منذ السابع من تشرين الأول/ أُكتوبر 2023، عملت إسرائيل وبدعم دوليّ، على استخدام ثقلها العسكري البرّي والجوّي في مواجهة الفصائل المسلحة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، وإدامة حربها على قطاع غزّة والجنوب اللبناني. وعلى الرغم من أنَّها أظهرت تنوّعاً ومراكز قوّة في جميع عملياتها، إلّا أنَّها لم تخرُج عن نطاق العمليات العسكريّة البرّية والجويّة والاغتيال المسلح. ولكن ما اختلف حديثاً، أنَّها بدأت مرحلةً جديدةً من العمليات، ربطت من خلالها الأهداف العسكرية بعمليات تكنولوجية-سيبرانية فاجأت من خلالها حلفاءها قبل أعدائها. فاستهداف أجهزة "البيجر" والـ"ووكي توكي آيكوم"، يُعدّ سابقةً نادرةً دخلت على خطّ الحرب، تداخلت مع عملية اختراق سيبراني استطاعت من خلالها إسرائيل إرسال أوامر إلى كل الأجهزة في وقت واحد، وسبق هذا وجود تكنولوجيا تفجير زُرعت داخل الأجهزة، وهو ما أشار إليه الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA)، ووكالة المخابرات المركزية (CIA)، إدوارد سنودن، الذي قال في تدوينة على منصة إكس، إنَّ السبب وراء الانفجار لا يمكن أن يكون قرصنةً فحسب، بل ثمة احتمال كبير بأنَّها "متفجرات مزروعة"، وعلّل ما قاله بأنَّ هناك العديد من الإصابات الجسيمة المتّسقة جدّاً، ولو كانت شدّة سخونة البطاريات هي السبب، لكان من المتوقع حدوث العديد من الحرائق الصغيرة أو فشل في الاحتراق".
العملية لم تكُن قراراً مفاجئاً اتّخذته إسرائيل، بل نتيجة قرار مع سبق الإصرار والترصد من خلال خطة ممتدة على مسار زمني وخطوات مدروسة. فوفقاً لمعلومات كشف عنها ثلاثة ضبّاط إسرائيليين مطّلعين على العملية لصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن شركة"BAC" التي مقرّها المجر، كانت جزءاً من واجهة إسرائيلية، بالإضافة إلى شركتين وهميتين أخريين على الأقل، تم إنشاؤهما أيضاً لإخفاء الهويات الحقيقية للأشخاص الذين يصنعون أجهزة النداء هذه، وكانت الشركة متعاقدةً لإنتاج الأجهزة نيابةً عن شركة "Gold Apollo" التايوانية، التي أكّدت مسؤولية شركة "BAC" عن تصنيع وبيع الأجهزة لحزب الله، وأنَّ طراز أجهزة النداء AR-924 التي انفجرت، يتم إنتاجها وبيعها بواسطتها، وهي تقدّم فقط ترخيص العلامة التجارية ولا تشارك في تصميم أو تصنيع هذا المنتج.
بدأت إسرائيل مرحلةً جديدةً من العمليات، ربطت من خلالها الأهداف العسكرية بعمليات تكنولوجية-سيبرانية فاجأت من خلالها حلفاءها قبل أعدائها. فاستهداف أجهزة "البيجر" والـ"ووكي توكي آيكوم"، يُعدّ سابقةً نادرةً دخلت على خطّ الحرب. كيف؟
وقال الضبّاط الثلاثة، إنَّ "BAC" تعاملت مع عملاء عاديين، وأنتجت لهم مجموعةً من أجهزة النداء العادية، لكن العميل الوحيد الذي كان مهماً هو حزب الله، وإن أجهزة النداء التي تنتجها كانت بعيدةً كل البعد عن كونها عاديّةً، إذ تم إنتاجها بشكل منفصل، وكانت تحتوي على بطاريات مملوءة بمادة "PETN" المتفجّرة، وبدأ شحنها إلى لبنان في صيف عام 2022، بأعداد صغيرة، لكن الإنتاج تم تكثيفه بسرعة بعد أن ندد نصر الله بالهواتف المحمولة: "هيدا الخلوي هو العميل".
يقول المدير التنفيذيّ لمنظمة الحقوق الرقمية" سمكس"SMEX ، محمد نجم، لرصيف22، إنَّ "العملية الأخيرة مزجت بين الهاردوير والسوفتوير، أي تم التلاعب بالبيجر وزرع عبوّة فيه، ثم تمّ إعطاؤه الأمر بالتفجير عن طريق رسالة، وتُحسب هذه الهجمة من الأقوى على حزب الله من إسرائيل في تاريخ الصراع بينهما، ولا شك في أنَّ ضرب هذه الشبكات الداخلية سيخفف طرائق التواصل بين عناصره".
وعن إمكانية السيطرة مستقبلاً على أنواع أخرى من الأجهزة كالهواتف، يرى نجم أنَّ "كل شيء ممكن، وليست هناك طريقة للحماية منها، فحتى لو لم يحمل الفرد أيَّ جهاز، يمكن أن يتواجد في مكان يوجد فيه جهاز ويشكّل خطراً عليه، وهذا سيفتح نقاشاً على مستوى العالم حول هكذا ممارسات وكيفية حماية المدنيين منها، وأنَّ ما قامت به إسرائيل جريمة وإرهاب".
*للشفافية: الصور مولّدة من رصيف22 بواسطة الذكاء الاصطناعي GROK 2
نقلت إسرائيل المعركة ضدَّ حزب الله من الأرض والجوّ، إلى استغلال بروتوكولات الاتصالات اللاسلكيَّة، وحوَّلت الأجهزة إلى أدوات قتل صامتة، ما ولّد العديد من التساؤلات عن الإمكانات التكنولوجية التي تمتلكها، ومستويات استخدامها في المرحلة المقبلة، ومدى الاختراق الداخلي للحزب. وقبل هذا كله، يُطرح التساؤل الأهم: ماذا تعني هذه العملية؟
العملية لم تكُن قراراً مفاجئاً اتّخذته إسرائيل، بل نتيجة قرار مع سبق الإصرار والترصد من خلال خطة ممتدة على مسار زمني وخطوات مدروسة.
يقول الخبير الأمني صفاء الأعسم، في حديثه إلى رصيف22، إنَّ "عملية تفجير أجهزة عناصر حزب الله من الناحية العسكرية ليست استباقيةً، وكان يجب أن تكون هنالك حسابات قبل استيراد الأجهزة، أو أخذ هذا الموضوع في الحسبان، إذ تبيّن أنّ الجانب الصهيوني كان مهيئاً لهذه العملية منذ أكثر من سنتين حسب المعلومات التي وردت، وتالياً كان هناك تنسيق مع الشركة المصنّعة والمصدّرة والجهة الناقلة، فهذه مؤشرات تشير إلى التفوّق العالي في تقنيات الأمن السيبراني لدى الكيان الصهيوني، والجميع يعلم بأنَّ إسرائيل هي الابن المدلّل للأب الروحي الولايات المتحدة الأمريكية، لذا أعتقد بأنَّ هذا الموضوع بإدارة أمريكية بحتة، لأنه من الصعب جدّاً على إسرائيل أن تخوض عمليات كهذه من دون موافقة أو اطّلاع من الجانب الأمريكي، لذا يجب أن يكون هناك تحذير في هذا الموضوع، لأن الخطورة الآن أصبحت لا تسمح لعمليات حزب الله بأن تتم، وهذا يؤشر على أنَّهم مخترَقون، بدليل أنَّ كل الذين ضُربوا في العملية الأخيرة هم بنسبة عالية جداً من حزب الله، أو من الذين لديهم أجهزة البيجر الخاصّة بتردد واحد يشمل تردّدات حزب الله".
ويضيف: "أعتقد أنَّنا دخلنا في مرحلة جديدة، وهذا لاحظناه في العراق، مثل محاولة الاغتيال الأخيرة التي حدثت في بغداد قبل أيّام، والتي حصلت عبر إرسال طرد بواسطة سائق توصيل، وعند استلامه تم تفجيره. إذاً نحن وصلنا إلى مراحل لا حاجة خلالها إلى المراقبة ونصب الكاميرات. هذه كلها تجاوزوها بهذه التقنيات، وأتصوّر أنَّ المرحلة خطيرة جداً في ظلّ التكنولوجيا الحديثة، والأمن السيبراني، والسيطرة على المعلومات وإمكانية معرفة التردّدات، لأنَّه يمكن الوصول إليها عبر أجهزة النقّال، واللاسلكي والبيجر، وتالياً كل الأجهزة الخاصة بالترددات وحتَّى على مستوى الإنترنت والواي فاي الموجودين في المنازل، لذا أصبح الموضوع مكشوفاً جداً ويجب أن يكون هناك حساب مستقبلاً، خاصةً في ما يخص المعارك".
المدير التنفيذيّ لمؤسسة "إنسم" للحقوق الرقمية، حيدر حمزوز، في حديثه إلى رصيف22، يقول إنَّ "التكنولوجيا دوماً في تطوّر والثغرات في الأنظمة هي دورة الحياة الطبيعية لتطوّر هذه التكنولوجيا، وتالياً فرص السيطرة على أجهزة الهواتف مُحتمل، ورأينا هجمات بيغاسوس سابقاً. أمَّا تفجير بطاريات الهاتف، فهذا يعتمد على كيميائية البطّاريات المُصنّعة، وما حدث في لبنان ليس خرقاً سيبرانياً فحسب، بل هناك تلاعب مُتعمّد بمادّيات الجهاز، ومنها البطّارية، ليتحول إلى قنبلة موقوتة".
ويضيف: "في ظلّ ظروف اقتصادية صعبة في تلك البلدان (العربية)، وتدهور الوضع الأمني، يمكن العبث بماديات الأجهزة في أي وقت، وهذا يضع الشركات المصنّعة أمام مسؤولية أكبر لضمان سلامة الأجهزة من أي شكلٍ من أشكال هذه الهجمات وضمان سلامة سلاسل التوريد. وبالنسبة إلى حادثة سقوط مروحية الرئيس الإيراني السابق، فلطالما كانت إيران بلداً مغلقاً، غير حرّ وبلا صحافة حُرّة، ولا يمكن الوثوق بالبيانات الرسميّة فقط. في ظل التوترات الموجودة في المنطقة، يمكن توقّع كل شيء سواء كان تدخّلاً داخلياً أو خارجياً".
ويتابع حمزوز: "رأينا في السنوات الأخيرة الاعتماد الكبير على التكنولوجيا من طائرات مُسيّرة وروبوتات وغيرها مما يُستخدم كأدوات في الحرب والتصفية، ويقلل من الخسائر البشرية، والأدوات العسكرية والكلفة العالية. ما حصل في لبنان هو إرباك للوضع الداخلي للحزب، يقدّم درساً قاسياً ولكنَّه مهمٌّ في تقليل الحزب من اعتماده على التكنولوجيا والعودة إلى التواصل التقليدي والمواجهات العسكرية المباشرة".
ويكمل: "تأثير هجمة البيجر على طرائق التواصل داخل حزب الله يمكن أن يكون عميقاً، إذ استهدفت فعلاً البنية التحتية الاتصالية الحيوية للتنظيم. حزب الله يعتمد على منظومة اتصالات معقّدة ومنظّمة لضمان سلاسة التواصل بين مختلف أفراده ووحداته، سواء على مستوى القيادات أو الفرق الميدانية، وتالياً سيكون هناك تأثير مباشر على العمليات العسكرية للحزب، وتقلّ الثقة بالتكنولوجيا وتزداد الكلفة اللوجستية".
وعن الخسائر التي تكبّدها حزب الله اثر هذه العملية، وتحليلات المرحلة المقبلة، يرى الأعسم أنَّ "الأشياء التي خسرها حزب الله لا يمكن تحديدها، ولكن المعلومات التي وصلتنا، هي أنَّ هناك معرفةً دقيقةً بأماكن تواجد أعضاء حزب الله، وخير دليل على الكلام هي عملية اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، التي حصلت في المقرّ الرئاسي وفي الطابق المحدد، بحيث لم تتم إصابة أي من الحرّاس الإيرانيين الموجودين لحراسة الدار، وهذه مؤشرات تدل على أنَّ الأمور وصلت إلى كشف كثير من المعلومات وهويات العناصر. يجب أن تكون هناك دراسة أكثر عن هذا الموضوع تحديداً من قبل حزب الله أو الجهات التي لديها خلافات مع الكيان الصهيوني، لأنَّه وكما ذكرت الابن المدلل لأمريكا".
عن إمكانية السيطرة مستقبلاً على أنواع أخرى من الأجهزة كالهواتف، يرى نجم أنَّ "كل شيء ممكن، وليست هناك طريقة للحماية منها، فحتى لو لم يحمل الفرد أيَّ جهاز، يمكن أن يتواجد في مكان يوجد فيه جهاز ويشكّل خطراً عليه". ما العمل إذاً؟
ويتابع: "لا أعتقد أن العملية الأخيرة ستكون ممهّدةً لاجتياح عسكري صهيوني، لأنَّ هناك اعتراضات حتى على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأمر. حتى أنَّ أميركا أبدت رفضاً للسلوك الذي حدث من إسرائيل، وهناك امتعاض كبير على مستوى دول العالم ممَّا حدث، وقد رجّ الخبر الكثير من الدول الأوروبية التي تربطها علاقات ومصالح قوية بلبنان، لذا لا أتصوّر أن يكون هناك اجتياح عسكري، ولكن المحتمل هو أن يكون هناك ردّ قادم من قبل حزب الله، وهذا الرد سينعكس سلبياً على الحزب، لأنَّ إسرائيل ستضرب بقساوة أكثر، إلا أنّ الأمور ستتجه نحو التهدئة في هذه الفترة تحديداً، خاصَّةً بعد زيارة قائد قوّة القدس إسماعيل قاآني إلى العراق واجتماعه بالإطار التنسيقي، وتهدئته لفصائل المقاومة، والاتصال بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وقياداته".
هذه العمليات ومثيلاتها كانت تتم مشاهدتها في الأعمال السينمائيّة وأفلام العمليات الهجومية الخيالية، لكن لم تَعرض مشاهِدُها سوى طرائق تنفيذها ونجاحها، دون كيفيّة الحذر منها ومواجهتها، ربَّما لأنَّ من أخرجها لم يكن لديه توقّع بأنَّها ستحصل واقعاً في يوم من الأيام، لذا فإنَّ السيناريوهات كافة مطروحة خاصةً المتعلقة بهجمات من نوع جديد في نطاق التكنولوجيا، والتي يصعب توقّعها ومعرفة تأثيراتها على المدنيين والمنشآت المدنية في ما لو حصلت، وتالياً تصعب عملية إيجاد لقاح وقائي منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين