شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف لم يخطر لكم أن تشتموا بعضكم بـ

كيف لم يخطر لكم أن تشتموا بعضكم بـ "ابن مجرم الحرب"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 30 سبتمبر 202411:05 ص

لو درسنا في المرحلة الابتدائية في مادة الدين أن قصص الصالحين هي مجرّد مجاز لزرع القيم، وأنها نادراً ما تثمر. لو درسنا في اللغة العربية أن العرب ليسوا إخوة إلا في الشعر. لو درسنا في الرياضيات أن لكل قاعدة شواذ، وأن واحداً زائد واحد لا تساوي اثنين، بل تساوي صفراً، إذا كان طرف المعادلة روح إنسان ضعيف، وتساوي ملايين الأرواح إذا كان طرف المعادلة قوياً.

لو درسنا في الجغرافيا أن الوطن العربي لا حدود له إلا على الخرائط. لو درسنا في التاريخ أن الحرب ليست وحدها الخدعة، بل السلطة في كل الأزمنة هي تطوّر لممارسة الخدع والتفوق فيها.

لو درسنا في الاجتماعيات أنه لا عدل إلا على الورق للحفاظ على المظهر. لو درسنا في العلوم أن هناك فصولاً سوداء دامية لا تنتهي، وأن هناك خريفاً لا ربيع بعده، وأن هناك زمناً يتوقف عند أصحابه، وأن هناك عواصف لا مبرّر علمي لها. لو درسنا في الفلسفة أن الغاية تبرّر الوسيلة، ولا فلسفة أخرى عند البشر غيرها.

لو فعلنا كل هذا، لما كنا صدّقنا قصة فداء الله لنبيه إسماعيل بكبش من السماء حتى لا يذبح وتسيل دماؤه ودماؤنا تسيل، وما كنا صدقنا أن يوسف خرج من غياهب الجب إلى كنوز مصر لأنه صبر على الظلم وغفر حقد إخوته الأعداء، وما كنا صدقنا أن فرعون، بجبروته وقوته، تجمّد في البحر بسبب إيمان أعدائه وحماية الله لهم، فجاء إيمانه من نفس موطن فجره. ما كنا صدقنا أن مريم عذراء وعيسى روح من الله، وأنها سيدة المعجزات قديسة وليست مجرّد امرأة قادرة على التلاعب بعقول لا مكان للمنطق فيها.

كنت أنتظر مع جارتي السورية أي خبر عن أولادها الأربعة الهاربين من الحرب عبر البحر إلى إيطاليا. غابت أخبارهم لأسبوع منذ أن ابتلعهم القارب البالي. كانت عيون جارتي مثل عيون الدمى؛ جامدة وخالية من أي مشاعر، حتى من الخوف والقلق

أريد حلاً

أنا الآن في الثلاثين من عمري. قرأت عن الحرب والسياسة وما ينتج عنهما في الروايات وكتب التاريخ والجرائد، وشاهدتها في الأفلام والمسلسلات والأخبار. أنا الآن، مع كامل احترامي لكل شيء، لا أريد المعرفة، لا أريدها أبداً. لم أعد أطيق جملة "المعرفة الجيدة نجاة". هذه كذبة. ولم أعد قادرة على التفكير بفلسفة لأجد إجابات للأسئلة التي تخنقني. فلو كان هناك جواب، لمات السؤال، قبل أن يكبر داخلي ويصل إلى حلقي وينام فيه بالعرض. أنا الآن أريد حلاً.

في عام 2013، كنت أنتظر مع جارتي السورية أي خبر عن أولادها الأربعة الهاربين من الحرب عبر البحر إلى إيطاليا. غابت أخبارهم لأسبوع منذ أن ابتلعهم القارب البالي. كانت عيون جارتي مثل عيون الدمى؛ جامدة وخالية من أي مشاعر، حتى من الخوف والقلق. كانت تأكل وتشرب وتدخّن وتنام وتشاهد المسرحيات وتتحدّث عن أي شيء، إلا احتمال موت أو نجاة أولادها أو الحرب. كان هذا هو أكثر المشاهد السوداوية عن الحرب التي حضرتها في حياتي؛ مشهد أسود أكثر من كل مشاهد الحرب التي تبثّها القنوات ليلاً ونهاراً. يومها، كان سكونها هذا يخيفني عليها، ويثير بشكل طفولي أسئلتي: هل نسيت أن لها أربعة قلوب داخل مركب متجه نحو المجهول للنجاة؟

لكنني اليوم، وأنا أشاهد المجازر التي لا تنتهي حولي، أصبحت عيناي هما عيناها؛ عيون دمى خالية من أي حياة أو مشاعر. ففهمت، فهمت ما هو العجز. فهمت أنها كانت عاجزة لدرجة أن العجز سرق روحها منها، سرق خوفها وأملها. العجز، وهو شيء أكبر من فقدان الأمل، شيء جعلها مجرّد آلة تتكيف مع أي وضع. إن وصل أولادها، فلا بأس، وإن لم يصلوا، فهذا المتوقع. أعتذر لها اليوم عن شكّي في قواها العقلية وأمومتها، فقد كنت مجرّد طفلة بلهاء، فأي عقل، وأي أمومة، وأي إنسانية تلك التي يمكن أن تصمد وتنتصر أمام جنون الحرب وعبثها؟

أسخر من نفسي حين كنت أردّد بصدق، وأنا صغيرة، وراء جوليا بطرس "وين الملايين"، ووراء أصالة "فلسطين عربية عربية"، ووراء عمرو دياب "القدس دي أرضنا"، ومع أوبريت الضمير العربي "ماتت قلوب الناس". أريد حلاً، لا فلسفة ولا أغاني. الحرب تعني أنك تحمل جثة متعفنة معك أينما ذهبت حتى تصبح مثلها، متعفناً ومتآكلاً، أن تكون منكوباً يعني أنه لا سفينة لأجلك حتى آخر لحظة في عمرك، فالحرب هي تحويل البشر إلى أرقام على سجلات حصر الضحايا أو أرقام على قوائم اللاجئين. سألني صديقي: "أي رقم منهم تفضلين لو عشتِ حرباً؟"، أجبته بمثل كانت تقوله جدتي دائماً: "الضيف ثقيل مهما كانت ظروفه، وثقيل مهما كانت غلاوته".

أسخر من نفسي حين كنت أردّد بصدق، وأنا صغيرة، وراء جوليا بطرس "وين الملايين"، ووراء أصالة "فلسطين عربية عربية"، ووراء عمرو دياب "القدس دي أرضنا"، ومع أوبريت الضمير العربي "ماتت قلوب الناس". أريد حلاً، لا فلسفة ولا أغاني

وأنا أتفق، فالموت أهون من حملي لجثة متعفنة، فكل شيء حولي سيجبرني على التحوّل لها، بدءاً من الخيمة المطوية التي سأجد نفسي فيها بمفردي إن كان حظي جيداً، أو البلد الغريب الذي سأصبح ضيفته الدخيلة المتهمة دائماً حتى تثبت براءتها، لأنني مشرّدة همجية، ومطمعها أرخص سلع الاستغلال في أسواقها، وهذا في حال كان حظي ممتازاً.

الحرب هي المعادلة الوحيدة التي ليس لها حل إلى اليوم، في كل المعادلات وفي كل الفلسفات وفي كل التجارب. الحرب لا تحتاج خيارات، الحرب تحتاج إلى حل، وعقلي الآن يريد حلاً. هذا ما تفعله بنا جميعاً الحروب، تحولنا إلى لا شيء. المقصوف يتحول جثمانه إلى تراب ثم إلى لا شيء، والآمن الذي يشاهد من بعيد يمتلئ بغضب من هذا التراب، فيتحول هو الآخر إلى لا شيء". اعترض صديقي وقال: "نحن شيء، لكنه شيء عاجز". فقلت: "العجز هو آخر مرحلة يصل إليها الإنسان في رحلة ضعفه، لأنه لا يليق بأي شيء حي، لا يليق إلا بالجماد. لذلك أقول لك إننا لا شيء، وأنا أقولها بفم ممتلئ".

كذبت الشعارات وان صدقت

أشعر اليوم أنني غاضبة من جورج أورويل أكثر من غضبي من جورج بوش طوال سنوات فجوره. فعودتي لكتابه هذه المرة كانت بحثاً عن إجابة لما يحدث، لأخرس بها أسئلتي. فقد صدقت الكتب أكثر من القبح الموجود في العالم، وأظن أن هذه مشكلتي وحدي. لذلك، أعتذر لك يا جورج وأدين الحرب، وأود أن أؤكد أنني أرسل تحياتي لفرانز، لأنه كان قادراً دائماً على إشباعي بالإجابات. وبعد التحية، أريد أن أخبره أن اليوم، في الحرب، كل من لا يملكون القوّة يتحولون إلى حشرات تُباد. لذلك، لن أعتذر منك يا فرانز كما اعتذرت لجورج، لأن رؤيتك كانت رحيمة. سامحني وادِن معي الحرب.

يا أحبائي المؤثرين العظماء، أياً كانت مهنتكم، سوّد الله وجوهكم ووجهي إن أثّرتُ في أحد يوماً بعسل كلامي. كم كذبت كلماتكم وإن صدقت. كذبتم في أن عصور المجانين قد مضت، وأن الحكام اليوم أصبحوا بلا نزوات تجعلهم يغامرون بأرواح شعوبهم من أجل ربح الجولة، وأن المعرفة والعلم والديمقراطية وحقوق الإنسان والقوانين أصبحت بالمرصاد للمخربين، وأن الفنون أصبحت تحكم وتتحكم في روح الإنسان، وأن فلسطين مستعمرة لأنها في ابتلاء، وهذا قدرها منذ وُجدت.

أريد اليوم منكم مبرّراً لما يحدث في كل الخريطة العربية، وإلا لن أسامحكم يوم تجتمع الخصوم. هل كان على السودان نذرٌ لم تفِ به فسُخِطت؟ هل جمال سوريا هو كل رزقها في الحياة، ومن العدل أن تصبح مهمومة مخذولة تحت قاعدة "لا أحد يأخذ كل شيء"؟ هل تمرّد لبنان على نعمة الأمان حين تذمّر من غياب الكهرباء، فابتلاه الله بالحرب ليزهد، لأنه سيصبح مقاماً للدراويش كما وُعِد؟ هل كان العراق رجلاً ثم تحول إلى امرأة ليمارس الدعارة، فأرسل الله له جيوشاً من المغتصبين؟

الحرب تعني أنك تحمل جثة متعفّنة معك أينما ذهبت حتى تصبح مثلها، متعفّناً ومتآكلاً، أن تكون منكوباً يعني أن لا سفينة لأجلك حتى آخر لحظة في عمرك، فالحرب هي تحويل البشر إلى أرقام على سجلات حصر الضحايا أو أرقام على قوائم اللاجئين

التحول إلى اللا شيء

أيها الشعراء الأغبياء، يا من شَبّهتم الأوطان المسلوبة بالنساء، لأن النساء هن دائماً من يُغتصبن في الحروب. أحب أن أخبركم اليوم، بكل أسف، أن رؤيتكم التي كانت عابرة للزمن أصبحت ساكنة وفي مرحلة التلاشي. فاليوم تُغتصب النساء والأطفال والرجال والحيوانات، والنباتات إن أردتم.

أيها المطربون أصحاب أوبريت "الحلم العربي"، أتمنى أن تكونوا قد استلمتم مستحقاتكم المالية كاملة في ذلك الوقت، وليس لديكم أي مبلغ مؤجّل لضمان عملكم على جزء ثانٍ من الأغنية على المدى البعيد، لأنه لم يعد هناك أي حلم عند أي عربي، حتى أنتم والصنّاع.

أيها الأطباء والمخترعون، المسكنات لن تسكن ألم طفل محروق، ولا الأطراف الصناعية سيقبلها جسد رجل مبتور، ولا مضادات الاكتئاب ستحسّن نفسية أم ثكلى.

إخوتي وأخواتي المواطنون، لمَ تشتمون خصومكم بـ "أبناء العاهرات"، وتشبّهوهم بأبناء الشوارع لتشعروهم بالدونية؟ أي عاهرات وأي شوارع هذه التي تُوصم اليوم؟ هل العاهرات والشوارع وأعضاء أمهاتكم التناسلية هم من يسلبوننا إنسانيتنا؟ أليس هذا أفضل وقت ليغير العالم قواميسه الساذجة ومقاييسه للشرف المقتبسة عن إرثه الأحمق؟ كيف لم يخطر لكم إهانة بعضكم بجملة "ابن مجرم الحرب"، أو باسم أي مجرم حرب تريدونه؟

أكتب الآن بتعب وضيق شديد ليشهد شيء على هذا الزمن الذي أصبحت أكره نفسي فيه، لأنني لا أشعر بالعار والذنب إلا حين أفقد القدرة على الحل والإجابات. وأنا اليوم فاقدة لكل شيء، أبسط رفاهياتي تشعرني بالعار، وتبلّدي يشعرني بالعار، وجودي نفسه أصبح يشعرني بالعار. هل من زمن أصبحت فيه لقمة ونومة وأدوية المرء تشعره بأنه عار؟

هل تمرّد لبنان على نعمة الأمان حين تذمّر من غياب الكهرباء، فابتلاه الله بالحرب ليزهد، لأنه سيصبح مقاماً للدراويش كما وُعِد؟ هل كان العراق رجلاً ثم تحول إلى امرأة ليمارس الدعارة، فأرسل الله له جيوشاً من المغتصبين؟

أي مستقبل هذا الذي يجب أن أفكر فيه، وأنا استحقاقي كإنسانة أصبح ميتاً؟ أنا الآن خاضعة متصالحة مع أي ظلم وأي ضياع حقوق وأي استغلال، لمجرّد أنني آمنة من احتمال ضرب بيتي بصاروخ. أي أطفال هذه التي يجب أن أنجبها؟ هل هذه النظرية سياسية حقنت بها مجتمعاتنا لنظل ننجب أرواحاً للسياسيين ليسرقوها من أجل خلودهم؟

أي حب هذا الذي أبحث عنه، أي تسامي هذا الذي أنصح الناس به، أي نجاح هذا الذي سيجعل لصوتي صدى، وكيف من المفترض أن أتعامل مع مشاكلي وهمومي برحمة، وأنظر إليها اليوم بجدية؟

لا أنكر أنني غاضبة ويائسة وقليلة الأدب إن أردتم، ولكن متى سأغضب وأسبُّ من أجل شيء أهم من هذا؟ فلا يوجد ما هو أهم من أن كل شيء يميزني كانسانة ويعبر عني وعنكم، فقد قيمته وجوهره وأهميته وقوته. فالحرب هي ما أصبحنا عليه اليوم: "تحولنا إلى اللا شيء".

سأحاول أن أجعل عزائي أن يكون كل ما يحدث هو عودة نظرية التطور إلى الوراء، بعدما عاشت قروناً تزحف إلى الأمام. قد يكون هذا هو وقت انتهاء العالم، لذلك أصبح الإنسان مجنوناً، بدائياً، همجياً، وكل شيء غريب عن الإنسانية كما وُلِد غريباً.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image