"عبر القنوات الخلفية، تؤشر جولات المحادثات السرية التي جرت بين إيران والولايات المتحدة إلى أن براغماتية الطرفين تتغلب على الأيديولوجية"، بحسب شابنام هوليداي، أستاذ مشارك في العلاقات الدولية، في جامعة بليموث. لكن تجاوز البراغماتية حد التضحية أو بالأحرى التفريط في الأذرع الداعمة للأيدلوجية الإيرانية الإقليمية، أصاب المراقبين بدهشة بالغة، وفرض إعادة النظر في أجندة السياسات الإيرانية، واختبار مدى تمسُّكها بمبادئ كلاسيكية وسط تحولات إقليمية مضطربة.
ربما يعكس الواقع تنامي التخلِّي الإيراني عن رؤوس حربة "محور المقاومة"، لصالح صفقات مع الولايات المتحدة، شهدت عليها طاولات الوساطة العُمانية غير مرة (منذ أيام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما)، بحسب صحيفة "فايننشال تايمز". وعساه ألمح إلى ذلك نائبُ المتحدث بلسان الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل بقوله: "إدارة بايدن لديها طرق للتواصل والتأثير على إيران عند الضرورة". وفيما رفض البيت الأبيض التعليق على محادثات عُمان، هادن باتيل حكومة طهران بقوله: "الولايات المتحدة لا تعتقد أن المرشد الأعلى الإيراني قد اتخذ قراراً باستئناف برنامج التسلح الذي نحكم على إيران بتعليقه"، بحسب موقع "أكسيوس".
ووسط تعتيم على إدارة محادثات عُمان، وممثلي الطرفين فيها، قالت الصحيفة البريطانية، إن مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك ومبعوثه الخاص إلى إيران أبرام بالي، ترأسا الوفد الأمريكي، بينما قاد الوفد الإيراني، نائبُ وزير الخارجية علي باقري كَني، وهو أيضاً كبير المفاوضين النوويين لدى طهران.
وكفلت براغماتية إيران ذات الصلة بنظيرتها الأمريكية تكبيل حزب الله، لا سيما عند احتدام المواجهة مع إسرائيل؛ فبينما طالب أمينه العام حسن نصر الله، إيرانَ، بشنّ هجوم على إسرائيل، رفضت حكومة طهران تجاوباً من الطلب بداعي أن "هجوم إيران المباشر على إسرائيل قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، وقد يجر الولايات المتحدة إلى قتال أكثر نشاطاً"، بحسب موقع "إكسيوس"، الموقع المقرب من دوائر استخباراتية في واشنطن وتل أبيب. الأكثر من ذلك هو توصية إيران حزبَ الله بعدم استخدام ترسانة أسلحته الصاروخية المتطورة ضد إسرائيل، لحين إشعار آخر.
كفلت براغماتية إيران ذات الصلة بنظيرتها الأمريكية تكبيل حزب الله، لا سيما عند احتدام المواجهة مع إسرائيل؛ فبينما طالب أمينه العام حسن نصر الله، إيرانَ، بشنّ هجوم على إسرائيل، رفضت حكومة طهران تجاوباً من الطلب بداعي أن "هجوم إيران المباشر على إسرائيل قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة
إدارة القنوات الدبلوماسية بجانب الردع العسكري
"التوقيت ليس مناسباً لشن هجوم على إسرائيل، لأن الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان موجود حالياً في نيويورك لحضور فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة"؛ قبل أيام من اغتياله في ضاحية بيروت الجنوبية، تلقى زعيم حزب الله حسن نصر الله هذه الرسالة، وتابع لصاحبها عبر شاشات التلفاز مؤتمراً صحافياً من نيويورك: "إسرائيل هي الطرف الذي يسعى إلى حرب أوسع في المنطقة". وشدَّد على أن إيران لا تريد الوقوع في هذا "الفخ". تناغماً مع التصريح، رد مسؤول إسرائيلي كبير بعد المؤتمر: "توجيهات مجلس الوزراء الإسرائيلي الموجهة إلى الجيش، تهدف إلى تفادي الخطوات التي يمكنها منح إيران سبباً أو ذريعةً للانضمام إلى القتال"، وفق تقرير الموقع الأمريكي.
ولا يغاير موقف إيران من حزب الله نظيراً مع حماس، حين وجه المرشد الإيراني علي خامنئي رسالةً واضحة لرئيس مكتب حماس السياسي إسماعيل هنية، خلال لقائهما في طهران، أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، قائلاً إن "حماس لم تبلغ إيران بهجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على إسرائيل، ومن ثم لن تخوض طهران حرباً بالنيابة عن حماس".
استبق الموقفان الإيرانيان وغيرهما اتصالات مع واشنطن عبر قنوات خلفية في العاصمة العمانية مسقط. وحسب تحليلات نشرتها صحيفة "فايننشال تايمز"، ألقت المحادثات الضوءَ على كيفية إدارة بايدن للقنوات الدبلوماسية مع خصمها، إلى جانب الردع العسكري، في محاولات تهدئة المواجهات الإقليمية المسلحة، التي اندلعت على خلفية الحرب في قطاع غزة، وشاركت فيها الجماعات المدعومة من إيران.
البراغماتية حررت رقبة الدولة الفارسية من خناق العقوبات
تزامناً مع فتح قنوات التواصل بين واشنطن وطهران، حامت جهود الخلاص الإيرانية من قيود العقوبات الاقتصادية المفروضة، وحررت واشنطن من جانبها رقبةَ طهران من الخناق. وفي شباط/فبراير 2022، سمح الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ"إعفاءات من العقوبات" بداعي دعم المحادثات غير المباشرة حول إحياء الاتفاق النووي مع طهران.
وفي تموز/يوليو 2023، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الإفراجَ عن الأصول الإيرانية لدى العراق، بعد لقاء مع نظيره العراقي فؤاد حسين في الرياض، وهو ما مكَّن العراق من سداد جزء من ديونه المليارية مقابل الغاز الطبيعي الذي يستورده من إيران. وفي آب/أغسطس 2023، منح بايدن النظامَ في طهران إمكانيةَ الوصول إلى حوالى 6 مليارات دولار من العملات الأجنبية النفطية. وكانت الأموال في حساب مصرفي مجمد لدى كوريا الجنوبية. في المقابل، تم إطلاق سراح خمسة رهائن أمريكيين لدى إيران.
وفي آذار/مارس 2024، سمحت واشنطن مرة أخرى لإيران بالوصول إلى عشرة مليارات دولار أمريكي، حسب موقع إذاعة (DW). واعترف مصدر إيراني مطلع لوكالة أنباء "إيرنا" بأن المباحثات مع الوفد الأمريكي اقتصرت على رفع العقوبات عن طهران، ونقلت الوكالة عن الشخص ذاته: "رفع العقوبات القمعية كان دائماً على رأس أولويات الجانب الإيراني. الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستمرة في هذا المجال".
وعند الإجابة على سؤال: أين تكمن الخطوط الحمراء لدى حزب الله وإيران؟ تفاقمت دهشة المراقبين، لا سيما مع تأكيد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في الأمم المتحدة، أن حزب الله "قادر تماماً على الدفاع عن نفسه وعن لبنان والشعب اللبناني". فيما تبني الرئيس مسعود بيزشكيان موقفاً، وصفه المراقبون بـ"المهادن"، معلناً قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة "عصراً جديداً"، تلعب فيه إيران "دوراً بناءً" على المستوى العالمي. وقبل اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، قال المرشد الإيراني على خامنئي: "استشهد بعض الأعضاء الفاعلين في حزب الله، لكن هذه لم تكن الخسارة التي يمكن أن تجعل حزب الله يركع على ركبتيه".
بعيداً عن صخب سياسات إيران البراغماتية، والغرق في تكهنات عودة حكومة طهران للحزب (إذا كانت قد تخلّت عنه فعلياً بلغة المصالح)، يعيد الحزب رصّ صفوفه "منفرداً" عبر استدعاء جنوده وضباطه من ساحات إقليمية، لا سيما سوريا، التي أغلقت مكتب التطوع في الحزب على أراضيها
ارتباك في تقدير الموقف إزاء ابتعاد طهران عن حزب الله
ويرى محللون ودبلوماسيون أن تركيز إيران على المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وترددها في التدخل على الأرض، يظهران مدى محدودية خياراتها العسكرية المتاحة لإعادة الردع أمام إسرائيل بعد عام من الأعمال العدائية المتزايدة في المنطقة، حسب صحيفة "واشنطن بوست".
وتنقل الصحيفة الأمريكية جانباً من ارتباك تقدير موقف المراقبين إزاء إيران، مشيرة على لسان سامي نادر، مدير معهد العلوم السياسية بجامعة القديس يوسف في بيروت: "هذه ثلاثة عقود من الاستثمار. إيران لن تلقي بحزب الله تحت الحافلة عند أول فرصة". وإذا لم تشارك إيران بشكل مباشر في حرب تموز عام 2006، عندما خاضت إسرائيل حرباً مدمرة مع حزب الله، لكنها ساعدت في إعادة بناء الجماعة وإعادة تسليحها بعد الصراع. ومن المرجَّح أن تفعل ذلك مرة أخرى، بالاعتماد على قدرة حزب الله على الارتداد، كما فعل في الماضي.
ولا يعتقد علي فايز، مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية، إمكانيةَ تدمير حزب الله، وقال لـ"واشنطن بوست": "الحرب، حتى ولو كانت صراعاً كاملاً، من شأنها أن تضعف حزب الله وتستنزف بعض موارده، لكن من الممكن إعادة بناء الجماعة". وبرغم خطورة العمليات التصعيدية في لبنان، إلا أن فالي نصر، الأستاذ والعميد السابق في كلية "جونز هوبكنز" للدراسات الدولية المتقدمة، يرى أنه "لا أحد يعرف حتى الوقت الراهن أين تكمن عتبة ضبط النفس لدى حزب الله أو إيران".
يرى رام ممتاز، الخبير في شؤون حزب الله، أن "هذه هي اللحظة الأكثر حسماً بالنسبة لحزب الله منذ تأسيسه قبل أربعة عقود"، ويضيف أن "الحزب ليست لديه خيارات جيدة".
حرب الاستقلال الأمريكية وبحث إيران عن هوية وطنية
في المقابل، لا يؤمن فريق آخر من المراقبين بغير براغماتية الموقف الإيراني عند التعامل مع الغرب. وفي دراسته المنشورة في مركز The Conversation، يؤكد شابنام هوليداي، أستاذ مشارك في العلاقات الدولية، بجامعة بليموث، أن "الطرفين الأمريكي والإيراني يتحدان في هدف الخروج بانتصار سياسي عندما يكونان في أمسّ الحاجة إليه؛ فالمحادثات السريَّة التي جرت بين الجانبين لحلحلة أزمات إقليمية، مثيرة للدهشة. المؤكد أن البلدين كانا خصمين لدودين لعقود من الزمن. كيف يمكن مشاركتهما في مفاوضات بناءة دون مصلحة مشتركة!؟".
وربما جنحت إيران إلى البراغماتية ذاتها حين سعى محمد خاتمي الذي انتخب رئيساً لإيران عام 1997 إلى إخراج البلاد من عزلتها عن النظام الدولي، التي اتسمت بها منذ ثورة 1979. حينئذ اعتبر خاتمي في خطابه أن "الحوار جزء لا يتجزأ من أيديولوجية الجمهورية الإسلامية، واستند في خطاب "حوار الحضارات" أمام الأمم المتحدة عام 1998 إلى مناقشات فكرية حول أهداف الثورة الإسلامية وإصلاح الجمهورية الإسلامية. وأوصى حينها بإعلانِ عام 2001 عامَ الحوار بين الحضارات، وهو الاقتراح الذي تمت الموافقة عليه بالإجماع من خلال تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي عام 1998، خاطب خاتمي الشعبَ الأمريكي عبر قناة CNN، واعتبر خطابه جزءاً من هذا الحوار، حتى أنه عقَدَ مقارنة بين حرب الاستقلال الأمريكية وبحث إيران عن هوية وطنية، قائلاً: "إننا نشعر أن ما نسعى إليه هو ما كان يسعى إليه مؤسسو الحضارة الأمريكية قبل أربعة قرون. ولهذا السبب نشعر بتقاربٍ فكريّ مع جوهر الحضارة الأمريكية".
وفي عام 2001، أدان خاتمي هجمات 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية. وتحت إشرافه، وقّعت إيران أيضاً اتفاقًا سرياً لتقديم المساعدة للقوات الأمريكية في حملتها ضد طالبان في أفغانستان خلال العام نفسه. وعلى النقيض من أحمدي نجاد، روَّج حسن روحاني (رأس إيران بين عامي 2013 و2021) لسياسة "المشاركة البناءة". وقد ساهمت سلسلة من الاجتماعات السرية بين إدارتي أوباما وروحاني في التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني في تموز/يوليو 2015). وقد أدى ذلك إلى تقييد البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات الموعود.
يرى محللون ودبلوماسيون أن تركيز إيران على المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وترددها في التدخل على الأرض، يظهران مدى محدودية خياراتها العسكرية المتاحة لإعادة الردع أمام إسرائيل بعد عام من الأعمال العدائية المتزايدة في المنطقة
اللحظة الأكثر حسماً بالنسبة لحزب الله منذ تأسيسه
وبعيداً عن صخب سياسات إيران البراغماتية، والغرق في تكهنات عودة حكومة طهران للحزب (إذا كانت قد تخلّت عنه فعلياً بلغة المصالح)، يعيد الحزب رصّ صفوفه "منفرداً" عبر استدعاء جنوده وضباطه من ساحات إقليمية، لا سيما سوريا، التي أغلقت مكتب التطوع في الحزب على أراضيها. ورأى رام ممتاز، المحلل الأمني في مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي والخبير في شؤون حزب الله، أن "هذه هي اللحظة الأكثر حسماً بالنسبة لحزب الله منذ تأسيسه قبل أربعة عقود"، وأضاف أن "الحزب ليست لديه خيارات جيدة".
ووفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال"، فمن المرجح أن تكون "الحرب الشاملة"، مثل تلك التي خاضها حزب الله مع إسرائيل في عام 2006، مدمرةً بالنسبة للبنان، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وإضعاف التأييد اللبناني للحزب. وبحسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية عن مصادر مقربة من حزب الله، يسود الخلاف بين مسؤولي الحزب، لا سيما بعد اغتيال الأمين العام حسن نصر الله حول كيفية الرد على الهجمات الإسرائيلية. ويسود الاعتقاد حول حذر حزب الله للغاية إزاء تصعيد الصراع، خاصةً في ظل فتور الموقف الإيراني.
برغم ذلك، يؤكد تقرير الصحيفة أن الصورة لا زالت ضبابية، وليس من الواضح إلى أي مدى تضررت أسلحة حزب الله بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة. دانييل بايمان، زميل بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، والمعد المشارك في دراسة حديثة حول ترسانة حزب الله يقول: "أعتقد أن إسرائيل ألحقت الضرر بقدرة حزب الله العسكرية، على الأقل مؤقتاً، وجعلت من الصعب الردّ بشكل متماسك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.