أثارت تصريحات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يوم الثلاثاء 3 آب/ أغسطس، التي أعلن خلالها عزمه زيادة أسعار الخبز المدعوم، مخاوف من اندلاع "ثورة جياع" وتكرار سيناريو "انتفاضة الخبز" التي وقعت في عهد السادات، عقب قرارات زيادة الأسعار.
ويأتي حديث السيسي عن الارتفاع المرتقب لأسعار الخبز، الذي يعد السلعة الغذائية الأساسية في مصر، والتي تضمّ أكثر من 30 مليون مواطن تحت خط الفقر وأكثر من 5 مليون تحت خط الفقر المدقع، بعد قيام وزارة التموين المصرية بخفض وزن الرغيف المدعّم من 110 غرامات إلى 90، أي بفارق 20 غراماً للرغيف الواحد؛ وذلك في آب/ أغسطس الماضي.
ووفقاً للإحصائيات الرسمية فإن دعم الخبز بمصر يكلّف ميزانية الدولة 50.5 مليار جنيه سنوياً؛ حيث يحصل كل مواطن مصري يمتلك بطاقة تموين على خمسة أرغفة مدعومة يومياً، يدفع عن كل رغيف خمسة قروش وتتحمل الدولة 55 قرشاً. وتنتج الدولة نحو 270 مليون رغيف يومياً، يستفيد منها 71 مليوناً و479 ألفاً و859 مواطناً.
وسبق أن قامت الحكومة المصرية برفع أسعار المنتجات البترولية في يوليو الماضي؛ حيث تم تعديل سعر بيع منتجات البنزين بأنواعه، كما زادت أسعار الكهرباء.
وتأتي زيادات الأسعار في مصر وقرارات رفع الدعم في الوقت الذي يستمر فيه مسلسل إهدار المال العام وبناء القصور الرئاسية والعاصمة الإدارية الجديدة والعديد من الكباري والطرق الجديدة، في ظل استمرار سياسات الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ حيث أعلن البنك المركزي المصري، أن ديون مصر الخارجية بلغت 134.8 مليار دولار خلال الربع الأول من العام 2021.
ثورة الحرامية ومخطط شيوعي لقلب نظام الحكم
في يومي 18 و19 يناير من العام 1977، اندلعت في عدة مدن مصرية مظاهرات وأعمال شغب شعبية ضد الغلاء والإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة لتخفيض العجز، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تضمنت رفع الدعم وزيادة أسعار الغاز بنسبة 45% والخبز بنسبة 50% والسجائر بنسبة 8% والسكر والأرز بنسبة 25%.
ما أشبه اليوم بالبارحة... هل تعيد قرارات السيسي زيادة أسعار الخبز شبح "انتفاضة الخبز" ضد السادات عام 1977؟
وبدأت "انتفاضة الخبز" في عدد من التجمعات العمالية الكبيرة في شركة مصر حلوان للغزل والنسيج، والمصانع الحربية بمنطقة حلوان في القاهرة، وفي مصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة وعمال شركة الترسانة البحرية بمنطقة المكس في الإسكندرية؛ حيث خرج الناس للشوارع في مظاهرات حاشدة تندّد بالجوع والفقر وتهاجم الرئيس والحكومة.
وفي بداية الأمر تعامل الرئيس السادات بنوع من التعالي والعجرفة مع الانتفاضة الشعبية، وأطلق عليها اسم "ثورة الحرامية"، بينما خرج إعلامه الرسمي ينسب الأحداث لمخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم.
واعتقلت السلطات الأمنية حينها عدداً كبيراً من المتظاهرين والنشطاء السياسيين من اليساريين، أشهرهم زكى مراد، رفعت السعيد، عبده كراوية، أحمد فؤاد نجم، أحمد بهاء الدين شعبان، ومحمد سلماوي، كمال خليل، محمود الشاذلي، عزت عامر، فريد زهران وشهرت العالم، إلاّ أن الحكومة وجدت نفسها مضطرة للتراجع عن زيادة الأسعار أمام الضغط الشعبي، كما أصدرت المحكمة حكمها بتبرئة المعتقلين على خلفية الأحداث.
واعترف وزير الداخلية الأسبق، النبوي إسماعيل، في مذكراته الشخصية المنشورة عام 1991 أنهم نشروا قوات الأمن كلها في الشوارع، وبحلول 19 كانون الثاني/يناير، كان أغلبهم قد أُجهد وأصبح غير قادر على مواجهة الأعداد الكبيرة من المتظاهرين الذين بدأوا باللجوء إلى العنف؛ فأمر السادات بنشر الجيش، وقامت الشرطة العسكرية والقوات الخاصة وجنود المشاة بقمع المحتجين.
انتحار "الرجل المهم" ودهس "الآخر" بالجزم وهو يطالب بلقمة العيش!
وألقت انتفاضة يناير 1977 بظلالها على عدد من الأعمال السينمائية والمسلسلات التلفزيونية المصرية، ولعل أفضل من وثّق لأحداثها في السينما، المخرج الكبير محمد خان، ضمن أحداث فيلم "زوجة رجل مهم" عام 1987، وهو من بطولة أحمد زكي وميرفت أمين، وسيناريو رؤوف توفيق.
ويسلط الفيلم الضوء على مفهوم السلطة وعلاقتها بالفرد، عبر شخصية ضابط المباحث هشام (أحمد زكي) الذي استهوته السلطة، فأصبح يمارسها داخل نطاق العمل وخارجه، مسبباً الأذى والظلم لمن حوله وأولهم زوجته منى (ميرفت أمين) ووالدها وجيرانه، وانتهاء بالمعتقلين وأصحاب الرأي في مصر، إبان عهد السادات. يستمر في الترقي في عمله بفضل أساليبه العنيفة مع المتهمين، الى أن يتم تعيينه في مباحث أمن الدولة، قبل أن تتسبب انتفاضة الخبز في الإطاحة به من منصبه، إلا أنه يستمر في ممارسة القمع على زوجته منى، ويسيطر عليه وهم العودة الى منصبه حتى بعد أن يصدر حكم ضده في القضية.
ويطيح الحكم القضائي التاريخي الذي برّأ المتهمين في أحداث "انتفاضة الخبز" وحمّل مسؤوليتها للنظام السياسي، بآخر أمل لديه للعودة إلى عمله، ويسدل الستار على أحداث الفيلم بانتحار هشام، بعد أن يقتل والد زوجته في لحظة يأس، بعدما حاول عبثاً منع منى من هجره والعودة لبيت أبيها.
وتطرق أيضاً المخرج يوسف شاهين، لتلك الأحداث في فيلمه "الآخر" عام 1999. يعرض الفيلم قصة آدم، شاب مصري أمه أمريكية، يقابل الصحفية حنان ويغرمان ببعضهما، فيقررا الزواج. تعارض أمه في البداية ثم تعلن موافقتها، ويأتي على لسان بطلة الفيلم (حنان ترك) أن أباها تعرض للذل في انتفاضة يناير 1977، قائلة إنه "اتداس بالجزم وهو بيطالب بلقمة العيش".
أما فيلم "أيام السادات" 2001، سيناريو أحمد بهجت، وإخراج محمد خان؛ فقدّم عدداً من اللقطات القصيرة التي تظهر فيها أعمال العنف التي صاحبت التظاهرات في انتفاضة يناير، ليظهر الرئيس الراحل محمد أنور السادات (أحمد زكي) في المشهد التالي معلناً عدوله عن قراره بإلغاء الدعم عن السلع الأساسية الذي تسبب في إحداث الانتفاضة.
ما جرى لم يكن انتفاضة حرامية
أما فيلم "الهجامة" 1991، إخراج محمد النجار، وسيناريو أسامة أنور عكاشة، فتعامل مع أحداث "انتفاضة الخبز" بطريقة أكثر جرأة، حيث يمكن اعتباره أكثر الأفلام شمولاً في تناوله للانتفاضة.
وتدور أحداث الفيلم حول نوسة (ليلى علوي) اللصة المحترفة لسرقة الشقق، والتي تتم خطبتها لابن خالتها سيد (هشام سليم) ويشتركان في السرقات، لكن لصاً أكبر، هو المعلم عربي (حسن حسني) يهدد حياتهما. تنتهز نوسة فرصة زيارة ريتشارد نيكسون إلى القاهرة في عام 1974 لتسرق، فيقبض عليها وتدخل السجن لسنتين، ويتصادف يوم خروجها مع اندلاع انتفاضة 18 و19 يناير 1977؛ فتصطحبها الشرطة لاحتجاج طلابي لتقنع الطلاب بأن لصوصاً ومثيري شغب هم من كانوا وراء الانتفاضة.
وتأتي زيادات الأسعاروقرارات رفع الدعم في الوقت الذي يستمر فيه مسلسل إهدار المال العام وبناء القصور الرئاسية والعاصمة الإدارية الجديدة، في ظل استمرار سياسات الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ حيث أعلن البنك المركزي المصري، أن ديون مصر الخارجية بلغت 134.8 مليار دولار
ويظهر الفيلم مشاهد عنف جنود الأمن ضد المحتجين، ويتعامل أيضاً بشكل أكثر مباشرة مع شخصية الرئيس أنور السادات، وتتأزم الأحداث حين تسجن نوسة مرة أخرى بعد اعتقالها مع الطلبة المتظاهرين، ومن بينهم شقيقتها لولا (سيمون)، وهناك تكتسب وعياً سياساً لم تمتلكه من قبل، وحلماً بغد أفضل لا تضطر فيه للسرقة.
وعلى خلفية أغاني الشيخ إمام، يخصص مخرج فيلم "الهجامة" مساحة كبيرة لمشاهد تعذيب البطلة نوسة، والتي تخرج من السجن لتسلم رسائل سرية من الطالبات السجينات إلى ذويهن، لكن المخبرين يتتبعونها، فيكتشفون مخبأ أحد الطلبة الذي تجمع شقيقتها به علاقة عاطفية، فيقتل على أيديهم.
ويسلط "الهجامة" الضوء أيضاً على أحوال السجون وزيادة الوعي الطبقي والعلاقات الوثيقة بين الدولة ورجال الأعمال والاستهلاك الترفي والأثرياء الجدد وسلاطين العقارات، وحالة ذعر الطبقة العليا من وعي الجماهير.
وفي ختام الفيلم يظهر الحكم القضائي الذي صدر بحق سجناء يناير 1977، بأن ما جرى في تلك الاحتجاجات لم يكن انتفاضة "حرامية" بل انتفاضة شعبية ضد الجوع والقهر والغلاء.
عودة الوعي
تدور أحداث رواية "مالك الحزين" للروائي إبراهيم أصلان، في ليلتي 18 و19 كانون الثاني/يناير عام 1977، وتركز على المهمّشين في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي؛ حيث يسرد الراوي أن سكان إمبابة المطحونين لا يتوقفون مجرد لحظة للاحتفال، تجاهل فيلم "الكيت كات" للمخرج داوود عبد السيد، الذي أُنتج عام 1991، والمقتبس عن الرواية نفسها، سياقها، ولا يتطرق مباشرة للمظاهرات أو السياسة، لكنه يشير إليها عبر تقديمه لشخصية الضرير العاطل عن العمل (محمود عبد العزيز) ومدى فقره، ويظهر أيضاً الارتفاع الشديد في الأسعار وفرص العمل في الخليج، وتحويل المنازل القديمة إلى أبراج سكنية فخمة.
"بدل ما تدبوا في بعض، روحوا دبّوا في الحكومة"... السياسات المالية لنظام السيسي والاقتراض أوصلت أكثر من 30 مليون مصري إلى خط الفقر
كما قدّم المخرج طارق العريان في المشاهد الافتتاحية لفيلمه "الإمبراطور"، الذي أُنتج عام 1990، انتفاضة عام 1977 وعناوين الصحف التي تزعم اختراق المخربين لصفوف المتظاهرين.
وخلال أحداث الفيلم يجري اعتقال البطل زينهم (أحمد زكي) ويجري التحقيق معه، هو والشخصيات الأساسية في الفيلم، من قبل الجهات الأمنية، حيث تجبر الشرطة زينهم على الاعتراف بأنه كان يسرق خزينة ملهى ليلي، وحين يرفض، يُعتقل كسجين سياسي.
ورغم عدم تطرق المخرج عاطف الطيب لانتفاضة الخبز بشكل مباشر، في فيلمه "البريء" عام 1986، إلا أنه قدّم أوضاع المعتقلات السياسية في تلك الفترة، مستعرضاً أبشع أساليب القسوة والتعذيب المستخدمة بحق أصحاب الرأي من الطلاب والشيوعيين والكتّاب اليساريين والمجندين المحتجّين، وكيف يجري اختيار مجندي قوات الأمن المركزي، وترويضهم وتدريبهم، ثم وضعهم وجهاً لوجه أمام الجماهير للبطش بهم، إمكانية انتقال المجند من حالة غسيل المخ إلى الوعي بما يتعرض له من قمع.
"بدل ما تدبوا في بعض، روحوا دبّوا في الحكومة"
أما فيلم "الفاجومي" للمخرج عصام الشماع، الذي أُنتج في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، فيقدم سيرة ذاتية لشاعر العامية المصري أحمد فؤاد نجم، توضح تأثير أشعاره التي تحولت لأغان للشيخ إمام، باحتجاجات انتفاضة الخبز، ويظهر الفيلم الاعتقالات العشوائية التي جرت في عام 1977.
ويظهر "الفاجومي" كذلك أجواء التوتر بين الشعب المصري بشأن أسعار السلع الأساسية، حيث يشتبك سكان الحي الذي يعيش به الشاعر أحمد فؤاد نجم في مشاجرة، ثم يظهر رجل يدعوهم إلى توجيه غضبهم نحو الحكومة، قائلاً: "بدل ما تدبوا في بعض، روحوا دبّوا في الحكومة"، ثم يقدم مخرج الفيلم مشاهد أرشيفية من الاحتجاجات، على ألحان الشيخ إمام وكلمات نجم.
وسلط المخرج الضوء على لامبالاة الإسلاميين بانتفاضة الخبز، بسبب الوضع الاجتماعي والمالي المرتفع الذي حصلوا عليه في عهد السادات، عبر تقديمه لأسرة كانت علمانية، قبل أن تتحول إلى امرأتين ترتديان الحجاب ويتحكم فيهما رجلان ملتحيان ثريان، يهددان بطل الفيلم بالاعتقال.
في النهاية تبقى تلك الأفلام في ذاكرة الأجيال، شاهداً على حقبة مهمة من تاريخ مصر الحديث؛ حيث انتفاضة الخبز عام 1977، تعد حدثاً فارقاً وجوهرياً باعتبارها انتفاضة شعبية وحّدت الشعب المصري للمرة الأولى منذ ثورة 1919، على هدف واحد وشعارات محددة، كما تبقى الانتفاضة إياها كشبح يهدد أي نظام سياسي تسول له نفسه بالاقتراب من لقمة العيش وقوت الغلابة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.