أنت ميتة من اللحظة التي تبدئين فيها بالكذب على نفسك وخنقها للتلاؤم مع ما يتوقعه الناس منك، ومع الصورة النمطية المرسومة بيد ناقصة الإبداع لما يجب عليك أن تكونيه.
لم أعتقد يوماً أنني سأضطر لتبرير نفسي أمام المجتمع الذي لا يجمعني بأشخاصه شيء، ولكني قبضتُ عليها تبرّر سبب انخفاض صوتي في التحية الصباحية الاعتيادية وسبب نقص وزني، وسبب زر ياقةٍ نُسي. وجدت نفسي وحيدة ومحاصرة بمئات العيون الغريبة التي تحصي التفاتاتي وشعرات رأسي البيضاء وأحبائي وسنوات عمري، وكمية المكياج على وجهي، وتجاعيده الجديدة، حماقاتي ومرتبي الشهري وحتى ملابسي الرمادية.
تريد أن تشدّني صوبها، صوب عاديتها المألوفة ومكانها اللذيذ: "الاستسلام". تريد دمجي حتى لا أضيع أو أشذّ عن العرف، فالوحدة في العرف جحيم تسكنه الظلال والشرور، وإتعاب العقل بما لا "يفيد" توهان، والتمسّك بالأحلام طفولة.
وجدتُ نفسي مضطرةً أن أبرّر كل ما كان سابقاً سبب تفرّدي، وأتبرّأ منه، لأنني خائفة من وحدة أسّستها بكل جمال وجد في طريقي، ومن عقوق جسدي وعقم وجودي. خائفة من أشباح، أعرف بالتجربة والبرهان أنها وهم يعيش في عقول البسطاء، خائفة من كل ما قيل لي إنه مرعب، لأنهم كثر ومن المستحيل أن يكون الكلّ على خطأ وأكون أنا المصيبة الوحيدة.
وجدت نفسي وحيدة ومحاصرة بمئات العيون الغريبة التي تحصي التفاتاتي وشعرات رأسي البيضاء وأحبائي وسنوات عمري، وكمية المكياج على وجهي، وتجاعيده الجديدة، حماقاتي ومرتبي الشهري وحتى ملابسي الرمادية
أنا كائن جبان
"أنا كائن جبان". لزمني هذا الاعتراف ما بدا دهراً حتى أصيغه، لأني حاولت لوقت طويل أن أُلبس عريه بعضاً من الصور والاستعارات التي أجيد صياغتها، ولكني في النهاية قرّرت وضعه على هذا الشكل: "أنا كائن جبان"، ما زال لا يحيد عن حائط القطيع ويدعو بالستر من عار المجتمع، ما زال، رغم انعتاق طبقة صوته من المعايير الذكورية للشرق حيث صوت الأنثى خلق ليبقى مغوياً وهامساً، يرتجف أمام نظرات التحكيم التي تفتش ثنايا جسده بحثاً عن حديث في المجالس، وتدقق في الكلمات لتدينه بالهرطقة الفكرية أو الانحلال الأخلاقي.
لم أعتد الرفض كأسلوب حياة كأجيال طويلة من النساء اللواتي جئت من رحمهن، وأحاول بما استطعت تطويره من ذكاء أن أتجنّب الصدام مع فحول الشرق، وأبتعد عن عقول نسائهم وبناتهم، وما ملكت أيمانهم من صاحبات ومهللات وتابعات منومات برائحة التستوستيرون النافذة، كي لا أصبح مرمى لسهامهم.
نصيحة الأم لابنتها المخطوبة "تدلّلي"، شوّهت اللغة العربية وأرهقت شباباً كثراً، اقتنعوا بعد ركض طويل أن المرأة كالكرة
تبرّأتُ مني
تبرّأتُ مني لأتناسب مع ما يجب أن تكونه أنثى على حافة الثلاثين، غير مُكلّفة، وقوتها في ضعفها. كم حماقة ابتلعتُها، وكم تفاهة ابتسمت لها وسايرتها، كم نقاشاً تجاهلت فيه عقلي، وأطرقت خلاله رأسي ليمر، وكم جريمة ارتكبتها بحقي، ونميمة شاركتُ بها حتى لا يلفظني التيار؟
كم مات قبلي وسيموت بعدي، بشر مشوهو الإنسانية ومشوهو الوجود، حاولوا أن يندمجوا فخنقتهم أرواحهم، وطارت بعيداً، وكم سيصحوا بعدي ناس، قبضوا على أنفسهم تكذب، وتحلف بما لا تؤمن أنها مثل الجميع؟
في داخلي صوت كان يصرخ من الأعماق: "لا يا سيدي، أنا لن أموت في الأربعين من عمري، وأرفض يديك المفتوحتين وقبرك، فمثلي لا تموت أنوثتها، ولا تاريخ صلاحية لرحمها، ولست بحاجة لذكر حتى أثبت أني طريق من طرق الخلق، فأنا امرأة إن أحبّت صحراء أزهرت، فلملم ما نثرتَ من عرضك السخي وغادر".
"أنا كائن جبان". ما زال، رغم انعتاق طبقة صوته من المعايير الذكورية للشرق حيث صوت الأنثى خلق ليبقى مغوياً وهامساً، يرتجف أمام نظرات التحكيم التي تفتش ثنايا جسده بحثاً عن حديث في المجالس، وتدقق في الكلمات لتدينه بالهرطقة الفكرية أو الانحلال الأخلاقي
ما الخير الذي ستأتين به إلى بيت الرجل بعد الأربعين؟
بعدها أصبحتُ كائناً منفصلاً عن طبيعته، أستغرب أصوات قطيع النساء حولي عندما يبدون استنكارهم لتأخّري في اصطياد عريس، بحجّة أن للأنثى تاريخ صلاحية وسمَ وجودها منذ خلقها الأول.
"ما الخير الذي ستأتين به إلى بيت الرجل بعد الأربعين؟"... ترميني إحدى الجدات بهذا التصريح وتضرب كفيها. لا أصرخ، رغم الإهانة، بكل ما أعرفه عن مقدار الألم الذي جلبه الزوج إلى حياتها، رغم دزينة من الأولاد قدمتهم له لتثبت أنها صالحة لما أُعدّت له، بل أصمت، وأسمح للجمل نفسها أن تعاد على مسامعي دون أن أذكّرهم أنني ما زلت (وقتها) في عشرينيات عمري.
لقد مللت تشبيهي بالبضاعة التي دائماً ما ينزل إلى السوق ما هو أحدث منها، فأنا كائن جبان، لأني أعرف ما أعرف ولا أنطق، ولأني رغم كل ما جهدتُ في جمعه من ثقافة، أوصم بنقص الإنسانية والعقل، وأصمت.
لأني أعرف أعمق أسرارهم، وعندما يعيّروني بعدم قدرتي على فهم المعرفة حتى ولو وضعت أمام عيني، أصمت.
لأني سمعت، وما زلت حتى اليوم أسمع، أنني مخلوق نجس، ومتعة، ولولا رحمي وحاجة الإنسانية للتكاثر لم توجد ضرورة لخلقي، وأصمت، لأنني رضيت الاختباء.
حاولتُ السكوت وفشلت، حاولت طويلاً تجنّب الأفاعي وإغراء التفاح، حاولت أن ألهي نفسي بتفاصيل الجمال وأصمت عن طرح الاسئلة، وأن أركن إلى السلام في كل جنة دخلتها، سواء عن سابق حب أو عن سابق قداسة، ولكني اكتشفتُ امرأة محكومة بالنفي، محكومة بالكمال، محكومة بالأسطورة وغواية همس الأرض.
في بلادنا تبقى الإناث نساءً، حتى يأتي الرجل المختار ليحوّل الواحدة منهنّ لـ "مرا"، هل جربتم مرّة أن تقولوا لأنثى غير متزوجة "يا مرا"؟
لذا وجدتُ نفسي أنطق وأتكلم، فكلمة واحدة قد تغير إنساناً أو إنسانةً وربما تنقذ حياةً، بمجرّد أن تعرف تلك المراهقة أنّ هنالك كلمة خارج حروف أمها وعمّاتها وخالاتها، ستتشبّث بها، كما يتشبّث الغريق بقشّة قد لا توصله إلى اليابسة، ولكنها تبقيه حياً ريثما يأتي ما/من ينقذه/ا.
وبدأتُ بالرد على كل نصائح الأمهات والآباء والأصدقاء للفتيات والشبان، وأفنّدها بعين قوية وسخرية لاذعة: "عندما تقول لك امرأة (لا) فهي في الحقيقة تقصد نعم ولكنها لا تدري بعد". لقد أدّت هذه النصيحة إلى حرمان المرأة من سماع صوت قلبها، والانتهاء بالموافقة على من لا ترغب لأنهم أقنعوها أنها لا تدري.
ونصيحة "أنهن يحببن الإهمال" أيبست قلوب نساء كثر أهانهن الإهمال، أما "كوني ضعيفة، فالرجال هم من منحوك قسوة أضلعك وخلقوك ليطاردوك ويحموك"، فقد أنتجت أجيالاً عديدة من المشوّهات اللواتي يأخذن شكل الملابس المهداة لهن من قبل الرجال، شهرزادات أو جواري أو عاملات.
وعن نصيحة الأم لابنتها المخطوبة أو المرتبطة "تدلّلي"، فقد شوّهت اللغة العربية وأرهقت شباباً كثراً، اقتنعوا بعد ركض طويل أن المرأة كالكرة.
نصيحة "أنهن يحببن الإهمال" أيبست قلوب نساء كثر أهانهن الإهمال، أما "كوني ضعيفة"، فقد أنتجت أجيالاً عديدة من المشوّهات اللواتي يأخذن شكل الملابس المهداة لهن من قبل الرجال، شهرزادات أو جواري أو عاملات
نساء من نسئ
كنتُ قد عايدت الأمهات في منشورٍ على صفحتي الشخصية، لم يُعجب كثيرين، بمناسبة عيد الأم، وبمناسبة أنني تكونتُ في رحم أنثى، وأتيتُ إلى الحياة أنثى فخورةً بسيادتي على نفسي: "كل عام وأنتنّ سيدات، وأمهات حتى لو لم تقدرن على الإنجاب، كل عام والبقية الباقية من نسل حواء -التي لم تستسلم لـ (جنّة)، ولعنها الفضول والمعرفة والحكمة، وانحكمت بالنفي، كل عام والبقية الباقية من نساء هذه الأرض يمشين صوب حرية عقولهن من قيود الذهب والعيب ووجع القلب".
في بلادنا تبقى الإناث نساءً، حتى يأتي الرجل المختار ليحوّل الواحدة منهنّ لـ "مرا"، هل جربتم مرّة أن تقولوا لأنثى غير متزوجة "يا مرا"؟ جربتُ مرة أن أقولها في خيالي لأسمع كلمات العيب والحرام وعبارات الشجب والاستنكار، ويأتي من يقول بكل حذلقة: "هيدول نسوان من نساء، من نسئ، أي تأخّر وتخلّف".
لأردّ: "المرا هي السيدة بالآرامية، السيدة التي تملك سيادة وسلطة، المرا هي الأرض، والخصب والرحم الأبدي، البعيد عن وصمة (صلاحية التلاتين سنة)، والمرا هي الأم، القادرة بلفتة عينيها ومسحة يديها على إحياء يباس قلبك، وهي طريق الخالق في خلقك، أمك ولو كانت بنتك، ومع ذلك يبقى عيباً أن تقول لأنثى (مرا)".
واكتشفتُ فيما بعد أنّ هنالك نساء يعشن أنوثتهنّ في قلب المجتمع الأبويّ ومع زوجٍ ذكوريّ، يخلقن مساحات الأمان بكل خفّة، وبصوتٍ منخفض دون ضجيج أو صور أو فيديوهات أو حتى مدوّنات، يحسنّ التعامل مع الواقع الخانق للمرأة، دون أن يدفعن فاتورة المواجهة الباهظة التي دفعتها أنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...