البورغاتوار حيث يذهب ابنها في العمل إلى النايت كلوب فتظن أنه ذاهب لقضاء ليلة ماجنة فتلحقه وهناك يخبرها بأنه سينفذ عملية ضد ضباط إسرائيليين، لكن عطلاً في سيارة والدها كان السبب في نجاة والدتها من الموت هي ووالدها.
شهادة الفنانة ليليان نمري لرصيف22.
قالت نمري: "كانت أمي ومعها شقيقي الصغير ووالدي في طريقهم إلى الحازمية لتصوير المشهد الأخير. ولكن عطلاً طرأ على دولاب السيارة ولحين ما وجد والدي محطة قريبة لتصليحه وتركيبه كان قد مضى نصف ساعة تقريباً وكانت قد وقعت الكارثة. وصل والدي ووالدتي ليشاهدوا الدمار في المكان والضحايا يتم انتشالها، ظل هذا المشهد محفوراً في ذاكرة والدتي وفي كل مرة تتحدث عن كواليس التصوير في أعمالها تأتي على ذكر تلك الواقعة وتقول إن الدولاب أنقذ حياتها هي ووالدي وشقيقي، وكانت الحرقة كبيرة في قلبها لفقدان معظم أصدقائها وخاصة المخرج كاري كربيتيان الذي كان من المقربين لها".
ماس كهربائي أو تفجير أو صدفة؟
وفق أرشيف مجلة "الشبكة" الصادر في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1968، تضاربت الروايات والشهادات حول أسباب هذه الحادثة. فالبعض روّج أن الأمر لا يعدو ماساً كهربائياً والبعض الآخر يؤكد أنه كان عملاً تفجيرياً مدبّراً، من بينهم الراحل سمير شمص الذي رجّح - في حديثه لرصيف22 -أنها كانت عملية تفجير لعدة أسباب من بينها استمرار التحقيقات سنتين وعدم ظهور نتائج حاسمة، وكأنه طمس متعمّد للحقيقة، وأن الصحافة نشرت بعد ذلك الكثير من التحقيقات أثبتت فيها أن الشركة الإيطالية التي زوّدت شركة الإنتاج بالأسلحة الخلبية لزوم المشهد الأخير متورّطة بشكلٍ مشبوه مع جهات إسرائيلية.
قصّة نجاة الفنانة الراحلة علياء نمري وزوجها الفنان عبدو نمري الذي كان معروفاً باسم "شرنّو"، لا تقل دراما عمّا سبق ولا عن ملابسات "المشهد الأخير". روتها لرصيف22 ابنتهما الممثلة اللبنانية القديرة ليليان نمري، موضحةً أن عطلاً مفاجئاً في سيارة والدها كان سبب النجاة
رواية أخرى نشرتها مجلة "مشوار" الفنّية التي كانت من المجلات المعروفة في ذاك العصر، أفادت بأن شركة نحاس للإنتاج اتفقت مع شركة متخصصة بتصنيع المفرقعات الخلبية في إيطاليا وبأن أحدهم سرّب معلومات عن محتوى العمل الذي أثار غضب إسرائيل خاصة أنه كان من أوائل الأفلام العربي التي تمجّد "العمليات الفدائية" ضد إسرائيل لذا يُعتقد أن جهاز الموساد الإسرائيلي اتفق مع الشركة المزودة بالتفجيرات في إيطاليا لاستبدالها بمتفجرات حقيقية وعند تنفيذ المشهد يُقتل فريق العمل.
رواية "مشوار"، وصحف أخرى عديدة في حينه، تتفق إلى حد كبير مع قناعة سمير شمص التي شاركها مع رصيف22 قبل وفاته إذ اعتقد أنه حين قام الممثل سمير أبو سعيد بالضغط على الزر الخاص بالمتفجّرات كجزء من الفيلم، من موقعه في غرفة أخرى، كما تطلّب المشهد، وقع الانفجار وحصل ما حصل ما يقلل من احتمال أن الحادث ناجم عن ماس كهربائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...