لم يكن المخرج الأمازيغي، محمد بوزكو، ينتظر أن يُحدث فيلم "أنوال"، الذي يصوّره حالياً في بلدة دار الكبداني في منطقة الريف شمال المغرب، جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي بين أبناء هذه المنطقة الأمازيغية بشكل خاص، لكون الفيلم يتناول جزءاً من سيرة محمد بن عبد الكريم الخطابي (1882-1963)، الذي كان زعيماً للمقاومة في الريف ضد الاستعمار الإسباني، ويُعدّ أيقونةً عند أبناء الريف والمغاربة.
"أنوال"، اسم الفيلم الذي اشتُقّ من أكبر معارك المقاومين الريفيين بزعامة الخطابي عام 1921، عندما واجهوا جيشاً إسبانياً قوياً وبأسلحة فتاكة وهزموه هزيمةً نكراء. كتب سيناريو "أنوال"، محمد نضراني، وهو من إنتاج شركة "ثيفاوت برودكسيون"، وبدعم من المركز السينمائي المغربي (حكومي)، بمشاركة ممثلين مغاربة، على غرار ربيع القاطي الذي يشخّص دور "أسد الريف"، عبد الكريم الخطابي.
هذا الفيلم المثير للجدل، "قد يستغرق حتى سبعة أسابيع في تصويره"، كما يؤكد مخرجه بوزكو، لرصيف22، مضيفاً أنه يقف في الأساس عند مراحل مُحدّدة من سيرة الخطابي، إذ اختار السيناريست أن يتناول "الفترة الممتدة بين 1907 و1921؛ أي بين السنة التي بدأ فيها عبد الكريم دراسته في جامعة القرويين في فاس، والعام الذي انتصر فيه على الإسبان في أنوال".
خوف من تزوير تاريخ الريف
في الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الفيلم سيشكل إضافةً نوعيةً للخزانة السينمائية المغربية بشكل خاص، بعد فترة انتظار طويلة لإخراج فيلم يخلّد حرب الريف وتضحيات المقاومين ورمزية الخطابي، أبدى البعض الآخر من أبناء المنطقة تخوفهم من أن تُحرَّف الحقائق التاريخية من طرف منتجي الفيلم، وضرب رمزية محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتقديم ملحمة أنوال من منظور جهات تكنّ العداء لمنطقة الريف!
في تدوينته على موقع فيسبوك، لم يُبدِ الناشط الحقوقي، محمد أشهبار، تفاؤلاً بهذا الفيلم بالنظر إلى أن مخرجه، محمد بوزكو، "شوّه أحداث 1984 التاريخية في فيلمه التلفزي السابق ’خميس 84’، وحاول المساهمة في تزويرها"، على حد تعبيره، متوجّساً من أن يكون "الفيلم الذي يُصوّره المخرج نفسه، تزويراً للحقائق التاريخية وتشويهاً لها".
بميزانية صغيرة بدأ تصوير فيلم عن معركة "أنوال" التي هزمت فيها المقاومة المغربية الجيش الإسباني. تصوير سيرة القائد عبد الكريم الخطابي، "أسد الريف"، أثارت الكثير من الجدل. فما السبب؟
ورأى أشهبار في تدوينة ثانية، أن "من حق الناس أن تشك في فيلم وراءه مخرج أساء إلى أحداث 1984، التي لخّصها في شخصية تعاني من العجز الجنسي! من حقها أن تشك في فيلم رُخّص له من السلطات في الوقت الذي ما زالت فيه هذه الحقبة التاريخية غير مُدَرَّسة بعد في المناهج التعليمية الرسمية. من حقها أن تشك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الميزانية الهزيلة المُخصّصة للفيلم، ومن حقها أن تشك في فيلم يتم تسريب بعض كواليسه من شخص معروف بعدائه لشخصية مولاي موحند (الاسم الذي يُطلَق على الخطابي محلياً)، ولكل ما هو من آيث ورياغل (القبيلة التي ينتمي لها الخطابي)".
"خوف مردود عليه..."
لقد بدا هذا الاتجاه في الرأي لدى أطراف أخرى، موسوماً بنوع من "القسوة" على مخرج الفيلم في الدرجة الأولى، والذي لم يشفع له انتماؤه إلى المنطقة نفسها، ربما لكون الفيلم يتعلق بحدث تاريخي حساس يُتعامل معه إلى يومنا هذا رسمياً بتوجس. لكن منسق "جبهة العمل الأمازيغي" (غير حكومية)، محيي الدين حجاج، يرى أن "مسألة الخوف من تحريف تاريخ أنوال في هذا الفيلم مردود عليه، إذ إنها لا تخرج أيضاً عن أحكام القيمة".
يورد حجاج، في تصريحه لرصيف22، سببين رئيسيين في تعليل رأيه؛ "أولهما أن المسلسلات والأفلام لم ولن تكون أبداً مصدراً للتأريخ، أو تحلّ محل المصادر والمراجع التاريخية التي تختصّ وحدها في بناء المعرفة التاريخية ونقلها إلى الأجيال القادمة، وثاني الأسباب أن مسألة تحريف التاريخ لا ترتبط فقط بأنوال وحرب التحرير الريفية ضد الاستعمار، بل تتجاوز ذلك إلى مجمل تاريخ المغرب، هذا التاريخ الذي خطته أيادي المُؤدلَجين بعد سنة 1956، وقبلها، من مغاربة وإمبرياليين ومشارقة (...)".
وسجل المصدر ذاته، أن الاحتجاج من جهة أخرى على "إسناد أدوار البطولة إلى ممثلين من خارج الريف، يبقى بدوره مجانباً لأي منطق (...)، وهو احتجاج ينقلب على أصحابه قبل غيرهم"، متسائلاً: "كيف يُعقل أن يبقى تاريخ عبد الكريم الخطابي أمامهم لعقود، ولم يفكروا في إنتاجه ومنهم من هم أصحاب المال والأعمال ممن يستطيعون إنتاج أفلام (...)؟ وحين يبادر مخرج مغربي من الريف وبمعية ممثلين آخرين، لهم من المهنية والتجربة ما يجعلهم أهلاً لهذا الدور وأكثر، وبالتعاون مع مؤسسة 'المركز السينمائي المغربي' لإنتاج الفيلم، يشهرون في وجههم الأقلام الحمراء بلا موجب حق".
رفع حصار عن الذاكرة؟
في التوفيق بين الأطراف، وبشكل حذر دائماً، يعتقد الناشط الريفي، خميس بوتكمانت، أن "هناك بعض التعبيرات التي تحصر النظر إلى الحدث من زاوية القبيلة، وحالات أخرى مرضية شمولية وسيكولوجية توظف قاموس القذف والشتم والمس بالأعراض، وهي لا تحتاج جدالاً وتطرقاً، إذ إنها تسيء في الأساس إلى هذه الحقبة التاريخية التي كان شعارها توحيد الريف وإخراجه من الانشطارية والتفرقة".
شدّد بوتكمانت، في تصريح لرصيف22، على أن "الأهم ألا تكون لدينا فوبيا من التاريخ، فالتراكم نفسه الذي تحقق توثيقياً وجدالياً حول قضية الريف سيتحقق سينمائياً بعطاءات كثيرة ومتوالية، قائمة على التجويد ورفع الحصار عن الذاكرة ولو بالتدريج، بعيداً عن الجلد البينيّ وعن أي شحنات تدميرية أو انتقاص ممن يعمل وفق المتاح وفي حقل شائك".
"كيف يُعقل أن يبقى تاريخ عبد الكريم الخطابي أمامهم لعقود، ولم يفكروا في إنتاجه ومنهم من هم أصحاب المال والأعمال ممن يستطيعون إنتاج أفلام"
لهذا، وفق المتحدث، "يدشن العمل مرحلة تحطيم التابوهات السياسية سينمائياً وفق المتاح والممكن طبعاً، ومن المؤكد أنه سيكون بداية التأسيس لتراكم سينمائي يعالج تاريخنا المجيد، وهذا يُشكر عليه الطاقم المنتج والمخرج للعمل، وهذا الحدث أيضاً من المؤكد أنه سيُسائِل اهتمامنا الجمعي، وقد ينجم عن ذلك ظهور مهتمين آخرين سيشتغلون على حقل السينما التاريخية، وقد نرى أعمالاً في المستقبل باللغة الريفية وبتمويل ذاتي يفوق المبلغ الهزيل من لدن المركز السينمائي المخصص لفيلم أنوال"، كما يأمل المتحدث نفسه.
فيلم عن الخطابي... شجاعة
يبدو أن الانزعاج الواضح للكثير من أبناء منطقة الريف، ارتبط بشكل كبير بشخصية الفيلم الرئيسة؛ الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي ظل منفياً حياً وميتاً بالرغم من دعوات متكررة لنقل رفاته من مصر إلى مسقط رأسه في بلدة أجدير في الريف. لكن هل سيرة الزعيم "مقدسة" إلى هذا الحد لكي تُحدث كل هذا الجدل؟
"رفض مشروع بوزكو والنضراني المتعلق بفيلم سينمائي عن معركة أنوال، هو بمثابة مساهمة في الحصار المضروب على الخطابي، ولو من دون وعي من الشخص الرافض له"
يقول المؤرخ، علي الإدريسي: "الخطابي إنسان ورمز وطني يستحق شجاعة الشجعان لإبداء آرائهم التاريخية، والأدبية، والفنية؛ والفيلم السينمائي، مهما تكن دوافعه، وإمكاناته، وأهدافه، ينتسب إلى هذه الشجاعة".
صاحب كتاب "عبد الكريم الخطابي... التاريخ المحاصر"، يرى في حديثه إلى رصيف22، أن "رفض مشروع بوزكو والنضراني المتعلق بفيلم سينمائي عن معركة أنوال، هو بمثابة مساهمة في الحصار المضروب على الخطابي، ولو من دون وعي من الشخص الرافض له".
غير أن المتحدث نفسه، يوافق بعض الآراء على "عدم استشارة أصحاب مشروع الفيلم للمختصين في تاريخ المرحلة وتبعياتها، للاستنارة بآرائهم"، منبهاً إلى أن "جميع من له علاقة بتاريخ المرحلة يعرف أن عام 1907، انتقل فيه محمد بن عبد الكريم الخطابي للعمل في جريدة ‘تليغرامة الريف’ في مدينة مليلة المستعمرة الإسبانية"، وليس للدراسة في فاس، كما جاء في حوار للمخرج مع موقع إلكتروني.
تابع الإدريسي، أن "الفيلم التاريخي، أيّ فيلم، لا يستطيع أن يستعيد الأحداث كما يرغب فيها كل واحد من المؤيدين له، أو من ناقديه، أو من معارضيه، أو من رافضيه جملةً وتفصيلاً. ونتمنى أن تكون هناك إرادات فاعلة لصناعة أفلام أخرى بإمكانات أفضل، وبتقنيات أرقى بلا شك"، عادّاً أن "التعبيرات الهوجاء، والشعارات العاطفية، لا تغير الوضع الاجتماعي والثقافي والفكري لأي مجتمع".
"الفيلم التاريخي، أيّ فيلم، لا يستطيع أن يستعيد الأحداث كما يرغب فيها كل واحد من المؤيدين له، أو من ناقديه، أو من معارضيه، أو من رافضيه جملةً وتفصيلاً"
على هذا الأساس، "فالجدل ظاهرة فكرية مولِّدة لرؤى جديدة، واقتراح حلول يرى صاحبها، أو أصحابها، أنها الأنفع والأكثر إفادةً"، في حين أن جدل الناشطين "يذكّرنا بمصطلح الجدال، الذي لا تتوفر فيه رؤى جديدة أو اقتراح حلول بديلة، بل يكتفي المجادل بالحكم سلباً على أعمال الآخرين؛ وهذا ما يحصل لفيلم أنوال حتى قبل ميلاده"، يوضح الإدريسي.
سبق تاريخي وتمويل ضعيف
ما زال فيلم أنوال، قيد التصوير، وستتضح معالمه أكثر خلال الأسابيع المقبلة، لتكتمل الصورة حين عرضه في الصالات في نسخته النهائية التي ستكشف إلى أي حد تمكّن المخرج والسيناريت والفريق من تقديم عمل سينمائي تاريخي.
يُبرز الأكاديمي والمخرج السينمائي، عز العرب العلوي، أن "مقاربة مثل هذه الأعمال ذات حمولة تاريخية واجتماعية ونضالية، وفي بعض الأحيان حمولة روحية كذلك، تطرح الإشكال إذ تُختار شخصية مثيرة للجدل من الناحية الروحية وإلى حد ما مقدّسة، إذ ننحرف عن الفن ونصبح أمام المقدَّس؛ وهنا تتلاشى العقلانية وتحضر التصورات القبلية للعمل التي تكون محكومةً برؤية غير واقعية".
لهذا يقول العلوي لرصيف22: "أعتقد أن العمل جادّ حول بطل من أبطال هذا الوطن، لكن على مستوى الإنتاج هناك فعلاً مغامرة بغض النظر عن الشخصية التاريخية التي يتناولها الفيلم؛ إنها مغامرة مقاربة فيلم تاريخي بميزانية ضعيفة، لذلك سيكون الإنتاج غير مناسب، ولن يساعد المخرج والسيناريست والمنتج في إنجاز ما يريدونه مهما اجتهدوا، ولن يتمكنوا من تحقيق رغبات الآخرين لأن سقف انتظارهم عالٍ جداً".
على أن المتحدث نفسه أكد أنه بإنتاج فيلم عن الخطابي، "نتحدث عن سبق تاريخي في المقاربة"، مشيراً إلى أن "الفيلم سيضيف ما سيضيفه الاهتمام بكل الشخصيات المغربية التي حاربت الاستعمار من طنجة إلى الكويرة، إذ لا يمكن انتظار إضافة من نوع آخر وإلا سنكون شوفينيين. بمعنى أنه ليس هناك استثناء ويجب أن ننظر إلى مناضلينا وثوارنا وكل من ساهم في نهضة هذا البلد بشكل شمولي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع