شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عملاق الأرز" بين كماشتيّ الفساد والأزمات… أي مستقبل ينتظر اقتصاد لبنان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 24 سبتمبر 202405:00 م

منذ الإعلان عن "دولة لبنان الكبير" تحت الانتداب الفرنسي عام 1920، تكرّر تعريف البلاد على أنها "معجزة اقتصادية" وسكانها "تجار بالفطرة" يتمتّعون بقدرات مالية مميزة. ففي حين وصف باحثون وغيرهم لبنان على أنه دولة ضعيفة ولا مركزية لا تستطيع أو لا تريد ممارسة سيادتها، رأوا فيه دولة تكمن قوتها الأساسية في حيويتها الاقتصادية. كما زرع الشعب اللبناني صورته الذاتية كتجار ورجال أعمال بالولادة، إلى أن أصبحت جزءاً من هويته الوطنية. ففي خمسينيات القرن الماضي وستينياته، اكتسب لبنان إشادة شعبية وإقليمية باسم "سويسرا الشرق الأوسط"، وعرّفه باحثوه بأنه "جمهورية التجار" وأشادوا باقتصاد السوق الحر الذي سمح له بالازدهار والعمل كجسر بين الشرق والغرب، لا سيّما في مجال الخدمات المالية.

الواقع أن لبنان، وخاصةً العاصمة بيروت، يتمتّع بميزة إقليمية نسبية وهي أنه قادر بشكل فريد على ممارسة دور الوساطة المالية الذي لا يمكن أي بلد آخر في الشرق الأوسط أن يؤديه. اشتكى نقاد من حين لآخر من أن اللبنانيين، من خلال إهمالهم صناعات الإنتاج المحلية، سمحوا فقط لقطاعات ضيّقة في المجتمع بالتمتّع بثمار "جمهورية التجّار". لكن بشكل عام، اعتُبر لبنان جزيرة من التعقّل والازدهار الاقتصادي والثقافة النابضة بالحياة في شرق أوسط "مظلم وفقير".

وغني عن القول إن ترويج هذه الرواية عن لبنان على أنها "قصة نجاح"، أغفل بشكل كبير نضالات معظم سكان البلد لتوفير متطلبات المعيشة الأساسية التي تتناسب مع كرامة الإنسان. الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 أفرغت "سويسرا الشرق الأوسط". لكن عندما انتهت الحرب في عام 1990، عادت صورة لبنان كمعجزة مالية واللبنانيين كشعب يتمتّع بمرونة وقدرات اقتصادية استثنائية إلى الظهور مجدّداً.

وعلى الرغم من أن عملية إعادة إعمار لبنان بعد الحرب – وبيروت على وجه الخصوص – تعرضت أيضاً للانتقاد، لا سيّما في سياق السياسات النيوليبرالية (والفاسدة)، التي وجّهت إلى رئيس الوزراء اللبناني "رفيق الحريري". بشكل عام، حتى عقد أو أقل من ذلك، تمكّن مصرف لبنان، بالتعاون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من تحقيق الاستقرار للاقتصاد اللبناني على الرغم من الصعوبات السياسية العديدة التي ابتُليت بها البلاد منذ عام 1990، وعلى رأسها سلسلة طويلة من الحكومات الفاسدة، وتأجيل الانتخابات، وسيطرة حزب الله على قطاعات مهمة في السياسة والمجتمع، وحرب إسرائيل على لبنان عام 2006، والحرب الأهلية السورية التي امتدت تبعاتها إلى دول الجوار وبخاصة لبنان الذي استضاف ما يربو إلى مليون لاجئ سوري.

غرق لبنان في مستنقع الفساد والهدر، فبينما تتهاوى الليرة اللبنانية وتزداد معاناة المواطنين، تستمر الطبقة السياسية في التمسك بسلطتها ومصالحها الضيقة. ففي خضم أزمة اقتصادية خانقة، لا يزال الهدر مستشرياً في القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع الكهرباء، الذي يبتلع أكثر من 37 مليار دولار سنوياً من إجمالي العجز البالغ 87 ملياراً

اقتصاد الحرب الأهلية في لبنان (1975- 1990)

تُحوِّل تجربة لبنان بين عامي 1975 و1990 انتباهنا إلى الاقتصاد السياسي للحرب الأهلية، وهو شكل من أشكال العنف الذي يعني انهيار الدولة، وبالتالي يكسر السلسلة السببية التي ربطت صنع الحرب بتوطيد الدولة في الكثير من الأدبيات حول هذا الموضوع. لكن ما يكشفه انزلاق لبنان إلى حرب أهلية ليس اندلاع عنف فوضوي غير منظم كنتيجة ثانوية لانهيار الدولة إذ ثبت أن العكس هو الصحيح.

فمن خلال أنشطة مختلف مجموعات الميليشيات، ظهرت شبكات واسعة الانتشار وواسعة النطاق من التنظيم الاجتماعي أثناء الحرب، حيث كافحت الميليشيات المتنافسة لبناء نظم مؤسسية والدفاع عنها من شأنها أن تسمح لها ليس فقط بالبقاء على قيد الحياة ولكن بإدارة المطالب التنظيمية والمادية والإنسانية لصنع الحرب، وتعظيم الفرص الاقتصادية التي أوجدتها الحرب والتعويض عن غياب الدولة وعدم توفيرها الخدمات الاجتماعية الأساسية لمجتمعات محددة.

وفّرت الميليشيات إطاراً مؤسسيّاً منظّماً إلى حد كبير حول المهام المترابطة المتمثّلة في الإكراه والافتراس حيث يطمح مع ذلك إلى تعزيز ممارسات الحوكمة الاقتصادية والسياسية التي من شأنها أن تتمتع بشرعية الدولة اللبنانية التي تسببت في انهيارها. في نهاية المطاف، فشل هذا الجهد، لكنه أثّر عميقاً على شكل الاقتصاد السياسي في لبنان ما بعد الحرب.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت الحرب الأهلية عن تنوّع هائل في الاستجابات التي ابتكرتها الميليشيات اللبنانية في أساليب هيمنتها الاجتماعية واستخراج الموارد، وارتباطها بمصادر الدعم الخارجي، والأهم من ذلك، علاقتها بالهياكل المتبقّية للدولة، فضلاً عن طريقة وصولها إلى الموارد المادية والرمزية لمؤسساتها.

ويمكننا تتبع الحالة الاقتصادية في لبنان فترة الحرب الأهلية بتقسيمها إلى عدة مراحل، وهي:

أولاً، مرحلة ما بين نيسان/ أبريل 1975، والاجتياح الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1982. وعلى الرغم من تخريب وسائل الإنتاج، خلال "حرب السنتين" - وهو مصطلح يُطلق على المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية - وانخفاض الناتج المحلي، فإن الدخل الفردي تابع مسيرة ارتفاعه، بسبب ارتفاع حجم تحويلات اللبنانيين المغتربين، الذين هاجروا بأعداد كبيرة ومتزايدة، للعمل في الخارج، خاصة في البلدان العربية النفطية، التي شهدت في هذه الفترة، أوسع مراحل النمو الاقتصادي وأكبرها.

هذا فضلاً عن تدفّق الأموال السياسية والمشابهة إلى لبنان. هكذا، تزامنت الحرب الأهلية اللبنانية، التي مثّلت قوة طاردة للعديد من فئات الشعب اللبناني، مع قوى الدفع إلى البلدان العربية، التي حرصت على اطِّراد نموّها. ومع أن مستوى الأسعار، سجل ارتفاعاً ملحوظاً، بالنسبة إلى السابق، إلا أنه بقي، بالمقارنة مع مستوى سعر صرف الليرة اللبنانية، ضمن حدود معقولة. يضاف إلى ذلك أن احتياطيات لبنان النقدية الأجنبية، ارتفعت بنسب واضحة، وسجّل ميزان المدفوعات فوائض كبيرة، ومتمادية، باستثناء عام 1976، الذي عُدّ عام التأقلم والتكيّف، والانتقال من أوضاع السلام إلى أوضاع الحرب.

ثانياً، المرحلة بين الاجتياح الإسرائيلي، في حزيران/ يونيو 1982، حتى نهاية أيلول/ سبتمبر 1988. وفيها شكّل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، نقطة تحوّل أساسية في مسار الاقتصاد اللبناني وأدائه، خلال الحرب. فهو، بما نتج منه من انهيار للركائز والمقومات الاقتصادية، ومن تحولات وتطوّرات سياسية جذرية، داخلياً وإقليمياً ودولياً ـ شكّل أحد أهم الأسباب الكامنة وراء الانهيار الاقتصادي. وخلال هذه الفترة، عرف لبنان أقسى مظاهر الحرب الأهلية (حرب الضاحية، إعادة انقسام بيروت وتفتت الجيش، حرب شرق صيدا ... إلخ)، الأمر الذي أدى إلى تهجير اللبنانيين داخل وطنهم، على نطاق واسع، وإلى المزيد من تفتيت السوق ووضع العوائق أمام انتقال البضائع والأشخاص.

كذلك، عرفت هذه الفترة محاولة عزل لبنان عن محيطه العربي، وربطه بإسرائيل، عبر اتفاق 17 أيار/ مايو 1983، وانحيازه، في مجال الصراع الدولي. وأخيراً، شهدت هذه المرحلة دخول الدولة اللبنانية، والجيش اللبناني، كطرف في الصراع الداخلي المسلح، على نطاق واسع، لم تعرفه البلاد من قبْل، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع هائل في النفقات الحكومية.

ثالثاً، فترة الحكومتَين، الواقعة بين أيلول/ سبتمبر 1988، وقيام الشرعية الجديدة، المنبثقة من وثيقة الوفاق الوطني، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1989. وقد عرفت هذه الفترة المزيد من تقسيم المؤسسات، الشرعية والرسمية، كما عرفت قدراً كبيراً من الهدم والهجرة الناجمين عن القتال العنيف الذي خاضه الجيش اللبناني بقياد ميشال عون آنذاك، تحت شعار ما أسماه "حرب التحرير".

رغم الاستقرار النسبي الذي تشهده الليرة اللبنانية حالياً عند مستوى 90 ألف ليرة للدولار، حذرت "ستاندرد آند بورز" من أن هذا قد يكون مؤقتاً ورسمت سيناريوهات قاتمة لتدهور قيمة الليرة اللبنانية، متوقعةً أن يصل الدولار إلى 115 ألف ليرة في عام 2025، ثم إلى 136 ألف ليرة في عام 2026، وصولاً إلى 152 ألف ليرة في عام 2027

رابعاً، الفترة الممتدة من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، إلى تشرين الأول/ أكتوبر 1990، شهدت البدء بعملية إعادة توحيد الجيش اللبناني، المنقسم منذ شباط/ فبراير 1984. خسر لبنان خلال هذه الفترة المزيد من وسائل الإنتاج والاستثمارات، وشهد هجرة واسعة للمهارات والمؤسسات، بسبب القتال الدائر بين القائد آنذاك للجيش، عون، و"القوات اللبنانية".

أمّا السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية، التي عاناها لبنان، فيرجع إلى التضخم النقدي إذ بدأ العجز الكبير، في أواخر عام 1982، وتحديداً مع بداية عام 1983. كانت نشأته الأولى بسبب ارتفاع النفقات العسكرية، من أجل تأهيل الجيش وزيادة عدده وتسليحه، بعد إقحامه في الصراعات الداخلية ابتداءً بحرب الجبل، خلال صيف عام 1983.

علاوة على النفقات العسكرية، اتّبع لبنان سياسة إنفاق توسّعية، شملت مشروعات تأهيلية، إنشائية، لم تكن لها أولوية اقتصادية أو اجتماعية، بل كانت دوافعها، في الغالب، سياسية وحزبية. الأمر الذي أدى إلى زيادة مُضاعفة في حجم الكتلة النقدية. فكان التضخم (بالنظر إلى انخفاض الناتج المحلي) حيث ارتفعت الأسعار، وانخفض سعر صرف الليرة اللبنانية. ومع ارتفاع الأسعار وانخفاض سعر صرف الليرة، ارتفع الإنفاق الحكومي و"الخاص"، خاصةً وأن جزءاً من هذه النفقات، كان بالعملات الأجنبية، التي ارتفعت أسعارها بالنسبة إلى العملة اللبنانية، ولا سيّما إثر تولّي حكومة الوحدة الوطنية، في ربيع عام 1984.

وهكذا، قفز العجز المالي للدولة قفزات كبيرة، بسبب ارتفاع النفقات، في البداية، وانخفاض الواردات، في ما بعد. فوصل لبنان، مع بداية عام 1985، إلى أعلى درجة من التضخّم. كذلك، أسهم في ارتفاع حدّة التضخم والأسعار، ارتفاع الإنفاق الناتج عن انخفاض الإنتاجية بشكل عام، وعن تفتيت السوق، والعوائق المصطنعة أمام الأشخاص والبضائع، وعن النفقة الإضافية، المتمثلة في انهيار الخدمات العامة، وزيادة الإتاوات والضرائب غير الشرعية، الناجمة عن نشوء وتسلُّط الوحدات الاقتصادية، التي لا تستند إلى الأهلية والإنتاجية والتنافس، وإنما إلى مجرد قربها من قوى الأمر الواقع.

وبدلاً من أن تعمد السلطات اللبنانية في حينه إلى اتّباع سياسات التصحيح، فتستوعب التطورات السلبية، وتخفّف من وطأتها وحدّة تفاقمها ـ اتّبعت سياسات زادت الأزمة حدة، إذ لجأت إلى انتهاج سياسات التصعيد. ففي مجال السياسة المالية، والنقدية على وجه الخصوص، مثلاً، عرف لبنان مفارقة عجيبة، إذ كلما كانت الدولة تنجح في تخفيض بعض نفقاتها (كما حدث عندما أُلغي الدعم على البنزين مثلاً)، كان يرتفع حجم عجز الخزينة بنسبة مضاعفة، بدل أن ينخفض. والسبب أن توفير بعض المال، نتيجة خفض النفقات، كان يدفع النخبة الحاكمة إلى الإنفاق في مجالات أخرى، مُستغلةً هذا الوفر في تبرير الإنفاق الإضافي.

وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى العوامل والتطورات الخارجية، السلبية، التي ترافقت وتزامنت مع هذه السلبيات الداخلية، وساعدت على تفاقم الأزمة الاقتصادية، مثل "حرب الخليج الأولى" بين العراق وإيران، وانخفاض أسعار النفط، أوائل ثمانينيات القرن الماضي، والانكماش الاقتصادي الناتج عنه، في الأقطار العربية النفطية، و"حرب الخليج الثانية"... إلخ. كما قُدِّرت خسائر الحرب المباشرة التي أصابت رأس المال الإنشائي والتجهيزي في القطاعين العام والخاص بنحو 25 مليار دولار أمريكي.

الاقتصاد اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1990 - 2024)

ربما تكون الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية في لبنان هي الأسوأ منذ اندلاع الحرب الأهلية. وحسب مقال نشرته منصة "صدى" التابعة لمؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي"، فإن الأزمة الاقتصادية تسبّبت في اندلاع احتجاجات حاشدة ضد الحكومة، ما أفضى إلى استقالتها في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019. وأدّى تدهور الأوضاع الاقتصادية وشح الدولار إلى فرض قيود على قيمة التحويلات بالدولار والليرة اللبنانية على السواء.

خلال وقت قصير، خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها، واضطر المواطنون اللبنانيون إلى إجراءات تقشفية شديدة في مواجهة الظروف الاقتصادية العسيرة، وبسبب خسارتهم لوظائفهم أو عجزهم عن تأمين لقمة العيش لعائلاتهم.

لكن عوامل الأزمة الاقتصادية لم تكن جديدة. ففي مطلع تسعينيات القرن العشرين، انتشر ما يسمى "الاقتصاد الريعي" في لبنان، حيث شهدت البلاد تضخّماً كبيراً في حجم الأموال المودعة في المصارف مقابل فوائد مرتفعة أنهكت الاقتصاد الحقيقي الذي لم يستفد إلا بالنزر اليسير من تلك التدفقات النقدية، وتحوّلت إلى عبء ثقيل على قطاعات الإنتاج.

وفي المقابل، ازدهرت المُضاربات العقارية وتوسعت الحركة في قطاع البناء الذي اعتمد على العمالة الأجنبية والموارد المستوردة. كما ازدادت هجرة الشباب بحثاً عن فرص عمل نتيجة فقر فرص العمل والاستثمارات المفيدة على أرض لبنان. وانعكست البنية الريعية الهشّة للاقتصاد الوطني على مدى سنوات بعد الحرب، بالإضافة إلى العجز والفشل والفساد والهدر وتحكّم الأوليغارشيات في معظم مفاصل الدولة السياسية والإدارية والاقتصادية، خروجاً من السوق المحلية لمعظم المصارف الأجنبية.

كما تفاقم العجز في الميزان التجاري نتيجة ضمور حجم الإنتاج الوطني وضعف قدرته التنافسية واتساع مروحة المستوردات السلعية التي قاربت قيمتها الـ20 مليار دولار في عام 2018 توازي 36% من إجمالي الناتج المحلي في حينه. فانخَفَضَت نسبة الصادرات من السلع، تدريجياً بمرور السنوات حتّى وصلت إلى نحو 15% فقط من قيمة السلع المستوردة خلال أعوام 2017 و2018 و2019. 

أما مشروع إعادة إعمار البلاد الواسع النطاق الذي شهدته لبنان في مطلع تسعينيات القرن العشرين، فقد فاقت تكلفته 18 مليار دولار، وكان الهدف منه تحويل لبنان إلى مركز إقليمي في القطاعات السياحية والعقارية والمالية. بدا الحلم قابلاً للتحقّق، فلبنان تحوّل إلى وجهة جاذبة للاستثمارات العربية والأجنبية. لكن هذا الازدهار كان هشّاً، مبنياً على رمال متحركة. فمعظم هذه الأموال كانت تأتي من الخارج، ما جعل الاقتصاد اللبناني رهينة لأهواء الأسواق العالمية والأزمات الإقليمية.

كذلك، توسّع النمو ليشمل مختلف المناطق اللبنانية، ما أدّى إلى زيادة المُضاربات وصولاً إلى الحرب السورية في عام 2011. فهبوط أسعار النفط العالمية، وما أعقبه من تباطؤ اقتصادي في الخليج، والحرب في اليمن، وقبلها الحرب في سوريا، كلها عوامل تسبّبت في زعزعة الأجواء السياسية والأمنية في لبنان. كما أدّى التباطؤ الاقتصادي في بلدان الخليج، وحرب اليمن وغيرها إلى تقويض القدرة الشرائية للسياح والمستثمرين في المنطقة. وأكثر من ذلك، تراجعت الإمكانات المالية للمغتربين اللبنانيين. وتسبّبَ التشنّج في العلاقات بين حزب الله ودول الخليج أيضاً في تراجع الدعم والإنفاق من مواطني تلك البلدان في لبنان الذي لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الاستثمارات والمساعدات الخليجية.

ولجأت الحكومة اللبنانية إلى إصدار سندات خزينة لتمويل إعادة الإعمار، مما دفع المصارف إلى رفع أسعار الفائدة بشكل كبير لجذب الودائع. هذه السياسة، وإن كانت قد حققت بعض النمو على المدى القصير، إلا أنها زرعت بذور أزمة اقتصادية عميقة. فارتفاع أسعار الفائدة حفّز المضاربات المالية، وركّز الثروة في أيدي قلة على حساب الغالبية العظمى من اللبنانيين. كما قلّصت هذه السياسة من قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على الحصول على التمويل، مما كبح النمو الاقتصادي وفاقم حدة البطالة. ونتيجة لذلك، عانى الاقتصاد اللبناني من ركود طويل الأمد، وتفاقمت أزمة الدين العام، مما زاد من هشاشة الاقتصاد. علاوة على ذلك، فشلت هذه السياسة في تنويع الاقتصاد اللبناني وجعله أكثر مرونة في مواجهة الصدمات الخارجية.

استمر الاستخدام الواسع للدولار في الاقتصاد اللبناني، وحافظ مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي. وتعرّض الاقتصاد اللبناني للكثير من الصدمات في أعقاب أحداث سياسية مزعزعة للاستقرار منها العدوان الإسرائيلي في عام 1996، واغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في عام 2005، والحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006 – وأفضت مجتمعةً إلى هروب الرساميل. وقد تسبّب تراجع التحويلات من الخارج، واستعمال احتياطي مصرف لبنان بالدولار لحماية الليرة اللبنانية، وهبوط معدلات النمو، في نزف صناديق الدولة اللبنانية. 

غرق لبنان في مستنقع الفساد والهدر، فبينما تتهاوى الليرة اللبنانية وتزداد معاناة المواطنين، تستمر الطبقة السياسية في التمسك بسلطتها ومصالحها الضيقة. ففي خضم أزمة اقتصادية خانقة، لا يزال الهدر مستشرياً في القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع الكهرباء، الذي يبتلع أكثر من 37 مليار دولار سنوياً من إجمالي العجز البالغ 87 مليار دولار. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد الفساد إلى مستويات قياسية، حيث تراجع تصنيف لبنان في مؤشر مدركات الفساد بشكل مريع من المرتبة 63 في عام 2006 إلى المرتبة 149 في عام 2023.

وفي ظل هذا الوضع المزري، زادت حدة الأزمة المالية، فالعجز في ميزان المدفوعات ارتفع بشكل كبير منذ عام 2011، ليصل إلى 18.5 مليار دولار في أواخر تموز/ يوليو 2019. وقد ارتفع العجز من 3.1 مليار دولار في عام 2014 إلى 6.2 مليار دولار في عام 2018، وفقاً لأرقام صادرة عن بنك بيبلوس.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن وكالة فيتش خفّضت تصنيف قدرة المصارف اللبنانية على الاستمرار من ccc- إلى f، مما زاد من حالة الهلع لدى المودعين.

يشهد لبنان انهياراً اقتصادياً متسارعاً، حيث باتت الدولة عاجزة عن تأمين أبسط الخدمات للمواطنين. فمع تراجع الإيرادات وتفاقم العجز، باتت رواتب الموظفين مهددة، وتوقفت العديد من الشركات عن العمل، مما زاد من معدلات البطالة. كما يعاني اللبنانيون من نقص حاد في السلع الأساسية، مما يهدد الأمن الغذائي والصحي.

بعد سنوات من التباهي بالنمو الاقتصادي، ظهرت الحقيقة المُرّة: اقتصاد هش مبني على الرمال المتحركة. فبدلاً من اقتصاد إنتاجي يعتمد على الصناعة والزراعة، كان الاقتصاد اللبناني يعتمد بشكل كبير على القطاعات الخدمية، وخاصة العقارات والسياحة، وهذه القطاعات بدورها كانت تعتمد على تدفق الأموال من الخارج

وينذر هذا الوضع بكارثة إنسانية، ويحمل في طياته مخاطر اجتماعية وأمنية جسيمة. فوفقاً لمصادر في وزارة المالية اللبنانية، يتحوّل عجز الحكومة عن تسديد رواتب الموظفين إلى واقع في الأشهر القليلة المقبلة، مع استمرار تراجع الإيرادات وتزايد النفقات. كما يشكو التجّار من عجزهم عن تمويل الاستيراد، مما أدى إلى نقص حاد في السلع الأساسية. ويشير تقرير للبنك الدولي إلى أن أكثر من 10% من الشركات اللبنانية أغلقت أبوابها في عام 2019، وأن أكثر من 22% خفضت أعداد موظفيها بنسبة 60%. فضلاً عن ذلك، تُشير تقارير إلى أن بعض أصحاب الشركات يدفعون نصف راتب لموظفيهم.

رغم الاستقرار النسبي الذي تشهده الليرة اللبنانية حالياً عند مستوى 90 ألف ليرة للدولار الواحد، حذرت وكالة "ستاندرد آند بورز" من أن هذا الاستقرار قد يكون مؤقتاً. ففي تقريرها الأخير، رسمت الوكالة سيناريوهات قاتمة لتدهور قيمة الليرة اللبنانية خلال السنوات القليلة المقبلة، متوقعة أن يصل الدولار إلى 115 ألف ليرة في عام 2025، ثم إلى 136 ألف ليرة في عام 2026، وصولاً إلى 152 ألف ليرة في عام 2027.

ويرجع هذا التوقع المتشائم إلى مجموعة من التحدّيات التي تواجه الاقتصاد اللبناني، أبرزها الأزمة السياسية المستمرة، وارتفاع الدين العام، وتفاقم المخاطر الأمنية، بالإضافة إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي وزيادة الدولرة.

وتأتي هذه التحذيرات من "ستاندرد آند بورز" لتؤكد التقييمات السابقة لصندوق النقد الدولي، الذي أكد في أيار/ مايو الماضي أن الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة اللبنانية غير كافية لإنقاذ البلاد من أزمتها المتفاقمة. وأشار رئيس بعثة الصندوق، "إرنستو راميريز ريغو"، إلى أن استمرار أزمة اللاجئين وتصاعد الصراع على الحدود الجنوبية للبنان، إلى جانب تداعيات الحرب في غزة، يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي المتدهور بالفعل.

بعد سنوات من التباهي بالنمو الاقتصادي، ظهرت الحقيقة المُرّة: اقتصاد هش مبني على الرمال المتحركة. فبدلاً من اقتصاد إنتاجي يعتمد على الصناعة والزراعة، كان الاقتصاد اللبناني يعتمد بشكل كبير على القطاعات الخدمية، وخاصة العقارات والسياحة، وهذه القطاعات بدورها كانت تعتمد على تدفق الأموال من الخارج.

توقعات المستقبل قاتمة، فحتّى مع إجراء الإصلاحات، فإن عملية التعافي ستكون طويلة وشاقة. الفساد المستشري، والهيكل السياسي الهش، والديون المتراكمة، كلها عوامل تعيق عملية الإصلاح.

على الرغم من كل هذه التحديات، يبقى الأمل موجوداً. فالشعب اللبناني، بعناصره الشابة وطاقاته الإبداعية، قادر على تجاوز هذه الأزمة. ولكن هذا يتطلب تضافر الجهود، والعمل الجاد، والإصلاحات الجذرية.

قصة لبنان هي قصة صراع بين الأمل واليأس، بين الإمكانيات الهائلة والتحديات الجسام. فهل يستطيع الخروج من هذه الأزمة ليولد من جديد، أم يبقى أسير ماضيه؟ الجواب عن هذا السؤال يعتمد على قدرة اللبنانيين على التكاتف والعمل معاً لبناء مستقبل أفضل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image