شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أنا حظي دايماً مدوحَس حتى في النسوان"… تلك القصيدة الممنوعة وعلاقتها بنجيب محفوظ وسرور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الثلاثاء 22 أكتوبر 202402:03 م

عندما نتحدّث عن أشهر القصائد المحظورة في تاريخ الأدب العربي الحديث، لا يمكن ألا نذكر قصيدة نجيب سرور أو "مَشْتمته"، التي كتبها وانتهى به الحال إلى دخول مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في العباسية على إثرها. تلك القصيدة التي أصبحت تُعرف بأسماء كودية كـ"الأُميات" أو "الكُميَّات" بإسقاط السين، حفاظاً على الحياء العام من الخدش.

يقول الصحافي والإعلامي إبراهيم عيسى: "عندما يمرض الشاعر يُصبح كنجيب سرور. فيكتب قصيدةً خارج حدود الأدب. فـ’الأميات’ هي علامة في تاريخ الإنسانية على الشاعر عندما يفلت منه عقله من شدّة حزنه واكتئابه وخيبة أمله في حبيبته وأصدقائه ووطنه. إنها قصيدة مريضة رغم فنّياتها".

ربما لاقت تلك القصيدة المحظورة ذيوعاً، لأنها تُغذّي الهوس البشري بالفرجة على حالة الشخص الذي "يُقطِّع بطاقته"، ويتعرّى على الملأ. والحقيقة أن "سرور" لم يكتفِ بتعرية ذاته فقط في تلك القصيدة، بل عرّى الجميع أيضاً على طريقة شخصية الشيخ حسني، التي لعبها الفنان محمود عبد العزيز، في فيلم "الكيت كات"، عندما استلَّ الميكروفون وفضح أهل حارته عن بكرة أبيهم.

ولأنه كما يقول فؤاد حداد "العطش يحلى مع المية"، ومع تعقّب الناس دائماً للفضائح أياً كان مستقرّها ومستودعها، فقد روى سرور ظمأ العطاشى لكشف الأسرار وفضح العار، لا سيما أنه يتحدَّث عن طائفة ترتبط في أدمغة المجتمع بصورة ذهنية سلبية كالفنانين والمثقّفين؛ لذلك كان الاحتفاء بهذه القصيدة والتعاطي معها مُضاعفاً عشرات المرات.

"يا عم سيبك بقى وقُل لي كلام ينفع

وكُ* أم الشرف نفّعني واستنفع

الفن يا عم بورصة يعني خد وادفع

ووَطّي أني** وصلّي ع اللي فيك يشفع".

عندما نتحدّث عن أشهر القصائد المحظورة في تاريخ الأدب العربي الحديث، نذكر قصيدة نجيب سرور، أو "مَشْتمته"، التي كتبها وانتهى به الحال إلى دخول مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في العباسية على إثرها

أزعم أن هذه القصيدة هي عُصارة إنتاج سرور الفكري والأدبي، إذ يمكن تفصيصها إلى قصائد عدة، كل قصيدة تطرح فكرةً ما، وهذه الفكرة متوازية مع خط إنتاجي أصدره في عملٍ آخر يمكن أن نصفه بـ"الجاد" أو بـ"المهذّب" بلغة الأخلاقيين. فليست القصيدة ببعيدة عما جاء في كتابه "هكذا قال جحا"، أو "بروتوكولات حكماء ريش"، من شرحٍ وتشريحٍ لأمراض النخبة المصرية، أو حالة البارانويا التي يتداخل فيها دون كيشوت وأبو العلاء المعري وهاملت في "لزوم ما يلزم"، أو اقتناعه الهوسيّ بنظرية المؤامرة وتغلغل اليهود وتوغلهم في المجتمعات العربية كما في مسرحيته "منين أجيب ناس".

إنها الأفكار والأطروحات نفسها، ولكن في قالب آخر، والفرق الوحيد أن قصيدة "الأُميات" ظهرت من دون ماكياج فقط.

ولكن المفارقة أن "سرور" هنا برغم تجرُّده التام من كلِّ الأكواد الأخلاقية، والتحرُّر الفني في استخدام الألفاظ وتطويع الشتائم و"الإباحة"، إلا أن القصيدة نفسها شديدة التقليدية في أفكارها، وتتبنَّى طُغمة من الآراء المحافظة والمُتخلفة أحياناً، فتربط مفاهيم أكثر تعقيداً، مثل الشرف والكفاءة المهنية بالنزاهة الجنسية، حتى يصير كل الفساد والعكّ والخراب المالي والإداري المُستشري مردّه إلى الانحرافات الجنسية فقط من وجهة نظره.

"وقلنا ننضف بقى قالوا بلا وكسة

والله لتحصل بدال النكسة ميت نكسة

بلد المنا*ك بلدنا الكل نا* فيها

شوف الخريطة تلاقيها فاتحة رجليها

ربّك خلقها كدا راح تعمل إيه فيها؟!".

وُلد الفتى الريفي، نجيب سرور، في قرية أخطاب في مركز أجا في الدقهلية، لأب يعمل موظَّفاً متوسط الحال. لكن ولأن الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح، أدرك الأب اهتمام ابنه بالأدب منذ الصغر، فأصرَّ على أن يُتمم، دوناً عن باقي إخوته، تعليمَه حتى يلتحق بكلية الحقوق، التي كانت حينذاك كلية الوزراء والسادة.

دخل سرور الحقوق، لكنه كان يعرف طريقه جيداً، فهو مخلوق للمسرح، لذلك سرعان ما التمَّ على شابين سيصيران في ما بعد من فطاحل المسرح العربي: كرم مطاوع، وسعد أردش. وبالفعل لم يستمر في الحقوق، والتحق بمعهد الفنون المسرحية، وهذه كانت بداية القطيعة بينه وبين أبيه وعائلته كلها.

ومع انتشاره في الوسط الثقافي، بدأ يتعرّف على أشخاصٍ من كلِّ شكلٍ ولون، لا سيما "الجماعة الحُمر"، فشاع عنه انضمامه إلى تنظيمات شيوعية وارتباطه بمجموعة من الشيوعيين الأقحاح، برغم عدم انخراطه في المجال السياسي أصلاً، خصوصاً أن وجهات نظره لم تكن تعدو كونها انطباعات ساذجةً وليست آراء مبنيةً على تحليلاتٍ عميقة.

وربما يكون انضمامه إلى التنظيمات الشيوعية التي كانت تحت أعين الأنظمة الأمنية وملاحقتها يُغذِّي لديه إحساساً بالأهمية والاضطهاد حتى رشَّحه النظام المصري لبعثةٍ لم يكن يحلم بها لدراسة المسرح في الاتحاد السوفياتي. وبالطبع عندما نقول إن النظام رشَّح أحداً لبعثةٍ كهذه، فهذا معناه أنه لا يرى أي خطر من ناحيته، ولكن كالعادة شطح عقل سرور، وتصوَّر أن النظام يريد إبعاده عن المشهد في مصر.

"عقود عمل ع القفا بس العمل برة

هاجر وسيب البلد مفروشة للغربان

يعنى يا إما السجون يا الشنق يا الهجرة

يا إما تهمة جنون يا العيشة ع الصلبان؟!".

نجيب سرور

عند ابتعاثه إلى روسيا، وجد الشيوعيين العرب يُعامِلون أفراد البعثة المصرية بعدائية باعتبار أنهم حصلوا على هذه البعثة نظير كتابتهم تقاريرَ في زملائهم أو شيء من هذا القبيل، ولعل هذا ما جعل سرور يُبالغ في إظهار شيوعيته، إلى درجة أنه ارتقى المنبر في أحد المؤتمرات، وخطب خطبةً عصماء عن الممارسات القمعية للنظام المصري، لينتشر الأمر في مصر، ويثير بلبلةً إلى درجة أن الحكومة سحبت منه الجنسية المصرية، وطالبت الاتحاد السوفياتي بترحيله، لكن الشيوعيين هناك دافعوا عنه بضراوة، فتماهى مع الوضع وزاد انشغاله بالسياسة على حساب دراسته التي هجرها تماماً.

كانت حالته وقتها صعبة جداً، واضطر إلى تشييع المراسيل إلى أبيه يستعطفه ليبيع فداناً من الطين ويبعث إليه بثمنه، ليجد ما يحصل به على أساسيات الحياة. لكن للأسف، رمى الأب طوبته، وأرسل إليه خطاباً مفاده: "أنا كان ليا ابن اسمه نجيب، لكن خلاص مات".

"صبرت ياما ولا أيوب ولا غيره

يارب تفرجها بس اعفيني م الت**يص

وتمرّ لأيام أقول الجوع ده من خيره

وبكرة تُفرج وبس ما أكونش م البلاليص".

وسط هذه الظروف الحالكة، التقى سرور بساشا الروسية، التي أحبها وتزوَّجها وأنجب منها ابنه شهدي، لكنه كان في أسوأ حالاته العصبية والنفسية حتى أنه اشتبك لسببٍ تافهٍ مع أحد الضباط الروسيين، واعتدى عليه بالضرب، ليتعرَّض للحبس ويتجرَّع أشد أنواع التنكيل والإهانة.

غلاف كتاب "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ" لنجيب سرور

بالتزامن مع هذا المرار الطافح، كتب سرور دراسةً نقديةً عن ثلاثية نجيب محفوظ الذي لم يكن ينال ما يستحق من حفاوة في الأوساط الثقافية المصرية، لأن معظم المثقفين المصريين كانوا يستنكفون وقتها عن تناول أعماله نقدياً، لأنه في نظرهم ليبرالي ووفدي مُحافِظ. ولكن شاءت الأقدار أن تصل كتابات سرور هذه المرة، إلى مصر، حتى أن صحافياً بارزاً مثل رجاء النقاش، اهتمّ بهذه الكتابات النقدية، وكتب عنه في الجمهورية، وتحدَّث مُتعجِّباً كيف يكون لدينا رجل بهذه الأهمية ونتركه مُشرَّداً هكذا، إلى آخر هذا الكلام المدهون بزبدة عن مصر التي لا يصحّ أن تترك بنيها مهما أساءوا أو أخطأوا، حتى كاد الرجل أن يقول: "خلاص رجّعوه بس المرة دي، وهو مش يعمل كدا تاني".

"السهرة سخنت وفاكرين الجدع دبور

طب تعمل إيه اللي هايجة ونفسها في الدور

ويعمل إيه اللي نفسه يحلّلي من غير نار

اللحس ليه انتشر؟!... علشـان مفيش إ**ار".

وبالفعل عاد سرور إلى مصر مُظفَّراً في عام 1964، باعتباره نجماً ساطعاً، وسرعان ما أصبحت مسرحيته "ياسين وبهية"، واحدةً من أنجح المسرحيات على الساحة الفنية، وانهالت الكتابات النقدية التي تُشيد بعبقريته، ولكن لعلّ هذه كانت بداية المأساة.

الحقيقة أن المرض النفسي تمكَّن من سرور في هذه الفترة تحديداً، خصوصاً وهو يرى بعينيه الفساد ظاهراً في البرّ والبحر. وبرغم اعتداده بنفسه، إلا أنه دائماً ما كان يتشكَّك بشأن موهبته نتيجةً لما يراه حوله من انعدام المعايير لأيّ شيءٍ، فضلاً عن الانتشار والنجومية الزائفة التي تُداخلها أشياء مثل المحسوبية والفساد والعلاقات المشبوهة. لذلك ربما اختلجه شعورٌ بأنه لا يستحق مكانته، فغلبت العدوانية على تصرفاته تجاه كلّ شيء، ففي نظره من يمتدحه ليس إلا منافقاً بالطبع، ومن ينتقده ليس إلا مزقوقاً عليه من المخابرات.

وفي حين استبدّ جنون العظمة بسرور الذي كان يعاني بشدة من الوحدة، خاصةً بعدما رفضت ساشا الرجوع معه إلى مصر، وفضَّلت الإقامة هي وابنهما في روسيا، وفي تلك الأجواء المشحونة المجنونة، ظهرت في حياته الممثلة الشابة سميرة محسن.

"أنا حظي دايماً مدُوحَـسْ حتى في النسوان

وعرفت شرمو** م الشرام** وقلت تتوب

التوبة تابت وهي في ك*ها سرطان

ميتوبش، يعنى الزنا على ك*ها مكتوب".

أظن أن اهتمام سرور بالتعرّف إلى سميرة محسن وحرصه على الزواج منها في تلك الفترة، لم يكن سوى نتيجة لكل هذه "البلاوي"، وليس السبب فيها.

يحكي الكاتب والمفكّر سيد كراوية لرصيف22، أحد شهود هذا العصر، أن سميرة محسن، كانت معروفةً بتعدد علاقاتها قبل زواجها من سرور، وربما هذا ما جعله مُصاباً بالهواجس، لذلك سألها ذات مرة: "لو اتعرض عليكِ أهم دور في السينما مقابل إنك تعملي علاقة مع حد غيري، هتوافقي؟"،

فأجابت: "المشكلة إني لو قلت لك لأ مش هتصدّقني، ولو قلت لك آه هتصدّقني".

لكنه أصرَّ على أن يسمع منها الإجابة، لتقول تحت ضغط هذا الإصرار: "السؤال ملوش لازمة لإني ما اتحطش في الموقف دا عشان أعرف هأقرَّر إزاي وقتها".

اعتبر سرور هذه الإجابة في حد ذاتها تأكيداً لهواجسه، سواءً تهيّأ لها الأمر أم لا.

والغريب أنه كان لديه تصوّر وهمي بأن سميرة محسن ابنة أخ أحد ضباط المخابرات، وهذا الظابط دفع بها إليه لكي تكتب فيه التقارير، فيقول:

"بلاش أقول أمّها.. طب شوفوا عمّها مين

تلاقوه يا عالم رئيس المكتب المخصوص

يعنى داسـسْها عليا يا ليل يا ن** يا عين

وأنا واخدها نيا*ة ولابس البعب**

شرمو* وطالق علينا ك* بنت أخوه

ومسلَّـطه ع الغلابة ن** وجاسوسية".

تقول بعض المصادر إنه كان يقصد منير محسن، وبرغم أنه كان هناك رئيس لمكتب مكافحة الشيوعية بهذا الاسم كما يقول الأستاذ سيد كراوية لرصيف22، لكنه أوضح أن سرور كان يقصد اللواء حسن المصيلحي، وعندما استنكرتُ أن يسرّح عمّ سميرة محسن، ابنة أخيه، حتى تتجسَّس على الشيوعيين، أجابني: "لا طبعاً مكنش مسرّحها عليه ولا حاجة، وهو لم يكن مطارداً أمنياً بالشكل اللي هو مصوّره في قصيدته، لكنه فعلاً كان مضطرب من الناحية دي حتى خلال فترة وجوده فى الاتحاد السوفياتي عمل مشاكل مع الأمن الروسى ومع الدارسين العرب. المصيلحي أصلاً كان تركيبة محافظة ورجعية فكان بيحتقر المجالين الفني والسياسي، هو دمياطي أساساً وهي برضه أصولها دمياطية.. فممكن يبقى فيه صلة قرابة معرفش مداها بالضبط".

الهزلي في الموضوع أن سرور نفسه لم يكن يُمثِّل خطراً من أي نوع على النظام في مصر حتى يهتموا به لهذه الدرجة، ثم إن الأسهل من كل هذا أن يمنعوه من العمل في المسرح، أو يزجّوا به في أيّ سجن بجانب إخوته في الواحات، خصوصاً أن دية أيّ مواطن مصري وقتها كانت متراً في متر سواء في زنزانة أو تُربة.

"أنا عارف إني هاموت موتة ما ماتها حد

وساعتها هايقولوا لا قبله ولا بعده

وبطانة بتقول يا عيني مات في عمر الورد

وعصابة بتقول خلصنا منه.. ها، مين بعده؟!".

سميرة محسن

بعد أشهر قليلة، بدأ سرور يعمل على تحويل رواية نجيب محفوظ "ميرامار" إلى عرض مسرحي من بطولة زوجته سميرة محسن، وعلى عكس عادة محفوظ، الذي لم يكن يحضر العروض المسرحية أو الأفلام المأخوذة عن رواياته، لكنه حضر هذا العرض المسرحي بالذات، وطار به فرحاً حتى أنه حرص على تحية سرور والممثلين بنفسه وشكرهم على المجهود المبذول في تحويل النص الروائي إلى عرض مسرحي بديع.

"مخرج.. ممثل.. مدير.. حتى الوزير نا*ها

حتى اللي أنا ياما عنه كتبت واسمه 'نجيب'

شوفوا حكاية الزنا دمغة على وراكها

وقولوا بعدي 'نجيب' ردّ الجميل 'لنجيب'".

هذه رواية نجيب سرور في قصيدته الشهيرة عما حدث، أما بالنسبة للفنانة سميرة محسن التي كتبت هذه القصيدة شهادة وفاتها الفنية تقريباً، فاكتفت بإنكار كل ما ادّعاه نجيب بشأنها، وفي آخر لقاءاتها في برنامج "الستات ما بيعرفوش يكدبوا"، وجهَّت إليها المذيعة سهيرة جودة، سؤالاً اعتيادياً من نوعية: "كنتِ نموذجاً للجمال، وكان فيه رجال كتير بتهيم بحضرتك إعجاباً وحباً، فحابين نعرف اتعرفتِ على الشاعر الكبير نجيب سرور إزاي؟".

بعد لحظات صمت وارتباك، أجابت سميرة محسن باقتضاب شديد: "ولو إني ما بحبش أتكلم عن المنطقة دي، لكن كنت باشتغل في مسرحية وابور الطحين، وكان هو المخرج، وللأسف اتلفّيت.. اتلفّيت"، ثم سرعان ما غيَّرت الموضوع.

لم يبقَ لنا سوى نجيب محفوظ. ولو أردنا معرفة وجهة نظره، علينا الرجوع إلى روايته "المرايا" التي كتبها بالتزامن مع بلوغ سن التقاعد؛ لأن هذه الرواية تتناول أشخاصاً عاشوا في حياته في قالب روائي، فتحدَّث عن علاقته بطه حسين وعباس العقاد وغيرهما ولكن بأسماءٍ مستعارة.

غلاف كتاب "المرايا" لنجيب محفوظ

وفي هذا السياق نُشير إلى أن الروائي طلال فيصل، عندما كتب سيرة نجيب سرور في روايته "سرور"، أحدث تخريجةً إبداعيةً ذكيةً، فضمَّن داخل روايته فصلاً كاملاً عن سرور باعتباره فصلاً محفوظياً محذوفاً من "المرايا" يتناول علاقة محفوظ وسرور واللقاء الذي دار بينهما في مستشفى العباسية وقصته مع سميرة محسن.

والحقيقة أن هذا الفصل مكتوب بلغةِ رواية محفوظ نفسها، بل إنه يحوي سطوراً وتعبيرات مأخوذةً نصّاً من قصص أخرى داخل "المرايا"، ولكن ما أظنه أن محفوظ لم يكتب هذا الفصل، خصوصاً أن فيه تصريحاً مبالغاً فيه على عكس طبيعة الرواية التي تستخدم أسلوب الظِلال والتداخل فضلاً عن الأسماء المستعارة.

"سرور" لم يكتفِ بتعرية ذاته فقط في تلك القصيدة، بل عرّى الجميع أيضاً على طريقة شخصية الشيخ حسني، التي لعبها الفنان محمود عبد العزيز، في فيلم "الكيت كات"، عندما استلَّ الميكروفون وفضح أهل حارته عن بكرة أبيهم

في المقابل، أعتقد أنه كان هناك بالفعل فصل في المرايا عن سرور ولكن باسم آخر، هو "عبده البسيوني"، لكنه لم يُنشر داخل الرواية، وإنما تجلت العلاقة الملتبسة بين النجيبين في فصلين، هما قصة "بلال عبده البسيوني" الذي ظهرت فيه ظلال شخصية شُهدي نجيب سرور، وقصة "أماني محمد"، بما فيها من ظلالٍ لشخصية سميرة محسن، حيث راودت بطلة القصة نجيب محفوظ عن نفسه ووقعت بينهما علاقة حميمية بالفعل، لكنه لجأ إلى حيلة روائية تطهُّرية، حيث زعم بأنه لم يكن يعرف أنها متزوجة من صديقه عبده البسيوني، لذلك بمجرد أن عرف بزواجهما، تملَّص منها بشتى الطرق، ثم تحدَّث عن مفارقة حدثت بينهما عندما جمعتهما الصدفة بعد سنوات عدة، فيقول: "كنتُ سائراً بشارع رمسيس أمام مبنى التليفون وجدت أماني، مُقبلةً نحوي على بُعد خطوات! وبحركة عفوية مددت يدي فصافحتني بلهوجة وارتباك أشعراني بتسرعي وخطئي، وهمست معتذراً: إن شاء الله تكونين بخير!

فأجابت وهي تمضي: الحمد لله.

تبدَّت مفرطةً في البدانة والرزانة، غير أنَّ ارتباكها أقنعني بأنها تعاني مسؤولية السيدة المتزمتة إذا ورَّطتها ظروف خارجة عن الإرادة في مصافحة رجل غريب".

وفي نهاية الفصل الوهمي الذي ألَّفه طلال فيصل، باقتباس نصّ من فصلٍ آخر بعنوان "ثريا رأفت"، يقول نجيب محفوظ عن سرور: "انقطعت عني أخباره فترةً ولم أشاهده إلا بعدها بشهور قلائل مصادفةً في ميدان طلعت حرب أوائل عام 1970، وكانت بصحبته زوجته الروسية وابنه، وتبدّى في صحة جيدة. وتذكّرت برؤيته جيلاً كاملاً قضت عليه طموحات ثورة كبرى، تذكرت عشرات وعشرات ممن تلاطمت بهم الحياة، وبرزت وجوههم وسط هالة من الغبار المُتعفِّن كما تبرز الحشرات في أعقاب انهيار بيتٍ آيلٍ للسقوط".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image