أقضي يومياً ثلاث ساعات في مواصلات القاهرة. بين طول الطريق وازدحامه، أحاول أن أستمتع بمشاهدي المفضلة، كرؤية زوجين عجوزين، أم وأطفالها، شاب وشابة يمشيان سويا ممسكين يدي بعضهما البعض، أو فتاتين يسندان رأس كل منهما على الأخرى وهما جالستان. مثل هذه اللقطات البسيطة هي ما تكسب للطريق معنى. لا يعكر صفوها غير ضوضاء المدينة المنبعثة من هنا أو هناك، أو أحاديث شابين يجلسان خلفي يعلقان على الفتيات السائرات في الشارع، تعليقات لا تخلو من الوصم المجتمعي والديني. أحاول دائماً أن أغلق إذني وأبقى على عيني فقط، لكن هذا ليس كافياً، فدائماً ما تلتقط العين الكثير من المشاهد الخانقة هنا أو هناك.
يقطع كل ذلك مشهد متكرّر: تصعد فتاة إلى الحافلة وجميع المقاعد ممتلئة والممر مزدحم، ولعلمي أن نسب التحرّش في مصر فادحة وفاضحة، يكون التخلي عن مقعدي واجباً.
ولكن حدث شيء جعلني أعيد حساباتي، فبينما أنا عائد إلى المنزل قرابة منتصف الليل، صعدت شابة -والمقاعد كلها ممتلئة والممر خال- وأثناء الطريق شعرت بعدم قدرتها على الثبات، بسبب عدم تمسّكها بالعامود المعلق في سقف الحافلة وذلك ربما لعدم رغبتها بتمديد جسدها للأعلى بفعل التمسّك.
لم يستمر هذا الموقف لأكثر من دقيقة، ولكنه أصاب ضميري بشيء ما، هذا الضمير الذي لم يستطيع تحريك جسدي، ولكنه قادر على إشعال روحي لن يتحمّل أكثر من ذلك، لذلك ارتأيت إعادة النظر فيما حدث لعلي أجد سبب العلة لمنع تكرارها.
محاولة لفهم ما حدث
كان السؤال الذي شغل حيزاً في عقلي، هو لمَ لم أترك لها الكرسي؟ لإن الممر خال؟ ولكن ماذا عن عدم اتزانها بسبب عدم ارتياحها لتمديد جسدها للأعلى؟ لمَ ركّزت على نقطة أن لا شيء يدفعني لمنحها الكرسي غير حمايتها من التحرّش؟ لأن كلينا متساويان في نظري؟ ولكن هل تساوي الحياة بيننا بالأساس؟
السؤال الذي شغل حيزاً في عقلي، هو لمَ لم أترك لها الكرسي؟ لمَ ركّزت على نقطة أن لا شيء يدفعني لمنحها الكرسي غير حمايتها من التحرّش؟ لأن كلينا متساويان في نظري؟ ولكن هل تساوي الحياة بيننا بالأساس؟
كان الخطأ أني لم أر إلا بعدستي كذكر، فالمرأة تشعر دائماً -وهو واقع وليس خيالاً- أنها محط الأنظار، للإمعان بجسدها وتفحّصه والنظر إليه بطريقة تشعرها بعدم الأمان. نسيت كل هذا وركزت على مبدأ أن كلينا متساويان في كل شيء وأن هكذا لن أصبح مثل الآخرين.
لقد فعلت -حتى لو بغير قصد- مثلما يفعل باقي الذكور الذين يتحوّلون لأطفال "يدبدبون" في الأرض عند سماعهم كلمتي "مساواة" أو "نسوية"، ويحاولون أن يخفوا انفعالهم بجملة لطالما سمعتها وذكرني الموقف السابق بها، وهي: "تريدين المساواة؟ إذا لن أتخلى عن كرسي المواصلات"، بل لدرجة: "ولا أريد أن أسمع أن الأطفال والنساء أولاً عند غرق الباخرة". انفعل وغضب لدرجة أنه ركب باخرة وأغرقها وأصبح يود أن ينجو بحياته أولاً.
أتعجّب من المطالبة الدائمة للمرأة بأن تتنازل عن متطلبات الزواج الباهظة، في ظلّ أن الرجل لا يريد أن يتنازل عن مكانته وسلطته الأسطورية التي ظل محتفظاً بها كل تلك الأعوام
وبالمثل، نجد الكثير من النقاشات المعاصرة، مثل من يدفع عند الذهاب في موعد غرامي؟ وربما النقاش الأكثر حميمية وسخونة الآن هو: هل تشارك المرأة في مصاريف المنزل مع الرجل؟ وتراجعت أصوات أن على النساء ألا تعمل فجأة وبدا أن عملهم ليس بأولية فقط، بل عليهم المشاركة بمالهن في المنزل، ومثل كل شيء تتبدل الآراء الذكورية والدينية لصالح خدمة الرجل ووضعه الاجتماعي.
ونلاحظ أن حتى استدعاء أن تشارك المرأة بالمال لا يأتي من باب المساواة بل يأتي بحجّة الحياة والأوضاع الصعبة، وحتى لو ذكر الرجل المساواة فهو يذكرها في إطار عقابي: "أنت تريدين المساواة فلتدفعي معي"، وكأنه يحاول أن يبتزها لعدم الحديث في مثل هذا الشأن، لأن الملاحظ أيضاً أنه لا يذكر "أن نتقاسم أعباء المنزل المالية مناصفة" في ظل "أن نتقاسم أعباء المهام المنزلية وتربية الأطفال".
هو يكتفي بذكر الجزء الخاص به، كما يفعل معظم الرجال عند الحديث عن المساواة، وكأنهم الطرف المهدور حقه الذي يبادر باستدعاء حقوقه أولاً، متناسيين عن قصد أن الكفّة غالبة لصالحهم.
يحاول بعض الرجال وضع عمل المرأة ومساهمتها في دخل المنزل مقابل منظومة القوامة والتملك، وأن له الحق في التحكم بها والسماح لها بالخروج من المنزل من عدمه، في فعل أشبه بـ "الإتاوة"، حيث يضع المال الذي تحصل عليه من وظيفتها مقابل السماح لها بالخروج والعمل، فإذا لم تريدي المشاركة بمالك، فلا عمل من الأساس ولتبقي في المنزل لتقومي بأعبائه كاملة، التي ستقومين بها سواء عملت أم لا، لكن إذا تمسّكت بحقك في العمل فلتدفعي مقابله.
في كتابها "الجنس الآخر" تحدثنا سيمون دي بوفوار، عن النظرة المتناقضة للرجال: "وهكذا يؤكد العديد من الرجال بنيةٍ صافيةٍ أن النساء مساويات للرجال وأنه ليس لديهنّ ما يطالبن به، وفي الوقت نفسه أنّ النساء لا يمكنهنّ مطلقاً أن يكنّ مساويات للرجل وأن مطالبهن عبثٌ. لأن من الصعب على الرجل أن يقّدر حجم التمييز الاجتماعي الهائل الذي يبدو في الظاهر لا قيمة له والذي تكون انعكاسته الأخلاقية والثقافية على المرأة عميقةً بحيث يمكن أن تبدو طبيعةً أصيلةً.
لا يعرف أكثر الرجال تعاطفاً مع المرأة وضعها المحسوس أبداً. وهكذا نصدق الذكور عندما يدافعون بحماسةٍ عن امتيازاتٍ لا يعرفون حتى مداها. إذن لن يخيفنا حجم الهجوم الموجّه ضدّ المرأة ولا عنفه، ولن يخدعنا الكلام المعسول الذي يمتدح (المرأة الحقيقية)، ولن يجرفنا حماس رجالٍ مهتمين بمستقبلها، وهم لا يريدون بأي ثمن أن يشاطروه معها".
فعلت مثلما يفعل باقي الذكور الذين يتحوّلون لأطفال "يدبدبون" في الأرض عند سماعهم كلمتي "مساواة" أو "نسوية"، ويحاولون أن يخفوا انفعالهم بجملة لطالما سمعتها وهي: "تريدين المساواة؟ إذا لن أتخلى عن كرسي المواصلات"
لماذا عليها أن تتنازل دائماً
عند الحديث عن الزواج مثلاً، يمارس الذكور "ثقافة القفز" المحببة لقلوبهم، فيقفزون إلى التساؤل، متجاوزين الأسباب الحقيقة التي أدت إلى الحال الذي جعل طرح تساؤلهم يبدو منطقياً، وفي ظل أنك لست ثعلباً يريد أن يفترس ما يستطيع افتراسه، كان سيتبادر إلى ذهنك أولاً: لماذا وصلنا إلى هذا الشكل من الزواج بكل هذه المتطلبات؟ فلتسأل إذن سؤالاً حقيقاً مدركاً أنك تعيش في مجتمع ذكوري هو من يساهم في إيصال الأشياء إلى حالها وتشكيلها بما هي عليه.
الملاحظ أيضاً أنه لا يذكر "أن نتقاسم أعباء المنزل المالية مناصفة" في ظل "أن نتقاسم أعباء المهام المنزلية وتربية الأطفال"
إن المتطلبات التي يراها البعض مبالغ فيها لبداية حياة بين شابين، وخاصة في مجتمعات تعاني اقتصادياً، ما هي إلا نتيجة منطقية وردة فعل مفهومة لنظرة غارقة في الذكورية للمرأة والزواج.
أتعجّب من المطالبة الدائمة للمرأة بأن تتنازل عن متطلبات الزواج الباهظة، في ظلّ أن الرجل لا يريد أن يتنازل عن مكانته وسلطته الأسطورية التي ظل محتفظاً بها كل تلك الأعوام، كالمثل الشائع "إذا أردت أن تحصل على الأحد فقدّم السبت"، لذلك على الرجل أن يقدّم ما يجعله هو والمرأة متساويين في كل شيء، وإيماناً راسخاً أن لهما نفس الحقوق والواجبات بدون أن يكون لأحد سلطة عليا على الآخر، ثم حينها ليتحدث عن جعل الزواج منطقياً ومتعقلاً، ومن الضروري الذكر أنه يجب صياغة -أو محاولة العمل على ذلك- هذا التساوي قانوناً وليس بالحديث فقط، فسعي الرجل من أجل جعل عملية الزواج ميسرة له تماشياً مع نظرة أن الزواج حق من حقوقه، فيجب عليه أن يسعى نفس السعي من أجل جعل وضع المرأة قانوناً مساوياً له، وهي معركة ربما يرفض أو يخجل أن يخوضها بعض الرجال.
ينسى البعض، أو يتناسون، أن هناك منظومة أكبر وقوانين ومجتمع يتحكم في كل شيء، وأن حتى التخلي عن منظومة القوامة من قبل الرجل، والتي هي خطوة واجبة على الطريق الصحيح، ليست أداة سحرية ستساوي الجميع بمجرد حدوثها، فيظل هذا فعلاً فردياً، بينما مازال هناك قانون ومجتمع يسير في الاتجاه المعاكس، لذلك بدلاً من صبّ الغضب على النساء أثناء محاولتهن الحصول على حقوقهن، يجب توجيه تلك الطاقة لإحداث تغيير مجتمعي حقيقي يقف فيه الجميع على أرض متساوية.
لا أود الحديث باسم النساء ولكن لو أمكن للمرة الأخيرة أن أرتكب هذا الخطأ، فأظن أنهن سيقلن بملء أفواههن: "خذ كرسي المواصلات وخذ مكاني على قارب النجاة ودعني أدفع ثمن العشاء كاملاً، لكن أعطني كل حقوقي المسروقة"
أحاديث غير نبيلة المسعى
استمراراً للعدسة التي يرى بها الذكور كل شيء من زاويتهم فقط، دائماً ما يتم استدعاء مقولة معلبة وهي "تريدون المزج بين منظومة الزواج بنمطها الشرقي والغربي". عبارة هدفها الأساسي محاولة إظهار المرأة ككائن انتهازي غرضه التربّح من كل شيء. هي محاولة للترهيب هدفها الإسكات، في ظل أن إذا كان هناك من يريد أن يحصل على كل شيء، فسيكون الرجل الذي يريد للمرأة أن تشاركه مادياً كصورة لمنظومة الزواج الغربي، بينما لا يشارك في أي أعباء أخرى كالصورة النمطية لمنظومة الزواج الشرقي.
بكل تأكيد الزواج يخلو في صميمه من الندية، وإذا تحول لمعركة يتم احتساب كل خطوة بداخله بعمليات حسابية، سيفقد قيمته ويتلاشى معنى الحب بداخله، والذي يفقدهم أيضاً لو تحول لعلاقة يهمين بها طرف على الآخر، لذلك يجب أولاً أن نعي أين نقف، ونبني على أساسه ما يترتب حالياً وما نطرحه من أسئلة وما نقدمه من إجابات، حتى نصل يوماً ما للعالم الذي لا نحتاج فيه للتفكير كثيراً في كيفية إدارة مثل هذه الأمور، لأننا وبكل بساطة نقف جميعاً على نفس درجة السلم.
وبالعودة لما بدأنا به، تظل الأزمة قائمة حتى يقتنع الرجال، بصورة أو بأخرى، بالامتيازات التي في حوزتهم.
عمّ نتحدث عندما نتحدث عن المساواة
في النهاية كان هذا الموقف مرآة جعلتني أعيد النظر في العديد من الأشياء، أن أدرك أن هناك خطأ، وأن طريقي لإصلاحه ينطلق من التراجع قليلاً للوراء وإفساح المجال للنساء لكي يتحدثن، ومن منطلق حديثهن أصنع عدسة لربما حينها أستطيع أن أرى العالم بصورة أدق وأكثر عدلاً، وربما تساهم في تحقيقه. وعندما تسود المساواة حقاً وتمنح النساء حقوقهن المسلوبة وعند احتسائنا الشاي، حينها لنتحدّث عمن يدفع العشاء أو عن عدم التخلي عن كرسي المواصلات.
لا أود الحديث باسم النساء ولكن لو أمكن للمرة الأخيرة أن أرتكب هذا الخطأ، فأظن أنهن سيقلن بملء أفواههن: "خذ كرسي المواصلات وخذ مكاني على قارب النجاة ودعني أدفع ثمن العشاء كاملاً، لكن أعطني كل حقوقي المسروقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم