قرأتُ، مثل غيري، خبر تحرير امرأة إيزيدية يبلغ عمرها 21 عاماً، من قطاع غزة المحاصر، من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن. تشاركت تلك الدول عملية التحرير التي وُصفت بـ "المعقدة جداً" في ظل ظروف الحرب، والغريب في الأمر أنها اختُطفت من قبل داعش في سنجار قبل عشر سنوات، في 2014، حين كان عمرها 11 عاماً، ثم دارت بين عدة دول، لينتهي بها المطاف في غزة المحاصرة، بعد مقتل "زوجها" في الحرب الدائرة هناك.
تناقلت وسائل الإعلام الخبر، ونشرته صديقتي الصحفية على صفحتها الشخصية وعلقت عليه واصفةً الفعل -وبالتالي حماس- بالإجرامي، فالخبر يدلّل بشكل واضح على استعباد جنسي لطفلة تبلغ من العمر 11 عاماً، وعلى الفور قمت بمشاركة الخبر مع بعض الأصدقاء الذين أعلم تعاطفهم مع حماس، رغم اختلافهم الفكري والأيديولوجي العميق معها، ولكنهم كانوا يعتبرون أنّ حماس تدافع عن نفسها وعن الشعب الفلسطيني و"كل من يطلق رصاصة باتجاه إسرائيل فنحن معه، والبقية تفاصيل نتناقش فيها وقت السلم"، تقول صديقتي منفعلةً.
مشكلة الإجابات السهلة
رغم أنني أرسلتُ المنشور برسائل منفصلة لكل صديق/ة، لكنّ الرد كان واحداً: التشكيك بالرواية، و"لماذا في هذا الوقت بالذات يحرّرونها؟": يقول أحمد، وتنفعل بشرى: "القصة ملفّقة لشيطنة حماس، ونزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين لتبرير المزيد من الجرائم"، فيما يردّ صديقي محمد، خريج الأدب الإنجليزي: "الآن أصبحت إسرائيل، صاحبة التاريخ الدموي، مهتمة بحقوق الإنسان؟".
لقد بدت لهم القصة محبوكة بعناية، وبدا أنهم يعيشون حالة خوف -وربما أعيشها دون أن أشعر- من امتداد الحرب إلى سوريا. ما كان واضحاً في رسالة صديقتي التي كتبت وهي تجلب ابنها من المدرسة: "بدهم يشيطنوا حماس مو أكتر، المنطقة رايحة على تصعيد كبير، الله يستر، انشالله ما يوصلوا لعنا، نحنا لازم نوقف مع المقاومة ولو اختلفنا معا، هلا مو وقت نقاشات".
تناقلت وسائل الإعلام خبر تحرير امرأة إيزيدية من قطاع غزة المحاصر، من قبل الولايات المتحدة، إسرائيل والأردن، وتبين أنها اختطفت من قبل داعش في سنجار قبل عشر سنوات، حين كان عمرها 11 عاماً، ثم دارت بين عدة دول، لينتهي بها المطاف في غزة المحاصرة، بعد مقتل "زوجها"
في الحقيقة كل تساؤل من التساؤلات السابقة في محلّه، ويثير الشك في ملابسات الحادثة؛ التوقيت والسياق والجهات المسؤولة عن التحرير، وقد علّمتني الحرب السورية، التي تلاعبَ فيها اللاعبون الأساسيون بالجمهورين الموالي والمعارض، أنه لا توجد إجابات سهلة، وربما لا ينبغي أن يكون هنالك إجابات سهلة، والمعضلة أنّ الأغلبية تركض وراء تلك الأجوبة، تبحث عنها، وإن لم تجدها تخلقها، سواء بوعيها أو لاوعيها، وأعتقد أنّ هذه النقطة سبب في أيّ حرب أهلية أو انقسام وطنيّ، وعقبة كبرى في طريق الحل.
التقديس نقيض التغيير
لذا لمتُ نفسي على تسرّعي بإطلاق الحكم، وقد استسهلتُ الانطباع الذي كونته سابقاً عن حماس وقرأتُ بعدسته ذلك الخبر، فأنا لا أعتقد أنّ التنظيمات الدينية قادرةٌ على تحقيق التقدم والازدهار والانتصار، إذ لا يمكن لتقديس الماضي أن يحقق مستقبلاً أفضل.
والمؤمنون بالحق سيُهزمون إذا لم يمتلكوا القوة والمرونة والتغيير استجابة للظروف، والتقديس نقيض التغيير ومعيقه الأول، وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في خطابات نصرالله ونعيم قاسم والسنوار ومشعل، حيث أكّد الأخير في تصريحه الأخير، أنّ خسائر المقاومة الفلسطينية في الحرب الحالية تكتيكية وأنها انتصرت، وإسرائيل هُزمَت، وأنّ عملية طوفان الأقصى أعادَت الحياة إلى غزة، يتفق مع كلام أحد الأصدقاء الموالين سابقاً: "بتّ أخاف من كلمة انتصار، اشتقنا للهزائم".
على كل حال، حدث هذا لي -تسرّعتُ في إلقاء اللوم على حماس- أنا المهتمّ بالشأن العام، أتابع وأحلّل وأقرأ، فماذا عن الناس غير المهتمين، الذي ليس لديهم رفاهية للقراءة والمتابعة والتحليل، كم من مغالطة قد يقعون فيها ويشكلون على إثرها قناعات وأفكار تترسخ وتتثبت يوماً بعد يوم، ولا يمكن لومهم على ذلك بطبيعة الحال؟
رد حماس على خبر الاختطاف
وبعد قراءة عدة تقارير، تبين أنّ حماس قد ردّت في بيانٍ لها، بأنّ القصة ملفّقة وكاذبة ووهمية، هدفها تضليل الرأي العام وتبييض صورة الاحتلال، وأكّدت الحركة أنها جمعت معلومات موثقة عن الفتاة، التي تبين أنها تزوّجت من رجل فلسطيني من خانيونس (جنوب قطاع غزة) أثناء قتاله مع قوات المعارضة في سوريا، وعاشت معه ووالدته هناك، وبعد مقتله سافرت طوعاً مع والدته إلى تركيا ثم إلى مصر، بطريقة قانونية تماماً، وبعدها إلى غزة.
وبعد عدة سنوات تزوجت فوزية أمين سيدو من شقيق زوجها المتوفى، ثم استشهد خلال الإبادة الجماعية الحالية في غزة، لتتوجه بعدها إلى الحكومة الفلسطينية التي آوتها ورعتها، إلى أن طلبت العودة إلى أهلها، وتم ذلك بالتنسيق مع الحكومة الأردنية والإسرائيلية.
نفت حماس مسألة الاختطاف من أساسها، معللة بمرور فوزية بين مطارات عدة دول بطرق نظامية بشكل طبيعي، وقالت إنّ عمرها يتخطى خمسة وعشرين عاماً.
أكّدت حماس أن الفتاة تزوجت رجلاً فلسطينياً من خانيونس، أثناء قتاله مع المعارضة السورية، قبل أن يقتل فتتزوج أخاه، الذي قُتل بدوره في غزة، فتوجّهت للسلطة الفلسطينية طالبة العودة إلى أهلها
هل ينفي عقد الزواج الاستعباد الجنسي؟
لكنّ هذه القصة، أو القصتين، يوجد فيها الكثير من المآخذ والتساؤلات، إذ كيف يمكن أن يصحّ زواج طفلة بعمر 11 سنة في القرن الحادي والعشرين؟ في أي شرع؟ حتى لو فرضنا جدلاً قبولها وقبول ولي أمرها، فليتخيل أحدكم ابنته تتزوج وهي لا تزال تعتقد أنّ ثيابها هي التي تضيق وتقصر عليها وليس جسدها الذي ينمو، ولتتخيل إحداكن ابنتها تتزوج برجلٍ يُقاس فرق العمر بينهما بالعقود.
حتى لو كانت فوزية أكبر سناً، كما تقول حماس في بيانها، فكيف يمكن أن يكون زواجاً يحقق الشرط الأول والأهم وهو القبول والإيجاب، بينما يحمل "العريس" بندقيته على كتفه وجعبته مليئة بالذخيرة؟ فلنخبرهم أنّ الزواج الذي لا يتضمن قبول الفتاة يُعتبر اغتصاباً واستعباداً جنسياً حتى في ظل وجود أوراق قانونية وشيخ يقرأ الفاتحة.
نقطة ثانية تخصّ السوريين الموالين، أو نحن الذين نعيش في بيئة موالية، هل يصحّ موقفنا عندما نقف مع حماس ونبرّر لها، وهي التي ذكر بيانها الأخير صراحة القتال إلى جانب المعارضة، وشاركت في قتل شبابنا وأهلنا وأقربائنا (من وجهة نظر الفئة المؤيدة)؟، أتوجه بهذا السؤال إلى الموالين المدافعين عن حماس، بغض النظر عن صوابية موقف الطرفين.
نقطة ثالثة تخصّني أنا شخصياً، وبعضاً ممن يعتنقون الفكرة ذاتها، وهي زواج الأرملة من شقيق زوجها، وإن كنا في هذا الشرق نؤمن أنّ الميت تبقى روحه تطوف حول الأماكن التي يحبها، كيف سيكون موقف الزوج وهو يرى أخاه ينام مع زوجته في السرير ذاته؟ وكيف تسعفك رابطة الأخوّة أن تضاجع زوجة أخيك، سواء كان حياً أو ميتاً؟ هذا ما لن أكون قادراً على فهمه يوماً.
تزوجت دون أن تعرف معنى الزواج
بعد البحث أكثر تبين لي أنّ الفتاة الإيزيدية قد أجرت حواراً خاصاً مع الإعلامي ناصر العلي، على قناة "رووداو" في 2023، باسم مستعار، وتذكر فيها قصة مطابقة لما ذُكر في رواية حماس ووكالات الأنباء، كان عمرها عشر سنوات ولم يزوجوها لأنها لم تبلغ، لذا أخفت بلوغها عنهم، لكنهم عرفوا بسبب امتناعها عن الصلاة.
لم توافق والدته في البداية أن تزوّجه لسبية! لكنها قبلت فيما بعد، وأخبروا الطفلة أن تقول أنّ عمرها 12 عاماً وليس عشر سنوات كي يقبل بتزويجها، وعندما سألها المذيع: "لماذا لم تخبري القاضي أنّ عمرك عشر سنوات؟"، كانت الإجابة التي يندى لها جبين الإنسانية: "كنتُ صغيرة ولا أعرف ما هو الزواج! ولا أعرف معنى العمر!". تخيلوا فتاةً تتزوج وهي لا تعرف معنى الزواج ومعنى العمر، ثم تتابع: "كان القاضي يتكلم العربية وأنا لم أكن أجيدها، ثم إنهم هدّدوني إن أخبرته عمري الحقيقي".
وتحكي قصة زواجها، حيث طلبت في ليلة دخلتها أن تذهب للحمام حيث نامت داخله خوفاً من "زوجها"، ليعيد محاولة الاعتداء عليها وهي ترفض، إلى أن أعطاها مخدراً جعلها تنام، لتستيقظ على ألم فظيع، ما يدحض ذلك فرضية قبولها للزواج بكامل إرادتها.
كيف يمكن أن يكون زواجاً يحقق الشرط الأول والأهم وهو القبول والإيجاب، بينما يحمل "العريس" بندقيته على كتفه وجعبته مليئة بالذخيرة؟ الزواج الذي لا يتضمن قبول الفتاة يُعتبر اغتصاباً واستعباداً جنسياً حتى في ظل وجود أوراق قانونية وشيخ يقرأ الفاتحة
ماذا يفيدنا السكوت؟
تستدعي تلك التساؤلات، تساؤلاتٍ أخرى عليها، على مشروعيتها وتوقيتها، من قبيل: "هل الوقت مناسبٌ للحديث عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان؟ علينا الاصطفاف مع حماس طالما أنّ الحرب الهمجية على غزة لا تزال مستمرة"، لكني أود الرد بتساؤلات أخرى؛ هل يحق لمن يدافع عن أرضه وأرض الجميع، أن يسبي طفلة ويستعبدها؟ وهل يخدم السكوت عن تلك الكارثة القضية الفلسطينية في شيء؟ وهل يخدم السكوت والصمت أحداً في شيء؟
منذ أيامٍ قليلة استشهدت الطبيبة الشابة رهف قميحية والأستاذ الدكتور شوقي العود مع زوجته وبناته الثلاث في غارة إسرائيلية استهدفت بنايتهم في دمشق، وكالعادة، الهدف مسؤول إيراني أو "حزباللاوي" يسكن تلك العمارة سيئة الحظ، ولاشك هنا أنّ إسرائيل هي المجرم الأول والسبب الأول في مقتل مدنيين أبرياء، ولكن من هو المسؤول الثاني؟ من يسمح بتواجد شخصياتٍ عسكرية يعرف الجميع أنها مُستهدفة من قبل أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم؟ ولماذا هذا الاستهتار بحياة المدنيين بهذا الغباء واللامسؤولية؟ فإن كانت إسرائيل تقتلنا فإنّ هنالك من يقدّمنا لها على طبقٍ من فضة.
لقد علّمتنا الأيام والتجارب المريرة التي خضناها في هذا الشرق المفعم بالحروب والنكسات والهزائم، أنّ أفضل طريقةٍ لتحييد المسائل الخطيرة والقضايا الإشكالية، تعريضها للتدقيق العام والمناقشات العلنية، لأنّ القمع والإخفاء والتجاهل سيؤدي لتفاقم خطرها لتدمر البلاد والعباد في نهاية المطاف.
والأهمّ أنّ ثبوت التهمة على المقاتل الحمساوي، وفق افتراض جدلي، لا يعني تعميم الفعل على جميع عناصر حماس أو بقية الفصائل الفلسطينية المسلحة، فليس كل السنّة دواعش وليس كل العلويين شبيحة وليس كل الشيعة حرساً ثورياً، وتجريم الرجل الفلسطيني لا يعني بأي شكل من الأشكال تبرئة إسرائيل، ولا يُستبعد أبداً أن تكون قصة الاعتداء على فوزية صحيحة، وفي الوقت نفسه استغلتها إسرائيل لغسل صورتها القذرة المضرّجة بدماء الأبرياء.
والأهم من كل القضايا والفلسفات والتحليلات والمقدسات والتوجهات والحذلقات والخطابات، أنّ هنالك الآلاف من الإيزيديات قد عانين من الاستعباد الجنسي، سواء بعقد زواج أو بغيره، وربما لا يزلن كذلك حتى لحظة كتابة هذا الكلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.