شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
البشَر الذين تمرّدوا على

البشَر الذين تمرّدوا على "حياة الماعز"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الخميس 26 سبتمبر 202401:41 م

شاهدتُ مؤخراً الفيلم الهندي "حياة الماعز"، الذي يروي حكاية عامل هندي يتمّ استقدامه إلى السعودية بناءً على نظام الكفالة المعمول به في المملكة، ثمّ يقوم أحد الأشخاص السعوديين باختطافه بعد انتحال صفة الكفيل الخاصّ به، حيثُ ينقله إلى الصحراء وُيُخضعه لأحوال عيش خارجة عن الآدمية تُشبه إلى حدّ كبير ملامح العيش لحيوانات الإبل والماعز الذي يُشرف العامل الهندي على رعايتها وإطعامها.

كنتُ أشاهد أحوال التعذيب النفسي والبدني الذي يتعرّض لها العامل الهندي في الفيلم، وأتأمّل محاولاته الكثيرة للتمسّك بكرامته الإنسانية في ظلال هذا الواقع المهين الذي يَحرمه فيه الخاطف من أدنى مقومات الحياة الآدمية، فهو يزوده بكمية قليلة من الطعام يضطر معها إلى الأكل من أعلاف الحيوانات التي يُطعمها، ويمنعه من استخدام المياه للاستحمام أو قضاء الحاجة أو حتى الشرب، ويفرض عليه النوم خارجاً في عراء الصحراء بما لا يقيه حرّها أو بردها.

يظهر العامل الهندي في مشهد من مشاهد الفيلم وهو ينظر إلى نفسه وأحواله في جزء من مرآة مهترئة ومكسورة، ويُمسك بجزء آخر منها ويُحاول قصّ وتشذيب لحيته الشعثاء الكثيفة، لا لشيء سوى ليستعيد جزء من صورته الإنسانية الحقيقية، ويُعيد من خلالها بعضاً من كرامته المهدورة.

أخذني المشهد السابق نحو كتاب تيد روبرت غير بعنوان "لماذا يتمرّد البشر؟"، وقلتُ في نفسي: إنّ جزء أصيل من التمرّد البشري عبر التاريخ يجيء ضدّ حياة الماعز، وهي تلكَ الحياة التي تُهدَر فيها الكرامة الإنسانية للإنسان، حتى يُصبح في صفته أقرب للحيوان المستأنس، يعيش معيشته، ويتلقى الضربات والصفعات التي تُريد منه أن ينقاد لعصا الراعي وأن يستجيب له في نداءاته "حااااا" "شييييي".

إنّ هناك فئة من البشر طالما رفضوا الاستجابة لنداءات الراعي، وجاء تمرّدهم على هذه النداءات في أشكال عديدة، لعلّ ما يجمع بينها تلكَ الصرخة الواضحة والصريحة التي تنطلق من حناجرهم عالية مدوية لتقول "لا لحياة الماعز". 

إنّ جزءاً أصيلاً من التمرّد البشري عبر التاريخ يجيء ضدّ "حياة الماعز"، وهي الحياة التي تُهدَر فيها الكرامة الإنسانية للإنسان، حتى يُصبح في صفته أقرب للحيوان المستأنس

"أنا إنسان ماني حيوان": صرخة بشر الثورات العربية

في بدايات الثورة السورية خرج رجل يُدعى محمد عبد الوهاب بصرخته الشهيرة "أنا إنسان ماني حيوان، وهالعالم كلّها متلي"، قالها ضدّ نظام الأسد الشمولي المستبدّ، وقد بدت على وجهه علامات الانسحاق الإنساني والكرامة الإنسانية المهدورة.

قالها عبد الوهاب وكأنّه يُعلن تمرّده هو ومن خلفه من الثوار السوريين على حياة الماعز، كأنّه يقول لا لحياة أعيشُ فيها وسياط النظام الراعي تَسقط على ظهري، وتأكل وتنهش من لحمي، لا لحياة أخافُ فيها النطق والكلام حتى أمام الحائط لأنّ هناك آذان خفية مغروسة فيه، لا لحياة يُعدّ فيها عليّ أنفاسي وحركاتي وسكناتي، وتقيّد فيها حريّتي، ويُهضم فيها حقي، وتُستباح فيها كرامتي.

إنّ عبد الوهاب وغيره من البشر الذين خرجوا في الثورة السورية وغيرها من الثورات العربية في موجاتها العديدة، هم فئة من البشر الذين تكثّف فيهم شعورهم بكرامتهم الإنسانية المهدورة، فخرجوا إلى الميادين ليهتفوا وليصرخوا، وليعلنوا أنّهم –كغيرهم من البشر في المجتمعات الأخرى- من حقّهم العيش بكرامة، خارج حدود حياة الماعز.

سمر حبيب.. امرأة رفضت العيش في خزانة الهوية الجنسية السرية

 في كتابها "المثلية الجنسية عند النساء في الشرق الأوسط، تاريخها وتصورها"، تستعرض سمر حبيب تجربتها كامرأة فلسطينية مثلية، تعيش في مجتمعات أبوية بطريركية قامعة لكلّ ما يتعلّق بالجنس، وتقول بأنّ أصحاب التوجهات الجنسية المثلية يتعرضوا في العالم العربي لشكل قاسٍ من أشكال الاضطهاد الضمني والرمزي، يُجبروا معه على إخفاء هويتهم الجنسية والتخفي في "حياة الخزانة" حسب المصطلح الغربي.

إنّ حياة الخزانة التي تحدّثت عنها حبيب هي أشبه ما يكون بحياة الماعز، فالمجتمع هنا هو الذي يُمسك عصا الراعي ويلوّح بها أمام أصحاب التوجهات الجنسية الأقلية، ليُجبرهم على الخرس والسكوت، وعلى تزوير هويتهم الجنسية والنفسية، والخروج على عكس ما هم عليه.

إنّ حبيب امتلكت الجرأة على الخروج من حياة الخزانة، وهي التي ترى فيها إهدار من كرامتها الإنسانية، وسلب لحقّها في التواجد بهويتها الحقيقية، وعيش حياة حقيقية، ليست قائمة على الازدواجية والتناقض، بحيث تظهر حول أهلها وأقربائها بهوية جنسية مزورة، وتعيش حياة حريتها الجنسية بعيداً عنهم.

تحضر حبيب في كتابها وتنظيراتها وشكل حياتها كمثلية عربية فلسطينية، وتعلِن أن نضالها ضدّ المجتمع الذكوري يتكامل مع نضالها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لشعبها وأرضه، فإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يستخدم أساليب القمع والإبادة الواضحة والصريحة ضدّ هويتها الفلسطينية، فإنّ المجتمع الذكوري يستخدم أساليب القمع المضمرة والرمزية ضدّ هويتها الجنسية، فهيَ تجيء كمنْ يتمرّد على أساليب القمع الهوياتي في كافة أشكالها، ولسان حالها يقول: "لا لحياة الخزانة التي لا أكون فيها بهويتي الحقيقية الكاملة".

المجتمع يُمسك عصا الراعي ويلوّح بها أمام أصحاب التوجّهات الجنسية الأقلية، ليُجبرهم على الخرس والسكوت، وعلى تزوير هويتهم الجنسية والنفسية، والخروج على عكس ما هم عليه

 المثقّف الذي يقول لا لحياة البرج العاجي ويدسّ أنفه فيما لا يعنيه

في كتابه "المثقف الذي يدسّ أنفه" يتحدّث الكاتب العراقي سعد محمد رحيم عن نموذج المثّقف المنخرط في واقعه الاجتماعي المندمج فيه، والمثقّف الذي يقصده رحيم في كلامه هو المنشغل بقضايا مجتمعه، وبنقد الواقع الاجتماعي والتاريخي لهذا المجتمع، وبصياغة تصورات فكرية حول كيفية تحقيق العدالة والحرية والديمقراطية لأفراده وجماعاته.

إنّه ذلك المثّقف الذي وصفه سارتر بأنّه الشخص الذي يدسّ أنفه فيما تعتبره السلطات قضايا مجتمعية لا تعنيه، فهوَ يعتبر أنّ كلّ قضية مجتمعية تعنيه في الصميم، حيثُ تكون وظيفته الأولى هي إزعاج السلطات بأشكالها كافة.

إنّ المثقف الذي يدسّ أنفه هو الذي يقول لا لحياة البرج العاجي، التي تُشبه حياة الماعز، والتي يعيش فيها –بفعل مشاعر الخوف من السلطة- غريباً ومغترباً عن واقعه الاجتماعي، وفاقداً تواصله معه، حيثُ تدفعه مشاعر الاغتراب إلى ترك ذلك الواقع بما فيه من ظلم وقهر واضطهاد، وإلى التقوقع والانكفاء السلبي على الذات.

إنّه المثّقف الذي يرفض أن يُخفِض رأسه أمام أي سلطة دينية أو مجتمعية أو سياسية، ويأبى أن تكون أي سلطة منها سبباً في خرسه أو سكوته، فهو المزعج الدائم والمعارض الأبدي لكلّ سلطة وأيْ سلطة، يرفع لافتات احتجاجه في وجه محاولتها لترويضه وتسكيته وقيادته بعصيها (وسائل القمع والتخويف والترهيب) وجزراتها (وسائل الإغراء المادي والمعنوي بالمال واعتلاء المناصب) الكثيرة.

الأحاديث التي فيها إساءة، تدفعني دائماً إلى السؤال عن ذلك الفقيه المتمرّد، الذي يمتلك الجرأة لإحداث ثورة في عوالم المتون الفقهية الإسلامية، ليثبت أنّه لا قداسة لنصّ يَستبيح كرامة النساء، ويلقنهنّ على أن يعشنَ مع أزواجهنّ "حياة الماعز"

في الحاجة إلى الفقيه الذي يتمرّد على المتون الفقهية الخاصة بالنساء

في مشهد من مشاهد المسلسل السوري "نساء من هذا الزمن"، تَخصّص إحدى البطلات التي تكون رئيسة جمعية نسوية تُعنى بالدفاع عن حقوق النساء، لقاءً جماهيرياً لتروي فيه تجربتها مع الاغتصاب الزوجي الذي تعرضّت له، تطلّع البطلة إلى عيون النساء الحاضرات وتقول لهنّ أنّ زوجها كان يربطها إلى السرير، ويُقيّد يديها ورجليها، ويُمارِس معها الجنس بطريقة حيوانية.

كنتُ أشاهد جرأتها في رواية شكل هذا الهدر لكرامتها الإنسانية، وأستعيدُ في ذهني ذلك الحديث النبوي الذي يُبشّر المرأة بلحاق لعنات الملائكة بها، إذا لم تلبي رغبة زوجها، وامتنعت عنه في فراش الزوجية؛ وأسأل نفسي عن هامش الخطأ فيه، فرغمَ أنّه حديثٌ صحيح ومتفقٌ عليه في صحيح البخاري ومسلم، إلا أنّه من الصعب تقبّله، فكيف أصدّق ويُصدّق غيري ممن ينظرون إلى الدين الإسلامي كدين حرية وعدل وكرامة إنسانية أنّ حديثاً كهذا يُعطي –ضمنياً- الحقّ للزوج في ممارسة الجنس القسري مع زوجته، ويشرّع له مسألة اغتصابها ببساطة؟!

إنّ مثل هذه الأحاديث الموجودة في المتون الفقهية الإسلامية، والتي فيها إساءة لحقيقة الإسلام، تدفعني دائماً إلى السؤال عن ذلك الفقيه المتمرّد، الذي يمتلك الجرأة لإحداث ثورة في عوالم المتون الفقهية الإسلامية، والذي يراجعها وينقّب فيها وينقدها، ليثبت أنّه لا قداسة لنصّ يَستبيح كرامة النساء، ويلقنهنّ على أن يعشنَ مع أزواجهنّ حياة الماعز.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image