قبل سنوات، شاهدت فيلماً فلسطينياً معارضاً، وليست في فلسطين المحتلة سلطة مستقلة ذات سيادة إلا ما ترتهن بإرادة جيش الاحتلال الصهيوني، فكيف يكون الفيلم معارضاً في بلاد تخلو من معارضة؟ هكذا رأيت الفيلم الروائي "سكر مالح"، ومدته 12 دقيقة، لا يرفع شارة يظن صناع الأفلام الفلسطينية أنها تمنح الفيلم هويته، وتحصّنه من النقد أيضاً. تلك الشارة أسهمت في تنميط الفلسطينيين: معدنهم خاصٌّ، إرادتهم فوق بشرية، ملائكة لا أشواق لأجسادهم، لا يجدر بالرجال أن تضعفهم الأشواق، ولو وسوست إليهم أنفسهم لَتعالَوا عليها، واستعاذوا بالوطن.
مؤلف فيلم "سكر مالح" ومخرجه، ليث الهيثم، ابن بيت لحم الذي درس في جامعة القدس، تعمّد تبديد الصور الذهنية، وإزاحة تراث من الأفلام والأدبيات، عن الفلسطيني العابس، المنذور للشهادة. كنت عضواً في لجنة مشاهدة في مهرجان مصري، عام 2018، وتحمست للفيلم وأوصيت به؛ نوّهت باختلافه وتمرده على تاريخ النوع، واحترامه لآدمية البشر، وإيمانه بضعفهم. وفاجأني استبعاده تماماً، من المسابقة ومن أي قسم، ورجّحت أن السبب هو الخوف من كسر الإطار، ونزع الشارة الفلسطينية، كيف يتجاهل الفيلم الفلسطيني اسم فلسطين؟ هل هذا وقت المشكلات الزوجية، وشبهة الشروع في خيانة؟ ثم إن بطلته الممثلة الفلسطينية فاتن خوري، ابنة الناصرة، تدخن السجائر.
لا يعي البعض أن من يبذل نفسه ثمناً للدفاع عن بيته وأرضه عاشق للحياة، وإذا فاتته الحياة كاملة أرادها لأبنائه غير منقوصة الكرامة، بتعبير إلياس خوري: "ما يستحق أن نموت من أجله، هو ما نريد أن نعيشه"، لكن التوجه السينمائي العمومي يميل إلى دغدغة المشاعر بتقديم أبطال يتحدّون الموت، وينتصرون على عدوهم في معارك تكتيكية؛ فينتشي المشاهدون العرب، كما تخِز هذه الأفلام ضمير الغرب بمشاهد مأساوية وميلودرامية تفقدها نشرات الأخبار حرارة المفاجأة. وفي فيلم "سكر مالح"، الذي شارك فيه نقولا زرينة ومنار راجي ابنة بيت لحم، آدميون يتشاجرون، وينشدون السعادة الشخصية، ويضجرون من الشريك، وتراودهم فكرة إنهاء مسار لا يرضيهم حين يستعصي استمرار الزواج، وفي لحظة رخوة يلوح طيف خيانة ذهنية.
قبل سنوات، شاهدت فيلماً فلسطينياً معارضاً، وليست في فلسطين المحتلة سلطة مستقلة ذات سيادة إلا ما ترتهن بإرادة جيش الاحتلال الصهيوني، فكيف يكون الفيلم معارضاً في بلاد تخلو من معارضة؟ هكذا رأيت الفيلم الروائي "سكر مالح"
في العلاقات الإنسانية، وفي حرب الإبادة الدائرة في غزة منذ سنة، وفي الأفلام أيضاً، يؤدي الاعتياد إلى تراجع الدهشة، أي شيء يعِد به عمل فني أو أدبي أكثر من البثّ المباشر في الفضائيات، وتوثّقه وسائل التواصل الاجتماعي؟ مشاهد البطولة النوعية، وابتداع وسائل مقاومة تستنزف جيش الاحتلال من جهة، والقصف البربري للمدارس والمستشفيات، والانتقام الوحشي من المدنيين والجرحى من جهة ثانية. كل ذلك يتوقعه المشاهد العربي والأجنبي، وفي أيام الطزاجة انتبه الفنان الفلسطيني إيليا سليمان إلى ذلك، في فيلمه الأول "سجل اختفاء" الذي أخرجه عام 1996، وصور فيه مشهداً ينسف رواية إسرائيلية تروّج تفوقاً أخلاقياً يدّعون أن جنودهم يمتازون به عن محيط عربي يتهمونه بالبربرية.
ذكر إيليا سليمان أن شخصاً مهمّاً، من مسؤولي دعم الأفلام في إسرائيل، قال له: "لو صوّرت جندياً إسرائيلياً يضرب طفلاً فلسطينياً ويفجر له مخّه، كنت قلت لك برافو. لكن أن تصور الشرطة تهرع بسرعة، لينزل الجنود ويتبوّلوا على الحائط، هذه إهانة حقيقية، نحن بالنسبة لك كارتون، أنت لا ترانا موجودين من الأساس". أدرك إيليا سليمان أن اللكمة أوجعتهم، وبهدوء ردّ: "حسناً... هل هذا ما شعرتَ به فعلاً؟".
أتسلح بهذا المشهد، لأتجنب لوماً يسارع به محبو إيليا سليمان، المصفقون لجديده قبل المشاهدة، والحبيب يبلع الزلط ولا يضرس، ودائماً أعود إلى "سجل اختفاء" كلما أضرسني عمل جديد. كانت الطزاجة، ولعلها البراءة، أصدق من أفلام يخرجها الذهن.
في أبو ظبي عام 2009، شاهدت فيلم "الزمن الباقي" في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي، الذي تحول اسمه إلى مهرجان أبو ظبي السينمائي. لعلها سابقة، غير ملحوقة، لمهرجان دولي لا يحمل اسم المدينة المقام فيها، وإنما منطقة إقليمية عنوانها غائم، الشرق الأوسط الذي يحتمل وجود الكيان الصهيوني، وقد غيّر المهرجان اسمه في الدورات التالية قبل التوقف، واستمر الاصطلاح الشرق أوسطي وتجذّر، وأثمر حقيقة طاغية.
في "الزمن الباقي" مشاهد مؤثرة، محفورة في ذاكرة تستدعيها، مستقلة عن الفيلم، رشقة ساخرة من طالوت المسلح يتعقب حمامة، دبابة تحرس الفراغ، ويدور مدفعها يتابع فلسطينياً يخرج من بيته لإلقاء كيس القمامة في الصندوق، وآخر يتكلم في هاتف. مشهد، كما قال إيليا سليمان، "مهين أكثر من مائة مشهد لضابط يعذب أسيراً". وأعلنت الجوائز ففاز بجائزة أفضل عمل الفيلم الروسي "عشاق الصرعات" للمخرج فاليري تودوروفسكي، ونال "الزمن الباقي" جائزة أفضل فيلم في الشرق الأوسط، فكتب ناقد مصري أن الجائزة اتجهت إلى فيلم إيليا سليمان من يوم عرضه. وكتبتُ كثيراً معترضاً على وجود جوائز عربية في مسابقات دولية بمهرجانات عربية؛ عدوى أصابت مهرجان القاهرة، في اتهام لهذه الأفلام بالقصور عن جدارة المنافسة الدولية، فترضى بمعونة شتاء، ولا تطمح إلى أكثر من "جوائز لليتامى".
في مهرجان القاهرة 2019 رأيت الحماسة المسبَّقة لفيلم إيليا سليمان "إن شئت كما في السماء"، ولم يمسّني باستثناء مشاهد قليلة، منها مشهد وحيد تكلم فيه المخرج ردّاً على سائق تاكسي أمريكي أسود البشرة عرف أنه فلسطيني، فأوقف السيارة فجأة: "فلسطيني؟ يا إلهي، دعني أنظر إليك... فلسطيني في سيارتي... يا للعظمة"، وسأله السائق هل يعرف "كرفات"؟ يقصد ياسر عرفات، فهو يحبه، ويعتبره رمزاً، ورفض أخذ الأجرة، واتصل بزوجته وأخبرها بفخر أن في سيارته رجلاً فلسطينياً، ليس عرفات، لكنه ناصري، من الناصرة بلد المسيح.
لم يمسّني الفيلم، شعرت باحترافية الصنعة، وكتبتُ تعليقاً قصيراً لم يعجب البعض من هتّيفة المخرج، وتفننوا في الإشادة بمشهد هنا وجملة هناك، حتى إن صحفيين ونقاداً فلسطينيين أعجبتهم جملة قالها، باللغة العربية، رفيق كأس لبطل الفيلم، في حانة في نيويورك، على خلفية أغنية "خمرة الحب" لصباح فخري: "أنتم الفلسطينية غريبين، العالم كله بيشرب لينسى، بس أنتم الشعب الوحيد اللي بيشرب ليتذكَّر"، وقرع الكأس: "في صحتك".
لا يرفع "سكر مالح" شارة يظن صناع الأفلام الفلسطينية أنها تمنح الفيلم هويته، وتحصّنه من النقد أيضاً. تلك الشارة أسهمت في تنميط الفلسطينيين، معدنهم خاصٌّ، إرادتهم فوق بشرية، ملائكة لا أشواق لأجسادهم
الجملة تستحق التأمل من ثلاث زوايا: الأولى أنها ليست اكتشافاً، هي نكتة مصرية قديمة لم تعد تضحك أحداً. والثانية أنها تسيء إلى الفلسطينيين، تتهمهم بنسيان قضية لا يتذكرونها إلا إذا سكروا. في مطعم بالناصرة، في بداية الفيلم، يجتمع شابان على مائدة بصحبة أختهما، ويشرب الأخوان الخمر التي يحرمونها على الأخت. وبمنطق هذه النكتة فإن الأخت مفروض عليها ألا تتذكر. أما الثالثة فوجود أصل لهذه الجملة، بصيغة أخرى، في فيلم "موسم القتل" للمخرج الأمريكي مارك ستيفن جونسون. قال جون ترافولتا لروبرت دي نيرو: "أنت تشرب لتنسى الماضي، وأنا أشرب لأتذكر".
اقتباس جملة حوارية معيب، لا تتسامح الذاكرة مع اقتباس الفنان ولو من عمله السابق. في عام 1973 كاد يفوز بجائزة الأوسكار عن الموسيقى التصويرية للجزء الأول من فيلم "الأب الروحي" للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، لولا أن سحبت الأكاديمية ترشّحه، بعد اكتشاف أن عمله ليس جديداً، فالموسيقى سبق أن وضعها عام 1958 نينو روتا للفيلم الإيطالي "فورتونيلا"، سيناريو فيديريكو فيلليني، وإخراج إدواردو دي فيليبو.
لعل نينو روتا استخسر موسيقاه في فيلم أقل شهرة، وأراد وضعها على منصة أعلى، فكان له ما تمنى، وتحقق الذيوع مع فيلم أمريكي احتل صدارة قوائم كلاسيكيات السينما. الموسيقي الإيطالي الفوز خسر الأوسكار، وربح لموسيقاه خلودا مستقلا عن الدراما، غارقا في الدراما، دالاً على "الأب الروحي"... الفيلم والشخصية معاً. لا أحد يذكر الفيلم الإيطالي.
لا شيء يخفى إلى الأبد، ولو نكتة مصرية لم يسمعها المؤلف الأمريكي إيفان دوتري، ووضعها على لسان جون ترافولتا، ثم عادت إلينا من نيويورك، بلسان عربي مبين، في فيلم لإيليا سليمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...